- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الصفقة السرية التي تمنع الشرق الأوسط من الانفجار
في ظهيرة إحدى أيام الإثنين، توجّه جنديان إسرائيليان يرتديان الزي العسكري يسوقان سيارة جيب عسكرية إلى وسط مدينة جنين الفلسطينية شمال الضفة الغربية، عن طريق الخطأ. فقام عشرات السكان المحليين بإيقاف مسار السيارة، وأخذوا يرشقون زجاجها الأمامي ونوافذها بالحجارة والكراسي. ووسط الصراخ المرعب والزجاج المحطم [المتناثر]، شوهد شرطي من السلطة الفلسطينية يرتدي الزي الرسمي في لقطات من الهاتف المحمول يشهر سلاحه، في محاولة لإبعاد الغوغاء. وأُمرت "قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية" بالانتشار في مكان الحادث، مما ساعد على إنقاذ الإسرائيليين قبل نقلهم بأمان إلى السلطات الإسرائيلية. وبذلك تم تفادي حدوث مأساة كبرى - إن لم تكن أزمة سياسية أكبر.
ولم تكن الأحداث في جنين حالات فريدة. ففي أوائل شباط/فبراير، سلك مدني إسرائيلي طريقاً خاطئاً باتجاه قرية خارج القدس، فتعرّض له حشد ضم أكثر من 200 شخص وحرقوا سيارته. ولكن هنا أيضاً، تدخلت "قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية" ["قوات الأمن الفلسطينية"] وأنقذته من بين أيديهم. ووفقاً للبيانات الرسمية الفلسطينية، تاه أكثر من 500 إسرائيلي بدخولهم إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية في عام 2017 وحده. وتم احتجازهم جميعاً بأمان من قبل "قوات الأمن الفلسطينية" إلى أن أعيدوا إلى إسرائيل دون إصابتهم بأذى.
وهذا النوع من الإجراءات هو جانب واحد فقط مما يسمى بـ "التنسيق الأمني" الإسرائيلي -الفلسطيني، الذي هو مصطلح غامض لا يمكن التنبؤ به، ولكن مع ذلك يمكن تعريفه وقياسه. وبالإضافة إلى إعادة الإسرائيليين الذين ضلوا طريقهم، يشمل التنسيق عدة عناصر تنفيذية أخرى يمكن القول بأنها لم يسبق وصفها علناً، وهي: الحوار وتبادل المعلومات الاستخباراتية؛ ومكافحة الإرهاب؛ وتجنب المواجهة خلال الغارات العسكرية الإسرائيلية على المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية؛ ومكافحة الشغب. وفوق كل ذلك، هناك القرار الاستراتيجي الفلسطيني الذي يؤيده الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ألا وهو: كلا للعنف.
ولذلك، على سبيل المثال، وفقاً لمسؤول أمني كبير في السلطة الفلسطينية يبقى الضباط الإسرائيليون والفلسطينيون على اتصال دائم - "يومياً وأسبوعياً" - لمناقشة التهديدات المشتركة في الضفة الغربية التي يمكن أن "تؤثر على الوضع الأمني المستقر على كلا الجانبين". وغالباً ما يتخذ شكل عمليات لمكافحة الإرهاب ضد عدوهما المشترك، «حماس»، حيث يتبادل الطرفان المعلومات الاستخباراتية. وخلال موجة "الهبّة" - الهجمات الإرهابية التي قام بها أشخاص منفردون، ويُطلق عليها هجمات "الذئب الوحيد" بين عامي 2015 و2016 - عملت "قوات الأمن الفلسطينية" على اعتراض المهاجمين مسبقاً، ومعظمهم من الشباب الفلسطينيين. فبحلول نهاية عام 2016، وفقاً لإحدى المصادر، كانت "قوات الأمن الفلسطينية" مسؤولة عن ثلث الاعتقالات الإرهابية المشبوهة.
