- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2632
المشروع النووي المصري الباهظ الثمن
تفيد بعض التقارير أن مصر على أعتاب وضع اللمسات الأخيرة على قرض روسي للبلاد بقيمة 25 مليار دولار لبناء محطة توليد طاقة نووية مدنية بالقرب من الضبعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وبينما ستساهم هذه المحطة الجديدة إلى حد ما في تلبية حاجات مصر من الطاقة على المدى الطويل، إلا أن ثمنها الباهظ يشير إلى وجود دوافع أخرى، مثل تعزيز المكانة السياسية للحكومة في الداخل وتوسيع علاقاتها الأجنبية إلى ما يتجاوز واشنطن.
قصة قطار الأنفاق تتكرر في مصر
واصلت مصر تعزيز قدراتها النووية منذ "ثورة الضباط الأحرار" عام 1952، وهي حملة لم تكن مثمرة حتى الآن إذ أصبحت تُعتبر كذر رماد في العيون على النطاق المالي حتى أكثر من سعي مدينة نيويورك الذي دام عقداً بكامله لبناء سكة قطار جديدة تحت مانهاتن. فقد كانت القاهرة قد أعلنت للمرة الأولى عن رغبتها في بناء المحطة في الضبعة عام 1983 في ظل حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وبعد عامين من ذلك وافقت الحكومة الأسترالية على تزويدها باليورانيوم. إلاّ أنّ هذه الخطط أًلغيت عقب كارثة تشيرنوبيل عام 1986، وبدلاً من ذلك وضعت مصر نصب أعينها تطوير احتياطاتها من الغاز الطبيعي، التي سرعان ما حلت محل النفط وأصبحت مصدر الوقود الرئيسي لتوليد الطاقة الكهربائية.
وأعادت القاهرة إحياء اقتراح الضبعة النووي عام 2006 لكنّها واجهت معارضة رجال الأعمال الذين وقفوا إلى جانب "الحزب الوطني الديمقراطي"، إذ أرادوا تطوير المنطقة لأغراض سياحية، واصطدمت أيضاً بمعارضة القبائل المحلية التي شعرت بالقلق من آثار هذا الاقتراح على سلامتها. وساهم خلع مبارك من منصبه عام 2011 في تأجيل هذه الخطط مرةً أخرى.
حل باهظ الثمن لمشكلة غير قائمة
في خلال السنوات العاصفة التي أعقبت رحيل مبارك، عانت مصر من انقطاعات كبيرة في التيار الكهربائي. وازداد الطلب للكهرباء نتيجة النمو السكاني السريع والدعم السخي الذي قدمته الحكومة في مجال الطاقة، فيما انخفض العرض نظراً للهجمات الإرهابية على خطوط أنابيب الغاز. وساهم هذا النقص في وقوع المزيد من الاضطرابات السياسية التي بلغت ذروتها في تموز/يوليو 2013 عندما تمت الإحاطة بأول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر، زعيم جماعة «الإخوان المسلمين» محمد مرسي، مما فرض في النهاية وقف صادرات الغاز.
وقد ساهم الرئيس عبد الفتاح السيسي في تقليص هذا النقص عبر خفض الدعم الحكومي على الغاز بعد شهر من توليه منصبه في حزيران/يونيو 2014، ومن ثم توقيعه عقود جديدة متعلقة بإمدادات توليد الطاقة بالغاز والطاقة الشمسية وتوربينات الرياح طوال العام الذي تلا ذلك. ونتيجة لذلك، ارتفعت القدرة الإنتاجية الكهربائية من حوالى 27 ألف ميغاواط في حزيران/يونيو 2013 إلى 32 ألف في أيار/مايو 2015. أما اليوم، فيفوق الإنتاج المصري الطلب، إلا أن الحكومة استمرت في توسيع قدرتها استباقاً للنمو الديمغرافي والصناعي المرتقب.
والآن، تشكل المنشأة النووية المقترحة في الضبعة إحدى هذه المحاولات الرامية إلى تلبية احتياجات الطاقة المصرية في المستقبل. وتنطوي المرحلة الأولى من المشروع على بناء أربعة مفاعلات من الجيل الثالث قادرة على إنتاج ما مجموعه 4800 ميغاواط في خلال السنوات الاثنتي عشرة القادمة، علماً أنّه يمكن للموقع أن يتّسع لأربعة مفاعلات إضافية. وسوف تقوم شركة "روساتوم" الروسية الحكومية للطاقة النووية ببناء المفاعلات، حيث أن القرض الذي تبلغ قيمته 25 مليار دولار سيموّل نسبة 85 في المائة من المشروع، بينما ستغطي القاهرة ما تبقى. وستسدد القاهرة القرض في النهاية بفائدة تبلغ 3 في المائة، وذلك على فترة تمتد على اثني وعشرين عاماً بدءاً من عام 2029.
