- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تونس على مفترق طرق: ما هو دور الولايات المتحدة في عالم متعدد الأقطاب؟
من خلال إقرار الولايات المتحدة بحدود نهجها التقليدي القائم على "بناء الكتل"، تجد نفسها مضطرة للتكيف مع هذا الواقع متعدد الأقطاب. فتبنّي تعددية الأقطاب كمبدأ أساسي في سياستها الخارجية يمكن أن يمهد الطريق أمام ارتباطات دولية أكثر مرونة وفعالية.
في المشهد العالمي اليوم، أفسحت الانقسامات الواضحة من حقبة الحرب الباردة المجال أمام شبكة معقدة من التحديات وعالم متعدد الأقطاب يتسم بديناميكيات تنافسية. ويتطلب هذا التحول نهجًا دقيقًا من جانب الولايات المتحدة، والابتعاد عن السعي إلى الهيمنة من خلال تحالفات واسعة النطاق ضد خصوم مثل الصين، بما أن هذه الاستراتيجيات قد تُصعد التوترات في عالم يفتقر إلى الاستقرار ثنائي القطب الذي كان سائدًا في الماضي. وفي عملية إعادة التشكيل العالمية هذه، يكتسب دور "الدول المتأرجحة" مثل تونس أهمية غير مسبوقة.
في خضم الاضطرابات السياسية التي يشهدها شمال أفريقيا، تقف دول مثل تونس عند مفترق طرق حاسم، إذ تُقيّم مزايا تحالفاتها القائمة منذ وقت طويل مع الدول الغربية مقابل الآفاق المغرية لتوطيد العلاقات مع القوى الشرقية، ولا سيما روسيا والصين.
وفي هذا السياق، لم تعلن الولايات المتحدة بعد عن موقفها النهائي بشأن التعامل مع دول مثل تونس، التي تشهد تزايدًا في النزعات الاستبدادية وبروزًا متزايدًا للمشاعر المعادية للغرب. ويثير هذا الغموض تساؤلات مهمة حول النهج الاستراتيجي الذي تتبعه واشنطن في منطقة عالقة بين الانتماءات التاريخية والإغراءات التي تقدمها الشراكات الجديدة.
تونس دولة متأرجحة
تشهد علاقات تونس مع أوروبا توترًا بسبب خلافات أيديولوجية واقتصادية وهيكلية، تجلّت في تعليقات وزير الخارجية التونسي نبيل عمار، الذي انتقد الاتحاد الأوروبي على خلفية "الشعور بالتفوق الذي يعاني منه".
أدى الاستياء المتزايد في تونس من السياسات الأوروبية، والذي تفاقم من جراء قضايا مثل أزمة الهجرة، إلى تصعيد التوترات وتسليط الضوء على الحاجة الماسة إلى فهم علاقات تونس الخارجية المتطورة وسعيها إلى تنويع تحالفاتها. وقد نتج من توتر هذه العلاقات سيناريو أدى فيه اعتماد الاتحاد الأوروبي على تونس لإدارة الهجرة إلى منح رئيسها الاستبدادي قوة تفاوضية كبيرة. وتعني هذه القوة ضمنًا أن الاتحاد الأوروبي قد يكون ميالًا إلى التغاضي عن ممارسات الحكم الخاطئة وتجاهل المطالبات بالإصلاحات الاقتصادية، مقابل التعاون المستمر بشأن قضايا الهجرة.
وهذا يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين الضرورات الجيوسياسية ومبادئ الحكم الديمقراطي، ما يؤكد أن هذه لحظة حاسمة بالنسبة إلى تونس والدول المماثلة فيما تتعامل مع الفرص والتحديات التي يطرحها النظام العالمي الذي يشهد تغيرًا.
إذا قامت تونس، وهي حليف مهم من خارج منظمة "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") وشريك أمني للولايات المتحدة، بتغيير تحالفاتها، قد لا يتحول مشهد القوى العالمية تحولًا جذريًا. لكن هذا التحول يمكن أن يعزز بشكل ملحوظ موقف روسيا الاستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط. وتجري مناقشة جدوى هذا التحول المحتمل وتداعياته الأوسع نطاقًا في تونس، ويتم دفعه قدمًا في ظل ترسيخ الحكم الاستبدادي في البلاد، والذي يؤدي فعليًا إلى تهميش المعارضة المتمثلة بالنخب التونسية وأي شكل من أشكال المعارضة.
إن اصطفاف تونس شبه الكامل إلى جانب الجزائر التي أصبحت أكثر جرأة، مدعومًا بارتفاع أسعار الهيدروكربونات خلال النزاع الأوكراني، يسلط الضوء على نية الرئيس قيس سعيد في ممارسة الحكم أحادي الجانب، من دون التشاور. وتجلى هذا التحول بشكل صارخ عندما خرق الحياد التونسي من خلال ترحيبه بإبراهيم غالي، الذي يقود جبهة "البوليساريو"، وهي جبهة تحرير الصحراء الغربية المتخاصمة مع المغرب، كما لو كان زعيم دولة. ويشكل ذلك خروجًا واضحًا عن التزامات تونس التاريخية وقيمها الديمقراطية، ما يشير إلى أن الدولة توشك على إعادة اصطفاف جيوسياسي كبير وليست مجرد مشارك سلبي في النظام العالمي.