ولكن عندما تقرر إسرائيل اتخاذ زمام الأمور بنفسها، فإنها تفعل ذلك وتقوم بمداهمات ليلية داخل المدن الفلسطينية. ويتم التعامل مع هذه الخطوة من خلال آلية رسمية لتجنب المواجهة بين الطرفين وتعمل بسلاسة عموماً (حيث توصي إسرائيل "قوات الأمن الفلسطينية"، بقولها: "لا تخرجوا"). وفي أواخر عام 2015، قال وزير الدفاع الإسرائيلي: "سابقاً، كنا نحتاج إلى فرقة للدخول إلى مدينة جنين الفلسطينية، وقبل يومين، قمنا بذلك بواسطة قوة صغيرة فقط". وفي الواقع كان هذا هو الحال في إحدى الأسابيع الماضية عندما شن الجيش الإسرائيلي عدة مداهمات في منطقة جنين بغية استهداف خلية تابعة لـ «حماس» مسؤولة عن قتل مستوطن إسرائيلي، ومن بين تلك المداهمات عملية غير مسبوقة دامت خمس عشرة ساعة داخل مخيم جنين للاجئين. ووفقاً لعدة تقارير، ربما كانت المخابرات الفلسطينية قد ساعدت إسرائيل في تحديد مكان الخلية.
وأخيراً، تعمل السلطة الفلسطينية، فعلاً أو إهمالاً، على وقف المظاهرات الواسعة النطاق ومنعها من التضافر والتصعيد، ولاسيما في مناطق التَماس الحساسة بين الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية والفلسطينية (والتي تشمل الطرق السريعة ونقاط التفتيش والمستوطنات). وليس من قبيل الصدفة أنّه خلال الشهرين الماضيين، أي منذ خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في كانون الأول/ديسمبر الذي اعترف فيه بالقدس كعاصمة لإسرائيل، كانت الاضطرابات تتسم بالفتور. وأفادت التقارير أن "قوات الأمن الفلسطينية" عملت على وقف المتظاهرين المسلحين ومنعهم من الوصول إلى الخطوط الأمامية للمظاهرات، كما لم تقُم السلطة الفلسطينية بشكل واضح بحشد شعبها أو دعوتهم للنزول إلى الشوارع.
وكما قال مسؤول أمني إسرائيلي رفيع المستوى لصحيفة "ديلي بيست"، بأن التنسيق الأمني مع "قوات الأمن الفلسطينية" قد ازداد في الواقع منذ خطاب ترامب، على الرغم من التهديدات الفلسطينية الأخيرة بإعادة النظر في هذه العلاقات، وخلافاً للخطوة الفلسطينية التي اتخذت في الصيف الماضي وأدّت إلى تعليق التنسيق بين القيادات العليا بشكل موقت.
وحتّى أن ترامب اعترف سابقاً بالدور الحيوي الذي تلعبه "قوات الأمن الفلسطينية". فقد قال في أيار/مايو الماضي عندما كان واقفاً بجانب الرئيس عباس في البيت الأبيض: "يجب أن نواصل بناء شراكتنا مع "قوات الأمن الفلسطينية" لمكافحة الإرهاب وهزيمته. وأشيد بالتنسيق الأمني المستمر بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. فإنهما على وفاق بشكل لا يصدق... كنت في الواقع منبهراً جداً وفوجئت إلى حد ما في مدى انسجامهما. إنهما يعملان جنباً إلى جنب وبشكل جيد".
غير أنّ الرئيس الأمريكي لم يعد منبهراً كالسابق، على الأقل كما جاء في كلماته في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في كانون الثاني/يناير. فحيث أظهر ترامب استياءه بوضوح من الفلسطينيين قال: لقد تمّ التعامل مع الولايات المتحدة "بازدراء" خلال الزيارة التي قام بها نائب الرئيس مايك بينس مؤخراً إلى المنطقة. كما أثار ترامب الشكوك أيضاً حول استمرار تقديم المساعدات الأمريكية إلى السلطة الفلسطينية. وقال ترامب "إنّ المساعدات قيد الدرس". وأضاف "إننا نمنحهم مبالغ هائلة، مئات ملايين الدولارات سنوياً. هذه المساعدات قيد الدرس. لماذا يجب أن نقوم بذلك كبلد وهم لا يفيدوننا بشيء؟".
