منذ فترة طويلة، يتابع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي خامنئي، مسألة أسعار البنزين عن كثب. لذلك عندما قرر نظامه رفع هذه الأسعار في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، لم يستخف النظام بهذه المسألة. ويدعم هذا الافتراض الطريقة التي ردّت بها السلطات الإيرانية على الاضطرابات الناجمة عن ذلك، من بينها الرد الشخصي لخامنئي والإغلاق الفوري شبه الكامل لخدمات الإنترنت في البلاد. ومن بين التأثيرات الأخرى، لم يترك التعتيم على الإنترنت للجهات الخارجية سوى القليل من المعلومات الموثوقة حول حجم الاحتجاجات. وعلى الرغم من أن الأمريكيين الإيرانيين الذين تحدثوا إلى أقاربهم في إيران يُبلغون عن قيام مظاهرات واسعة النطاق وعلامات استياء شعبي عميق من الجمهورية الإسلامية، إلّا أن التغيير السياسي يبدو أقل احتمالاً من السيناريوهات الأخرى بالنظر إلى مدى الاستعداد الجيد للنظام لاحتواء المعارضة.
قضية قابلة للاشتعال
لطالما دعمت إيران أسعار البنزين، ولكن الإجراء الأخير أعاد من جديد اعتماد نظام التقنين، من خلال استخدام بطاقات شراء الوقود المطلوبة للسيارات منذ آب/أغسطس. ويُسمح الآن لكل سيارة خاصة بشراء 60 لتراً (حوالي 15 غالون) من الوقود شهرياً بسعر 15 ألف ريال للتر الواحد (حوالي 46 سنتاً للغالون الواحد)، بالمقارنة مع السعر القديم البالغ 10 آلاف ريال. ويمكن لسيارات الأجرة والشاحنات الخفيفة شراء 300 لتر. وأي وقود يتم شراؤه بما يتجاوز تلك الكميات أصبح يكلّف الآن ضعف ثمنه السابق. وفي آذار/مارس 2018، قدّر تقرير لـ "صندوق النقد الدولي" أن دعم الوقود يكلف 1.6 في المائة من "الناتج المحلي الإجمالي" للبلاد في العام الإيراني 2017/2018.
يُشار إلى أنّ انخفاض الأسعار أدّى إلى ارتفاع معدلات استهلاك الوقود نسبياً في إيران ـ على سبيل المثال، هو أعلى بعشرة أضعاف من معدلات الاستهلاك في تركيا، التي هي بلد أكثر ثراء مع عدد أكبر من السكان. ويعود هذا التناقض جزئياً إلى قيام الإيرانيين بتهريب الوقود إلى الدول المجاورة التي يدفع سكانها أسعار وقود مرتفعة. (على سبيل المثال، تبلغ هذه الأسعار أكثر من عشرة أضعاف في باكستان وتركيا).
لقد اعتمدت الحكومة الإيرانية تقنين الوقود لأول مرة في حزيران/يونيو 2007. وفي كانون الأول/ديسمبر 2010، رفعت الأسعار بما يكفي لإنهاء الدعم - أي زيادة قدرها 300 في المائة للسعر المُقنن و 75 في المائة لغير المُقنن. ولكن عندما هبطت قيمة الريال الإيراني في 2012-2013، لم يتم تعديل السعر، وبالتالي عاد الدعم. وقد أدى إدخال الحصص التموينية كما أدت الزيادات الحادة في الأسعار على حد سواء إلى عدة أيام من الاحتجاجات في ذلك الوقت، ولكن ليس على نطاق أعمال الشغب الأخيرة.
خامنئي مكترث لأسعار الوقود
في الخطاب الذي ألقاه المرشد الأعلى في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر حول الاضطرابات، ذكّر خامنئي الجمهور مراراً وتكراراً بافتقاره إلى "المعرفة"، و"الخبرة" و"الرأي" فيما يتعلق بإنتاج الوقود، واستهلاكه، وتقنينه. ومع ذلك، فحتى من خلال إلقاء نظرة خاطفة على تصريحاته على مر السنين نرى أنها تكشف عن اهتمام عميق بهذه القضية، وقلق كبير ومعرفة بها أيضاً. فغالباً ما ذكَر قراءته "تقارير" حديثة و "دراسات" و "إحصائيات" حول الموضوع، مما يشير إلى أنه على دراية جيدة بالتفاصيل. وقام أيضاً بزيارة العديد من مراكز أبحاث صناعة البترول، ومصانع الإنتاج، ومرافق التكرير، تلقى خلالها إحاطات إعلامية متعمقة.
