- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
واقع ظاهرة الإرهاب في الديمقراطية التونسية الوليدة
لا يزال الرأي العام التونسي والإقليمي تحت تأثير خليط من مشاعر الفخر بقوة الأجهزة الأمنية ووطنية سكان مدينة بن قردان الحدودية وكذلك الخوف من جرأة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») على التوغل في الأراضي التونسية من أجل إقامة 'إمارة' إسلامية. فقد أرادت قيادات تنظيم «الدولة الإسلامية» إحراج الدولة التونسية من خلال تحويل العنف الإرهابي إلى حراك احتجاجيّ في مدينة بن قردان الموصومة كالعديد من المناطق الحدودية بالضلوع في التهريب والتجارة الموازية وأيضاً إدخال الأسلحة وعصابات تسفير الجهاديين الإرهابيين إلى ليبيا. إلا أن 'غزوة' بن قردان تحوّلت منذ بدايتها فجر 7 اذار/مارس إلى 'ملحمة' تجسدت فيها توّحد الإرادة الشعبية والرسمية في حرب تونس على الإرهاب. ومع ذلك، كشف الهجوم على بن قردان عن دوافع تنظيم «داعش» نحو شمال إفريقيا، كما كشف عن استراتيجية مكافحة الإرهاب في تونس بعد تتالي العمليات الإرهابية، خاصة الاعتداء على متحف باردو في 18 آذار/مارس 2015 حيث أعلن آنذاك الرئيس الباجي قايد السبسي الحرب على الإرهاب.
واقع الظاهرة الإرهابية في تونس الديمقراطية الناشئة
لقد عكس الهجوم على مدينة بن قردان طموح تنظيم «الدولة الإسلامية» في تأسيس "إمارة " إسلامية، وأصبح الإرهاب يضرب مجدداً في تونس ويتجاوز حدّه المعتاد إلى محاولة اغتصاب الأرض وإقامة 'الإمارة الداعشية' في منطقة بن قردان الحدودية، وبالتالي تجاوزت مطامع التنظيمات الإرهابية مجرّد محاربة ما يّسمونه 'طواغيت' (ذبح الجنود في جبل الشعباني في رمضان عام 2013/ تفجير حافلة الأمن الرئاسي عام 2015) أو ضرب السياحة والاقتصاد التونسي (تفجير سوسة عام 2015/ اقتحام متحف باردو عام 2015). كما تجاوزت تلك التنظيمات الإرهابية استهداف المسار الديمقراطي والاستقرار السياسي وقامت باستهداف شخصيات سياسية (اغتيال شكري بلعيد والنائب البراهمي عام 2013). وتسعى تلك التنظيمات الإرهابية حالياً إلى زعزعة الأمن المجتمعي في تونس من خلال السعيّ لخلق الشرخ بين الجنوب التونسي وبقية المجتمع. ويبرهن هذا التدخّل في الجنوب التونسي على جديّة الخطر الإرهابي الذي يتربص ليس فقط بتونس بل بكلّ دول المنطقة المغاربية.
لعلّ القيادات الإرهابية قد راهنت على المساندة الشعبية من مدينة بن قردان ليس لأنها حاضنة للإرهاب كما روّج لذلك الكثير من أصحاب الأفكار النمطية أو بسبب النمط الاجتماعي المحافظ، بل لأنها منطقة يطغى عليها التهريب والتجارة الموازية حيث قٌدر أن هناك 3800 شخص من بن قردان منخرطين في التهريب وفقاً لتقرير "البنك الدولي". وبالتالي ساد الاعتقاد لدى التنظيم وأنصاره انّ العنف الإرهابي سيكون مقبولاً لمنع سطوة الجهاز الأمني الذي لطالما ظهر في الحراك الاحتجاجي المتكرر والمواجهات/المطاردات المعتادة بين المهربين والأجهزة الأمنية المختلفة في هذه المدينة الحدودية. بالإضافة إلى ما يمكن أن يوّفره هذا الخط الحدودي من سيولة مالية لـ تنظيم «داعش» بسبب الحركة التجارية والتهريب والسفر بين ليبيا وتونس.