وبينما تعتبر شروط القرض مواتية نسبياً، إلا أن الخطة النووية غير فعالة بتاتاً من حيث التكلفة مقارنة بصفقات الطاقة الأخرى التي وقّعتها القاهرة في السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، ستضيف الصفقة التي عقدت العام الماضي بقيمة 9 مليار دولار مع شركة "سيمنز"، لبناء محطات توليد الطاقة من الغاز والرياح، 16400 ميغاواط إلى الشبكة الكهربائية المصرية، أي ما يفوق إنتاج المحطة النووية المقترحة بثلاث مرات مقابل تكلفة تبلغ ثلث ثمن المحطة النووية المقترحة. وعلاوة على ذلك، اكتشفت شركة "إيني" الإيطالية حقل غاز «ظهر» العملاق على طول ساحل مصر الشمالي في آب/أغسطس 2015، فيما اكتشف الفرع المحلي لشركة "بي پي" ("بريتش پتروليوم" سابقاً) حقلاً ضخماً ثانياً في منطقة البحر الأبيض المتوسط في وقت سابق من هذا الشهر. وستكون عملية استخراج هذه الموارد أكثر فعالية من حيث التكلفة من بناء المحطة النووية، لاسيما وأن حوالي ثلاثة أرباع كهرباء مصر مولّدة من الغاز الطبيعي، وأنه من المحتمل أن تضطر مصر إلى الاستمرار في استيراد الغاز حتى بعد افتتاح حقل «ظهر» نظراً إلى تراجع إنتاج البلاد من الغاز.
كما تعتبر اتفاقية الضبعة سلبية مقارنة بمشاريع نووية أخرى تقام في المنطقة. ويقدّر "المسح الاقتصادي للشرق الأوسط" ("ميس") أن مصر ستدفع في نهاية المطاف 6.1 مليار دولار مقابل كل جيجاوات من الطاقة المولدة، بينما ستبلغ تكلفة المحطتين الإيرانيتين الجديدتين في "بوشهر" 5.5 مليار دولار/جيجاوات، وتكلفة مفاعلات الإمارات العربية المتحدة في "البركة" 3.6 مليار دولار.
بالإضافة إلى ذلك، ستشكل عملية تسديد القرض الروسي تحدياً مالياً طويل الأمد نظراً للنقص الذي سُجل مؤخراً في احتياطي مصر من النقد الأجنبي وللعجز المتزايد في الميزانية. ووفقاً لـ "المسح الاقتصادي للشرق الأوسط"، ستضطر القاهرة إلى دفع ما يعادل 70.3 مليار دولار إلى موسكو من حيث القيمة الإسمية، أو ما يقارب 3.2 مليار دولار سنوياً.
وسيزيد المشروع أيضاً من اعتماد القاهرة على الخبرة الفنية الروسية. ففي تصريحات نشرتها صحيفة "الوفد" في 31 أيار/مايو، أقر نائب رئيس "هيئة محطات الطاقة النووية" في مصر أن البلاد لا تمتلك عدداً كافياً من الخبراء لتشغيل المحطة الجديدة وإدارتها، ولذلك سيتعيّن على الطاقم الروسي القيام بتشغيلها على مدى السنوات العشر الأولى.
مشروع آخر يدعو إلى الافتخار
على الرغم من هذه التكاليف والتحديات، تمضي حكومة السيسي قدماً في هذا المشروع لأنها تعتبر أن المحطة النووية إشارة مهمة لشريحتين من الناس. أولاً، هي تأمل أن يعزز المشروع الدعم الداخلي لها. وقد قال السيسي في مقابلة تلفزيونية رئيسية في 3 حزيران/يونيو إن "هذا الموضوع لا يتعلق بمفاعل [نووي] فحسب، بل بالمصريين... وبدلاً من أن نكتفي بمشروع واحد يمكننا أن نبتكر 100 [مشروع آخر]. أحاول أن أنجز هذا الأمر بسرعة لأكون فعالاً ولأعطي الأمل - بتضييق الفجوة بين ما نحن عليه الآن وبين ما نصبو إليه". وفي هذا الصدد، تتّبع الخطة النووية النمط نفسه الذي طبع مشروع توسيع قناة السويس الذي أنجز في خلال عام واحد وافتُتح في آب/أغسطس الماضي.