بالإضافة إلى ذلك، أثار خامنئي مراراً وتكراراً مخاوف بشأن ارتفاع معدل استهلاك الوقود في إيران خلال العقدين الماضيين، وانتقد التبذير المجتمعي كونه السبب في ذلك. كما يميل إلى وضع إطار لمبادرات التقنين ضمن إطار "اقتصاد المقاومة" الذي ينادي به لتوجيه إيران بعيداً عن الاعتماد على صادرات النفط والاستثمار الغربي.
ففي 14 حزيران/يونيو 2016، على سبيل المثال، قدّم ملاحظات مفصّلة حول الحد من استهلاك الوقود كوسيلة لتعزيز صادرات إيران من المنتجات النفطية المكرّرة. وفي 29 آب/أغسطس 2018، تحدث باستفاضة مع الرئيس حسن روحاني وحكومته حول إنتاج الوقود والاكتفاء الذاتي، وندّد مجدداً بارتفاع معدل الاستهلاك بينما أمر الحكومة بالمضي قدماً في اتخاذ إجراءات صارمة على الرغم من المخاوف التي عبّرت عنها بعض فئات المجتمع الايراني. وفي الواقع، منذ عام 2007 على الأقل، شجع خامنئي الحكومات المتعاقبة على التحلي بالشجاعة والقيام بواجباتها من خلال تقنين استهلاك البنزين و "ترشيد" سياسة الأسعار.
وقد حققت إيران أخيراً الاكتفاء الذاتي من البنزين في أواخر العام الماضي. ومع ذلك، كان معدل الاستهلاك المحلي المتزايد يجعل العودة إلى مخططات استيراد الوقود أمراً لا مفر منه.
أوجه تشابه مع العراق ولبنان
تحمل الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف أنحاء إيران تشابهاً كبيراً مع تلك التي وقعت في لبنان والعراق. وكما في هذين البلدين، يميل المتظاهرون الإيرانيون إلى رفض النظام السياسي ككل، مستخدمين شعارات تعكس الاعتقاد الشائع بأن النظام معطّل. ويجادلون بأن فقط أولئك الذين لديهم صلات كبيرة يستفيدون من النظام، في حين يعاني الناس العاديون وتتدهور الخدمات الحيوية. فعلى مدى عقود، اكتسب النظام قوة كبيرة من توجيه السخط نحو الحملات الانتخابية، سواء لدعم الإصلاحيين أو الشعبويين. ومع ذلك، فيبدو أن هذا النهج قد وصل إلى نهايته - فهناك القليل من الدلائل على الاهتمام الشعبي بالانتخابات البرلمانية القادمة في شباط/فبراير 2020 أو الانتخابات الرئاسية في 2021، وليس هناك شخصية مهمة تقدّم برنامج سياسي يقترح الكثير في طريق التغيير.
وهناك تشابه آخر مع لبنان والعراق وهو أنّ الاحتجاجات الإيرانية عفوية إلى حد ما وليست منسّقة من قِبَل حركة منظمة. والسبب وراء ذلك واضح: إن أي منظمة من هذا القبيل قد تشهد قمعاً شديداً في البلدان الثلاثة، يشمل اغتيال قادة الاحتجاج. وبالتالي، ليس لدى المتظاهرين وسيلة لتقديم مطالب منظمة، ناهيك عن التفاوض حولها مع السلطات. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن لهذه الاحتجاجات بلا قيادة أن تحدث تغييراً سياسياً هاماً.