أهمية عملية بن قردان لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» رغم الهزيمة
إن وقوع الاختيار على مدينة بن قردان لتنفيذ مخطط التمدد والتأسيس لدولة الخلافة في تونس ليس اعتباطيّاً أو عشوائياً، ولذلك من المهم قراءة رمزية الاستيلاء على هذه المدينة من وجهة نظر القيادات الإرهابية لـ تنظيم «داعش». وفي هذا السياق، يتوجب علينا التساؤل حول المعطيات أو الموارد التي قيّم من خلالها تنظيم الدولة، وبشكل عقلاني، 'عملية بن قردان' كخيار استراتيجي في حرب التموقع في شمال إفريقيا. وبناء على ذلك، ينبغي التعرض إلى جملة العوامل المتداخلة والتي شجعت التنظيم بشكل ما على اتخاذ قرار الهجوم الإرهابي بعد اقلّ من أسبوع على عملية دخول فاشلة لأكثر من ثلاث سيارات رباعية الدفع لعناصر "داعشية" قادمة من الحدود الليبية.
لقد عمل تنظيم «الدولة الإسلامية» على تصعيد درجة التوتر والحراك الاحتجاجي في أغلب المناطق الداخلية لتونس، واستغل ارتفاع منسوب العنف في المجتمع التونسي للحشد والتعبئة ضد مؤسسات الدولة. كما حاول مسلحو تنظيم «داعش» استمالة عطف ومساندة سكان مدينة بن قردان حيث حرصوا على بعث رسائل طمأنة من خلال مكبرات الصوت، مؤكدين أن مهمتهم 'تحرير بن قردان' من سطوة الديوانة (مصلحة الجمارك) والأجهزة الأمنية بغية إضفاء مشروعية الحراك الاحتجاجي على العنف الدموي، خاصة أن معظم سكان المدينة وبقية المناطق المجاورة يعيشون على التهريب و التجارة الموازية نظراً لغياب استراتيجيات وطنية للتنمية والاستثمار.
لقد استغل تنظيم «الدولة الإسلامية» مخزون الانتماء السلفي الجهادي لبعض سكان مدينة بن قردان، التي عٌرفت بشراسة مقاتليها في العراق ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003، ومن ثمّة انضموا إلى محاربة في صفوف التنظيمات المسلّحة ("الجيش الحرّ"/ «جبهة النصرة»/ تنظيم «داعش»..) في سوريا ما بعد عام 2011. وفي ضوء ما عٌرض يمكننا أن نتلمس التفاعل الهجين بين التنشئة الاجتماعية المحافظة والحاجة لتحقيق بطولات دمويّة للانتصار لمبادئ معيّنة (الهوية/الثورة/الإسلام/كراهية الغرب/...) وكذلك منطق استبطان ثقافة 'الاستشهاد' في الأوساط ذات التركيبة العشائرية/القبلية والتي اضطرت الظروف الاقتصادية والجغرافية القاسية إلى تعوّد مراهقيها على مخاطر التهريب ليصبح الإرهاب مجرّد 'مغامرة' جديدة للعديد منهم.
ورغم فشل التنظيم، استغل «داعش» الفرصة لإظهار التنظيم الإرهابي في حالة قوة أمام أنصاره والرأي العام العالمي، خاصة بعد ضربة صبراتة، من خلال التوغّل في الحدود التونسية. وتكون الرسالة الأساسية من عملية بن قردان أن كلّ هجوم دولي على تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا سيردّ عليه التنظيم من خلال تهجير الحرب والعنف الإرهابي إلى تونس، وربما بقية الدول المغاربية. وبالتالي سعى التنظيم لإحراج الأجهزة الأمنية التونسية وإظهار ضعفها ولكن ما غاب عن أذهان القيادات الإرهابية هي الجاهزية الكبيرة للجيش التونسي وبقية الأسلاك الأمنية المصاحب بالكره الشعبي لممارسات التنظيم الهمجية وإيديولوجيا العنف الإرهابي.