وفي أعقاب التعليق الجزئي للمساعدات الأمريكية لـ "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" ("الأونروا") في كانون الثاني /يناير، وفي أعقاب التهديد السابق لترامب بعزل السلطة الفلسطينية إن لم تعد إلى طاولة المفاوضات، يجب أن تؤخذ الكلمات الأخيرة للرئيس الأمريكي على محمل الجد في الوقت الحالي. ومع ذلك، فإن الرئيس ترامب مخطئ في الواقع. فهناك الكثير الذي تستفيد منه الولايات المتحدة من دعمها للسلطة الفلسطينية، وخاصة من حيث صلة ذلك باستقرار الضفة الغربية وأمن إسرائيل، اللذان ذكرهما ترامب مراراً وتكراراً على أنّهما الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية.
ويتم تكريس أموال المعونة الأمريكية المباشرة، التي يبلغ مجموعها أكثر من 400 مليون دولار سنوياً، لمساعدة السلطة الفلسطينية في أمور عديدة. فهناك أموال تتلقاها المستشفيات الإسرائيلية لتغطية الفواتير الطبية الفلسطينية؛ وأموال أخرى تذهب إلى شركات الطاقة الإسرائيلية لتغطية فواتير الكهرباء الفلسطينية؛ ويُنفق المال الذي تقدّمه "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" لدفع تكاليف البنية التحتية الكبرى ومشاريع التنمية الأخرى. وبما أن المال قابل للاستبدال في النهاية، تمثّل هذه التكاليف منافع صافية للميزانية العامة للسلطة الفلسطينية، ويمكن بعد ذلك استخدامها في مجالات أخرى من بينها الأمن. وووفقاً لإحدى المصادر، يتم إنفاق ما يقرب من مليار دولار سنوياً على "قوات الأمن الفلسطينية".
بالإضافة إلى ذلك، وكما أشار ترامب في البيت الأبيض في أيار/مايو الماضي، هناك بعثة صغيرة بقيادة ضابط ثلاث نجوم من القوات الأمريكية، وتعمل هذه البعثة لأكثر من عقد من الزمن من خلال القنصلية الأمريكية في القدس للمساعدة على تدريب هذه القوات بالذات وتجهيزها ودعمها. وفي حين بلغت المساعدات في السنوات السابقة حوالي 100 مليون دولار في السنة، إلّا أنها بالكاد تصل اليوم إلى نصف هذا المبلغ. كما وتعمل "وكالة الاستخبارات المركزية" الأمريكية على برنامج منفصل، يمارس في نطاق سرّي، يقوم بتوجيه أجهزة المخابرات للسلطة الفلسطينية. إلا أنّ هذه المعونة مهددة أيضاً، الأمر الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً بالنسبة لجميع الأطراف المعنية.
وبالفعل، فإنّ إعادة تأهيل "قوات الأمن الفلسطينية" على مدى العقد الماضي برعاية أمريكية، وعلاقة العمل القوية مع الإسرائيليين، كانتا من أكثر الجوانب نجاحاً للنظام البيئي لعملية السلام برمتها.
غير أن المسؤولين الفلسطينيين أوضحوا مراراً وتكراراً أنهم يقومون بكل ذلك ليس لصالح إسرائيل (أو الولايات المتحدة)، بل كجزء من استراتيجية تهدف إلى تحقيق الغاية المنشودة المتمثلة بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة. ولا يؤدي حجب الدعم المالي الذي يشكل أساس كل ما سبق ذكره سوى إلى تعزيز هذا الهدف في العقول الفلسطينية؛ ومن شأنه أن يزعزع أيضاً تماسك قوات الأمن وفعاليتها، مما سيؤدي بدوره إلى تدمير الاستقرار النسبي الذي تحقق في الضفة الغربية.
وبالنسبة إلى ترامب، قد يكون هذا كله مجرد لعبة رفيعة المستوى بغرض عقد الصفقات. ولكن حريّ بنا أن نتذكر أنّ أشخاصاً حقيقيين يعيشون في الأرض المقدسة ولديهم الكثير ليخسروه إذا تدهور الوضع. ولا [تشمل هذه الخسارة] مئات ملايين الدولارات سنوياً من المساعدات الأمريكية فقط، كما لا [تشمل] الفلسطينيين فقط.
نيري زيلبر هو صحفي مقره في تل أبيب وزميل مساعد في معهد واشنطن. غيث العمري هو زميل أقدم في المعهد، وشغل سابقاً مناصب استشارية مختلفة مع السلطة الفلسطينية.
"ديلي بيست"