وهذا صحيح بشكل خاص في إيران، حيث الدولة أقوى بكثير من بغداد أو بيروت، وهو اختلاف جوهري. فالجمهورية الإسلامية تتبنى إيديولوجية واضحة المعالم، تؤمن بها إيماناً عميقاً الأقلية التي تدعمها بقوة، ومفادها أنّ الاحتجاجات هي مؤامرة أمريكية للإطاحة بالنظام. وبدافع من اعتقاد المتشددين الإيرانيين القائم منذ مدة طويلة بأن واشنطن تستخدم "الثورات الملوّنة" ("ثورة ملوّنة" مصطلح يطلق على أعمال الحركات والعصيان المدني وأعمال الشغب أو الحركات المطلبية في بعض الدول وخاصة المناوئة منها للغرب) لإسقاط الأنظمة المعادية، فقد ادّعى هؤلاء بأن للولايات المتحدة يد وراء قيام الاحتجاجات التي تمتد من فنزويلا إلى هونغ كونع، ناهيك عن العراق ولبنان. وفي 30 تشرين الثاني/أكتوبر، أعلن خامنئي أن "أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية تستخدم الدعم المالي للدول الرجعية في المنطقة لإحداث فوضى" في البلدين الأخيرين.
ويحمل خامنئي وجهات نظر مماثلة حول الاحتجاجات في إيران، ولكنه يَنظر إليها بعدسة إيرانية محلية. ففي خطابه في 17 تشرين الثاني/نوفمبر خصَّ المتظاهرين الذين أشعلوا النار في البنوك، وأصرّ على أنهم لا يمثلون "الشعب" بل "غوغاء" مليئين بـ "مثيري الشغب" الذين أثارتهم "جميع مراكز الأذى في العالم ضدنا". ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، جمع سويّة شخصيات إيرانية مع أولئك الذين يحرّضون على المظاهرات، بمن فيهم الناشط رضا بهلوي وجماعة "مجاهدي خلق" - وهو مثال نادر يَنسب فيه خامنئي الاضطرابات الداخلية إلى المعارضة السياسية بدلاً من الحكومات الأجنبية فقط.
القمع الذي يقوم به النظام، التداعيات المحلية
تتجلى الطبيعة المؤلمة اجتماعياً واقتصادياً لقرار النظام الإيراني بشأن أسعار البنزين في الإجراءات الناتجة التي اتُخذت من قبل خامنئي وضده على حد سواء. فلأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، تعرَّض مكتب المرشد الأعلى في يزد لهجوم من قبل المتظاهرين الغاضبين. وفي الوقت نفسه، أجرى البرلماني البارز علي مطهري تشابه بين قرار خامنئي برفع أسعار الغاز وقرار آية الله روح الله الخميني في أواخر الثمانينات بقبول قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار مع العراق. وتشير مثل هذه المقارنات إلى أن التداعيات الاجتماعية لقضية الوقود حساسة للغاية بالنسبة لأي فرع من فروع الحكومة الثلاثة الرئيسية، مما يتطلب من خامنئي تحمُّل المسؤولية بنفسه.
ومع ذلك، قد لا يكون المرشد الأعلى مُحصّناً تماماً من هذه التداعيات أيضاً، لأن القضية تُهدد بإضعاف القاعدة الاجتماعية لسلطته. وقد يمثل رفع أسعار الوقود نقطة تحوّل مهمة في علاقة الناس بالنظام، مما يدمر ثقتهم في قادتهم وسط ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة عملتهم الوطنية.
ولعل الأمر الأكثر أهمية على المدى القصير هو التداعيات على الفصائل السياسية التي تهدف إلى الفوز في الانتخابات المقبلة. ففي مقال نُشر في جريدة "كيهان" في 18 تشرين الثاني/نوفمبر، ألقى حسين شريعتمداري المقرب من خامنئي اللوم على فريق روحاني لفشله في إعداد الرأي العام قبل أن يُغيّر المرشد الأعلى سياسته في مجال الطاقة. كما هاجم شريعتمداري الرئيس الإيراني بسبب تجاهله المفترض لنصيحة خامنئي حول دفع الإعانات للأسر الفقيرة قبل رفع الأسعار.