يعكس هذا الوضع الدقيق في تونس التعقيدات الأوسع نطاقًا للسياسة العالمية الحالية، لا سيما الخطاب المستمر بشأن دور الولايات المتحدة وهيكلية النظام الدولي. على الرغم من التعاظم الظاهر في نفوذ الدول النامية على الساحة الدولية، تبقى البراعة العسكرية والقوة الاقتصادية مركزة في الغالب بيد القوى الغربية التقليدية والصين.
لم توضح الحرب في أوكرانيا التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة لناحية تشكيل تحالف عالمي موحد فحسب، بل جسدت أيضًا النهج الحذر الذي تتبعه دول "الجنوب العالمي"، التي تعمل على موازنة تحالفاتها استراتيجيًا وسط تغير الجيوسياسة العالمية. وهذا التحرك نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث تشهد التحالفات إعادة تقييم مستمرة، يمهد الطريق لانخراط روسيا المتزايد في شمال أفريقيا.
فضلًا عن المصالح التجارية، تؤكد طموحات روسيا لإنشاء قواعد عسكرية في مواقع استراتيجية في جميع أنحاء ليبيا ومصر والجزائر وربما تونس، عزمها على توسيع نفوذها. ويمكن لهذه التطورات أن تعزز بشكل كبير استعراض القوة الروسية في البحر الأبيض المتوسط، ما يحوّل انخراط تونس مع روسيا إلى عامل محوري قد يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في المنطقة.
ومن خلال إقرار الولايات المتحدة بحدود نهجها التقليدي القائم على "بناء الكتل"، تجد نفسها مضطرة للتكيف مع هذا الواقع متعدد الأقطاب. فتبنّي تعددية الأقطاب كمبدأ أساسي في سياستها الخارجية يمكن أن يمهد الطريق أمام ارتباطات دولية أكثر مرونة وفعالية. ويستلزم ذلك إقامة مجموعة متنوعة من الشراكات الثنائية والصغرى، وإبرام اتفاقيات تجارية منصفة، وتشجيع الحلفاء على الاضطلاع بدور أهم في الدفاع عن أنفسهم. لا تعترف هذه الاستراتيجية بتعقيدات النظام العالمي الحالي فحسب، بل تدعم أيضًا نهجًا أكثر تعاونًا واللامركزية في التعامل مع العلاقات الدولية، ما يرسي أسس الاستقرار والتعاون في عالم مترابط بشكل متزايد.
في هذا السياق، يستوجب التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وتونس، الذي يعكس أهمية تونس كحليف بارز من خارج "الناتو" ومساهم في الأمن الإقليمي، مناقشة عاجلة وشاملة. فهذا التحالف، الحاسم وإنما المعقد نظرًا لتحفظات الولايات المتحدة بشأن إدارة الرئيس سعيد، يوجه التحليل العام لمناورات تونس الجيوسياسية وتداعياتها، ما يؤكد الحاجة إلى تبني منظور متوازن بشأن مداولات تونس الاستراتيجية وتأثيرها المحتمل على البحر الأبيض المتوسط وخارجه.
إن انخراط تونس مع القوى الشرقية، بما في ذلك مبادراتها للانضمام إلى مجموعة البريكس والتقرب من روسيا والصين، يعكس سعيها إلى إقامة شراكات اقتصادية متنوعة وتعزيز استقلالية سياساتها. ويبسّط اعتبار إجراءات تونس دليلًا على انفصالها الحاسم عن التحالفات الغربية، بشكل مبالغ فيه النهج الدقيق الذي تتبعه البلاد في تعاملها مع العلاقات الخارجية. فاستراتيجيات تونس الجيوسياسية، في ظل انتخابات عام 2024 وسعيها إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، تسلط الضوء على التوازن الدقيق الذي تسعى إلى الحفاظ عليه بين تحالفاتها التقليدية وشراكاتها الجديدة. لكن التهديد الوشيك بالانهيار الاقتصادي، والذي تعاظم بسبب تردد الرئيس في الموافقة على شروط صندوق النقد الدولي سعيًا منه لتجنب التفويضات الخارجية، قد يحفز تونس أكثر على النأي بنفسها عن العلاقات الغربية. وفي ظل هذا الوضع، قد يضطر الرئيس سعيد، بعد إعادة انتخابه، إلى دراسة العروض الاستراتيجية، مثل منح روسيا قاعدة عسكرية أو فتح أحد المرافئ التونسية أمام الصين، لتكون بمثابة شبكة أمان مالي. تسلط هذه المناورة الضوء على الدوافع المعقدة التي توجه نهج تونس تجاه العلاقات الدولية وتؤكد استراتيجيتها متعددة الأوجه للانخراط على المستوى العالمي. واليوم، تبدو البلاد عالقة في مستنقع من صنعها، بحيث يبدو الطريق إلى التعافي بعيد المنال من دون مساعدة الشركاء العالميين. لا يؤكد ذلك أهمية التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في هذه الأوقات العصيبة فحسب، بل يسلط الضوء أيضًا على الحاجة الملحة إلى تضافر الجهود من أجل حماية ركيزة تونس الصناعية في بيئة اجتماعية اقتصادية أصبحت هشة وقابلة للاشتعال.