واستهدف الهجوم على بن قردان نشر حالة من الخوف داخل المجتمع التونسي وفرض إرهاب تنظيم «داعش» كتحدي حقيقيّ للاقتصاد والسياحة والسياسة التونسية، فضلاً عن تقديم توجّهه الإيديولوجي كبديل مرتقب. وتنظر أغلب القيادات الإرهابية إلى 'تونس' باعتبارها دولة ذات نمط مجتمعي حداثي تسعى لبناء تجربة ديمقراطية، الأمر الذي يزيد من أهمية التغلغلّ فيها لإظهار قوة الاستقطاب الإيديولوجي لهذه القيادات أمام الرأي العام العربي والدولي. ومن شأن الغزو الناجح أن يضع التنظيم أيضاً في موقف أفضل للدخول في مساومات ومفاوضات مع جميع الأطراف الإقليمية، وخاصة الجزائر.
وقد استهدف الهجوم على بن قردان أيضاً نشر الخوف بين صفوف الشعب التونسي في روتينه اليومي وإدخاله في الشك والريبة من التونسي 'الآخر'، لترسيخ الاعتقاد أن أنصار التنظيم مندسين في النسيج المجتمعي التونسي، وأن الخطر الإرهابي لا يأتي إلا من الداخل مهما حاولت القوى الغربية مثل الولايات المتحدة القيام به لحماية تونس من العنف الإرهابي بضربات استباقية. ويظهر هذا الهدف جليّاً في العنف الإرهابي الممنهج كعملية اغتيال رئيس فرقة مجابهة الإرهاب 'عبد العاطي عبد الكبير' في منطقة بن قردان وكذلك العنف الإرهابي العشوائي مثل مقتل التلميذة 'سارة الموثق'.
وبالتأكيد يتبادر للذهن ضرورة التطرّق إلى واقع ثقافة التطرف الديني لدى جزء من الشعب التونسي ومستوى الفعالية ونجاعة أسلوب الدولة في التعامل مع المنتمين لتنظيم إرهابي أو متبنين للفكر التكفيري.
وتتجاوز مشكلة الإرهاب في البلاد التونسية ظاهرة العنف الدموي إلى أزمة استلاب عقول الشباب بمقولات الفكر المتطرّف والعدائية باسم الدين. وبالتالي فانّ الخيار الأمني لا يكفي للتصدي واجتثاث الخطر الإرهابي من النسيج المجتمعي دون تكاتف الجهود من جميع الأطراف (السلطة/الشعب/المجتمع المدني..) لإتباع إستراتيجية وطنية شاملة تكرس حلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في الأحياء والمناطق الأكثر احتياجاً وتهميشاً المتسببة في ارتفاع نسبة التحاق بصفوف الحركات الإرهابية. وقد أصبحت 'ملحمة بن قردان' التي انتصرت فيها الإرادة الوطنية للشعب التونسي، تتسّم برمزية كبيرة في حاضر الحرب على الإرهاب وصناعة لحظة تاريخية فارقة في الهويّة التونسية حيث لا تقبل العنف الدموي كطريقة تعبير عن رغبتها في الاحتجاج والتغيير. ولكن في الوقت نفسه، ارتفعت درجة العداء الشعبي والرفض الكليّ لتواجد الفكر الإرهابي على الأراضي التونسية. وللأسف، أصبحت تونس الديمقراطية الناشئة في مواجهة مباشرة مع الإرهاب، الذي طوّر استراتيجيات براغماتية ذات أهداف سياسية واضحة (دولة الخلافة) ومصالح مادية (النفط/التهريب.) وتموقع كفاعل أساسي في موازين القوى الدولية.
سهام الدريسي هي كاتبة تونسية. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"