أما بالنسبة للسلطة التشريعية، فقد احتج العديد من أعضاء "المجلس" في البداية على قرار رفع الأسعار واقترحوا سن مشروع قانون لخفضها، سعياً لأن يُنسب لهم الفضل لوقوفهم وراء الشعب ضد السياسة المؤذية للحكومة. بل حتى أن البعض دفعوا [سابقاً] الرئيس علي لاريجاني إلى الاستقالة بسبب تورطه المفترض في اتخاذ مثل هذا القرار الخطير دون علم البرلمان. وبعد أن تحمّل خامنئي علناً مسؤولية تغيير السياسة، اضطر هؤلاء الأعضاء إلى التراجع عن موقفهم والإعلان عن دعمهم لخامنئي. وهذا بدوره أفسد خطتهم لتعزيز شعبيتهم قبل انتخابات شباط/فبراير، مما شوّه إلى حد كبير أي سمعة ما زال البرلمان يتمتع بها كهيئة سياسية فعالة ومستقلة تحمي مصالح الشعب.
ولا يمكن للإحباط الشعبي المتزايد تجاه "المجلس" إلّا أن يثبط عزم الجمهور عن المشاركة في الانتخابات، مما قد يضعف جهود التعبئة لصالح الإصلاحيين والمتشددين على حد سواء. بمعنى آخر، تتحول أزمة الوقود إلى أزمة سياسية جوهرية، مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بشكل كبير بين الجمهور والنظام بينما يمنع المتشددين من المطالبة بشرعية ديمقراطية لأنفسهم.
أما بالنسبة للكيفية التي يمكن بها لطهران أن تمنع الاحتجاجات الحالية من الخروج عن السيطرة، فإن تكتيكاتها السابقة مفيدة. ففي أعقاب الاحتجاجات الضخمة التي أعقبت الانتخابات الرئاسية المزوّرة في عام 2009، أعاد النظام تنظيم جهازه القمعي وتعزيزه لإخماد المظاهرات بكفاءة وسرعة أكبر. وبالمثل، تم تعزيز وجود الشرطة وميليشيا "الباسيج" في المدن الثانوية في جميع أنحاء البلاد بعد اندلاع الاحتجاجات المحلية في الفترة 2017-2018. وهذه الإجراءات وغيرها تجعل النظام في وضع جيد لإخماد الاضطرابات الحالية. وسيعتمد على الأرجح على مقاربته السابقة: استخدام القوة المميتة إلى حد أدنى، لكن [اتباع سياسة] الاستهداف الدقيق لشخصيات الاحتجاج الرئيسية لكي يتم اعتقالها (عادةً في الليل) و "اختفائها" في السجون خارج نظام المحاكم العادي.
التداعيات السياسية
لدى الحكومة الأمريكية خيارات محدودة للتأثير على التطورات الداخلية في إيران، وأي تصريحات من قِبَل إدارة ترامب حول دعم الشعب لن تحظى بقدر كبير من المصداقية، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على منح التأشيرات للإيرانيين. ومع ذلك، ينبغي أن تنظر واشنطن في استخدام أنواع البرامج التي أقامتها في بلدان أخرى (مثل كوبا) لمساعدة الناس على الوصول إلى الإنترنت من خارج نطاق مقدّمي خدمات الانترنت الذين تسيطر عليهم الحكومة الإيرانية. كما لدى واشنطن برنامج طويل الأمد لتوفير التدريب على تعزيز الديمقراطية للشرق أوسطيين خارج المنطقة. علاوة على ذلك، يجب على الحكومة الأمريكية أن تنظر بجدية في الطلب من شركات التواصل الاجتماعي التي مقرها في الولايات المتحدة بحظر الحسابات التي يحتفظ بها الزعماء الأجانب الذين يجعلون هذه المنافذ غير متاحة في بلدانهم، مع التذكير بأن خامنئي يستفيد بشكل فعال من حسابه على موقع "تويتر" على الرغم من أن الحظر المفروض على خدمة التواصل الاجتماعي في إيران.
پاتريك كلاوسون هو زميل أقدم في زمالة "مورنينغستار" ومدير الأبحاث في معهد واشنطن. مهدي خلجي هو زميل "ليبيتزكي فاميلي" في المعهد. فرزين نديمي هو زميل مشارك في المعهد، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع في إيران ومنطقة الخليج.