الديناميكيات بين الولايات المتحدة وتونس: التدهور المحتمل للعلاقات الثنائية
شكل تبوء قيس سعيد السلطة في تونس منعطفًا كبيرًا في مسار البلاد بعد ثورة عام 2011، مسلطًا الضوء على التحول مما اعتُبر في الماضي اقتصاد واعد جدًا إلى اقتصاد أصبح الآن مهمشًا. وقد ظهرت الشعبوية ردًا على النظام الذي فقد مصداقيته والفراغ الناجم عن افتقار الاتحاد الأوروبي إلى الإرادة السياسية للتعامل مع تونس.
من خلال استخلاص العبر من تجارب الماضي، يتعين على المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة وحلفاؤها، التعامل مع تونس بما يدعم القيم الديمقراطية والتنمية المستدامة. تتوافق إعادة إرساء الديمقراطية في تونس بشكل أساسي مع المصالح الأمريكية، لا سيما وأن نزعة الرئيس سعيد الاستبدادية تطرح تحديات أمام الشراكة الموثوقة مع واشنطن.
بما أن سعيد هو ديكتاتور غير عقلاني ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته، تواجه الولايات المتحدة قيودًا في الاعتماد على إدارته للتعاون المستمر. وعلى الرغم من أن واشنطن تتمتع ببعض النفوذ، ولو كان من غير الواضح إلى متى، يشير المشهد السياسي المتطور في عهد سعيد إلى خطر وشيك بقطع العلاقات، ما يؤكد الحاجة الملحة إلى الدعم الأمريكي لاستعادة الديمقراطية. إن تونس الديمقراطية لن تكون حليفاً مستقراً يمكن التنبؤ بتصرفاته فحسب، بل ستتوفر لها سُبل للمشاركة الاقتصادية، وستكون قادرة على التصدي للتعديات الاستراتيجية للمنافسين مثل روسيا والصين، وتتوافق مع الموقف الأمريكي المبدئي بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويستلزم الوضع نهجًا أمريكيًا استباقيًا لتعزيز المؤسسات الديمقراطية والمجتمع المدني في تونس، ما يضمن بقاء البلاد راسخة في المعسكر الديمقراطي ومتوافقة مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
لكن لا يمكن التغاضي عن خيبة الأمل السائدة لدى التونسيين من التحول الديمقراطي في بلادهم، والذي يُنظر إليه على أنه فوضوي وهدر كبير للموارد. ويسلط هذا الشعور الضوء على التحدي المتمثل في تعزيز الديمقراطية حيث لم تلبِّ النتائج المباشرة توقعات السكان في ما يتعلق بالاستقرار والازدهار ومكافحة الفساد.
على ضوء ذلك، يمتد نفوذ الولايات المتحدة فعليًا إلى ما هو أبعد من المشاركة الدبلوماسية التقليدية ليشمل قوتها الناعمة والتطلعات المصاحبة للحلم الأمريكي، لا سيما بالنسبة إلى رواد الأعمال والمهنيين الشباب. فجاذبية الولايات المتحدة كنموذج للنجاح الاقتصادي والابتكار يمكن أن تشكل أداة قوية لإعادة إحياء الأمل والاهتمام بالقيم الديمقراطية، شرط أن تقترن بفرص ملموسة للتونسيين للمشاركة الاقتصادية والاستفادة من هذه العلاقة.
في هذا السياق، يمكن للولايات المتحدة أن تقدم، بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي، اقتراحًا شاملًا يهدف إلى إقامة علاقة ذات منفعة متبادلة مع تونس، من خلال الاستفادة من المحفزات الاقتصادية وفرص التنقل لتشجيع عودة البلاد إلى مسار التحول الديمقراطي. ومن خلال توفير فوائد ملموسة مرتبطة مباشرةً بمعالم الإصلاح، تسعى المبادرة إلى دعم تطلعات الشعب التونسي إلى مجتمع ديمقراطي مزدهر، ويتوافق مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها في تعزيز الاستقرار والديمقراطية في المنطقة. ويمثل هذا العرض مزيجًا متوازنًا من الدعم والمشروطية، يهدف إلى تسهيل رحلة تونس نحو الاستقرار الاقتصادي والحكم الديمقراطي.
ومن خلال التركيز على هذه الجوانب، يمكن للولايات المتحدة الاستفادة من قوتها الناعمة ليس لدعم التحول الديمقراطي في تونس فحسب، بل لمعالجة خيبة الأمل أيضًا من خلال عرض الفوائد العملية للديمقراطية والأسواق المفتوحة. ويمكن أن يساعد هذا النهج في سد الفجوة بين مُثُل الديمقراطية والتطلعات الاقتصادية الملموسة للشعب التونسي، ما يجعل مفهوم الحكم الديمقراطي أكثر جاذبية بالنسبة إليه وأكثر ارتباطًا بحياته اليومية.