ثانياً، يريد السيسي أن يوسّع نطاق تواصل القاهرة الخارجي ليتجاوز علاقتها الثنائية التي لا تزال فاترة مع واشنطن. فقد جددت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تقديم مساعدات عسكرية كاملة إلى مصر في آذار/مارس 2015، بعد أن كانت قد حجبت عنها معدات باهظة الثمن لمدة سبعة عشر شهراً احتجاجاً على حملة القمع التي تلت الإطاحة بمرسي. إلا أن عدم ثقة القاهرة بالإدارة الأمريكية ما زالت قائمة بسبب دعم الأخيرة السابق لثورة 2011 ونظراً لتعاونها مع الحكومة برئاسة «الإخوان المسلمين»، التي لم تدم طويلاً. وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من تحسّن التعاون العسكري منذ انعقاد جلسات "الحوار الاستراتيجي" الثنائي في العام الماضي، يرى المسؤولون المصريون أن انتقادات الولايات المتحدة المستمرة لسجل القاهرة المتدهور في مجال حقوق الإنسان هي بمثابة تدخل في الشؤون الداخلية لبلادهم. وألمح السيسي إلى هذه المشكلة في المقابلة التي أجريت معه في 3 حزيران/يونيو، بقوله إن علاقة مصر مع واشنطن "قوية على الصعيد الاستراتيجي" إلا أن "مبادئ السياسة التي انتهجتها لثلاثين عاماً لم تعد تصلح الآن".
ووفقاً لذلك، يشكل المشروع النووي بشكل جزئي محاولة لإظهار أن القاهرة "منفتحة على العالم أجمع"، وفقاً لما قاله مؤخراً مسؤول مصري رفيع المستوى لكاتب هذه المقالة. وسعياً إلى العثور على شريك للمشروع، طلبت القاهرة عروضاً على نطاق واسع، فتلقت مقترحات من الصين وكوريا الجنوبية قبل أن تختار روسيا. ومن خلال قبول القاهرة لقرض موسكو وتكليفها شركة "روساتوم" للقيام بمهمة بناء المفاعلات، فإنها توطّد روابطها مع روسيا، علماً أن هذه الأخيرة - التي اتخذت موقفاً مختلفاً عن ذلك الذي اتخذته واشنطن - قد دعمت السيسي بحرارة بعد الإطاحة بمرسي وباعت المعدات العسكرية إلى مصر في خلال فترة التعليق المؤقت للمساعدات الأمريكية.
احتمالات منخفضة للتسلح
ليس هناك ما يدل في الوقت الحاضر على وجود أهداف عسكرية للمشروع النووي المصري. ولطالما كانت القاهرة تؤيد بشدة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية منذ سبعينيات القرن الماضي، كما يلقي المسؤولون المصريون الضوء على حق البلاد في امتلاك الطاقة النووية بموجب "معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية" التي وقّعت عليها عام 1968 وصدّقت عليها عام 1981. وشدد السيسي في خطاب ألقاه في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بعد الإعلان للمرة الأولى عن ولادة صفقة الضبعة، على أن المشروع النووي هو "لأغراض سلميّة".
ويقيناً، أن الحسابات المصرية قد تتغيّر إذا اكتسبت ايران القدرة على امتلاك أسلحة نووية، ولاسيما أن السيسي كان قد أعلن عن التزامه بحماية الحلفاء الخليجيين من المخاطر الخارجية. ولهذا السبب، يجب على واشنطن أن تسعى للحصول على ضمانات مفادها أن المفاعلات الجديدة ستستخدم لأغراض تتعلق حصراً بالطاقة. وفي الوقت نفسه، عليها أن تراقب بيقظة التزام إيران بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة» من أجل طمأنة حلفائها العرب السنّة ومنع انتشار الأسلحة النووية.
الانعكاسات على السياسة الأمريكية
نظراً لاهتمام واشنطن بالاستقرار الاقتصادي في مصر وبآفاق السياسة الخارجية، فلديها ما يكفي من الأسباب لتكون قلقة إزاء المشروع النووي. فالقرض الروسي الهائل يشكّل عبئاً اقتصادياً كبيراً ومن المرجح أن يعزز نفوذ موسكو لدى القاهرة على المدى البعيد. وفيما نجحت حكومة السيسي في العثور على موارد طاقة جديدة لتلبية احتياجاتها المتزايدة، إلا أن المحطة النووية تُعتبر نهجاً غير فعال بتاتاً من حيث التكلفة.
ومع ذلك، على المسؤولين الأمريكيين التصرف بحذر، كما فعلوا إزاء مشروع توسيع قناة السويس في العام الماضي. فطالما أنّ المشروع النووي يهدف إلى تعزيز مكانة الحكومة المحلية وإلى "إعطاء الأمل" على حد قول السيسي، فإن أي استخفاف علني يصدر عن واشنطن قد يؤدي إلى نتائج عكسية، ومن المحتمل أن يعزز انعدام الثقة الذي دفع القاهرة إلى قبول القرض الروسي في بادئ الأمر. وبتعبير أوضح، يعني انعدام الثقة المستمر منذ فترة طويلة أن انتقاد واشنطن العلني للمشروع لن يردع القاهرة من المضي قدماً في تحقيقه على أي حال.
اريك تراغر هو زميل "استير ك. واغنر" في معهد واشنطن.