- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
زيارة كيري: لا خيار أمام أمريكا سوى إعادة الإنخراط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عاد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى القدس ورام الله للمرة الأولى منذ عام. هذا وتكللت جهود كيري الشهر الماضي بتفاهم إسرائيلي-أردني أدى إلى تهدئة الوضع في الموقع المقدس "جبل الهيكل"/"الحرم الشريف" الشديد التقلب في القدس، إلا أن العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين يستمر وقد تخطى حدود القدس. وفي حين أن الولايات المتحدة أصابت التقدير بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس ليسا الزعيمين المناسبين لصنع السلام، تُظهر زيارة كيري مجدداً أن لا خيار أمام الولايات المتحدة سوى إعادة الانخراط في الصراع ومحاولة إخماد فتيل الأزمة المتصاعدة.
وتندرج زيارة كيري في إطار الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وشركاؤها في "اللجنة الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط" (الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا) لإقناع الطرفين باتخاذ سلسلة خطوات من شأنها تجنب العنف في المستقبل وتحسين الوضع على الأرض، بغية التصدي لما اعتبره "جهاز الأمن العام الإسرائيلي" مؤخراً "إحساساً بالحرمان على الصعيد الوطني والاقتصادي والشخصي" يحرك معظم أعمال العنف. وفي النهاية، لا يمكن تحقيق استقرار دائم إلا من خلال اتفاق سلام. ولكن بما أن هذا الاتفاق ليس مطروحاً حالياً على الطاولة، تقوم المهمة الفورية على منع تدهور الأوضاع، مع الإبقاء على احتمال التفاوض حول اتفاق في المستقبل.
يتعين على الولايات المتحدة أن تطلب من الطرفين اتخاذ عدد من الخطوات في الأشهر المقبلة. ولا يُفترض بالولايات المتحدة أن تدفع الطرفين إلى التفاوض حول أي خطوات مستقبلية في ما بينهما، بما أن ذلك لن يقود سوى إلى الجمود، بل ينبغي عليها أن تحث كل طرف على حدة ليضطلع بدوره وبذلك تخلق مجموعة خطوات أحادية الجانب تعزز بعضها البعض.
من ناحية الفلسطينيين، تتمثل الخطوة الأولى بالتصدي للتحريض. فصحيح أن الرئيس عباس ملتزم منذ وقت طويل وعن حسن نية بمبدأ اللاعنف، إلا أن تصريحاته العلنية المتطرفة، مثل اتهامه إسرائيل بإعدام فتى فلسطيني يبلغ من العمر 13 عاماً كان يتعافى في أحد المستشفيات الإسرائيلية، تؤجج نيران التحريض. وفي الواقع، تُعتبر الخطابات الملهبة للمشاعر الصادرة عن المسؤولين الفلسطينيين أحد أبرز العوائق أمام إقناع الشعب الإسرائيلي بالتزام الفلسطينيين الفعلي بالسلام. فمثل هذه الخطابات تساهم في خلق جو مشحون يغذي الإرهاب الذي شهدناه مؤخراً. وعندما يلجأ الرئيس عباس إلى خطاب متشدد في محاولة منه لتعزيز مصداقيته على المستوى المحلي، حتى ولو لم يدعُ إلى انتهاج العنف أو لم يتبناه، فهو فعلياً يعتمد نهجاً منافياً من الناحية الأخلاقية لالتزامه بمبدأ اللاعنف.
بالإضافة إلى ذلك، لا بد من تجديد الجهود الرامية إلى بناء المؤسسات الفلسطينية. فالمفاجئ في جولة العنف الحالية هو مدى خروجها على ما يبدو عن سيطرة السلطة الفلسطينية، نظراً لتراجع مصداقية هذه الأخيرة بشكل سريع، الذي يُعزى جزء منه إلى فشل عملية السلام، فيما يُعزى جزء آخر إلى فشل السلطة الفلسطينية في توفير إدارة تمثيلية فعالة. وكما تشير استطلاعات الرأي الأخيرة، عندما يعتقد 79% من الفلسطينيين بأن حكومتهم فاسدة، فمن غير المرجح أن يتطلعوا إليها لتوجيههم معنوياً وسياسياً. لذلك، يجدر بالولايات المتحدة أن تعطي الأولوية مجدداً لبناء المؤسسات الفلسطينية، عوضاً عن إعطاء الرئيس عباس حرية التصرف في هذا الأمر، وأن تحث عباس على إعادة إطلاق برنامج الإصلاح من أجل ترميم هيبة السلطة الفلسطينية بنظر شعبها.
يتوجب على إسرائيل من جهتها أن تضبط سياستها الاستيطانية في الضفة الغربية بصورة أكثر، وهي مسألة لا تولد إحباطاً كبيراً في صفوف الفلسطينيين فحسب، بل تهدد بالقضاء على آفاق حل الدولتين. وسيكون من المستحيل على الولايات المتحدة أن تقنع إسرائيل بتجميد أنشطتها الاستيطانية بالكامل، ولا ينبغي على الولايات المتحدة أن تغير سياستها القائمة على معارضة جميع أنشطة بناء المستوطنات.
ولكن بإمكان الولايات المتحدة أن توضح لإسرائيل أن أنشطة البناء الأكثر نفوراً في المناطق التي تهدد آفاق حل الدولتين سيكون لها تداعيات أكثر حدة على مستوى العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. فبناء مستوطنات على حدود الخارطة في مناطق متنازع عليها بشدة من الضفة الغربية أو في مناطق ستؤدي إلى عزل أعداد كبيرة من السكان الفلسطينيين عن دولتهم المستقبلية مختلف تمام الاختلاف عن بناء مستوطنات مباشرة على الجانب الآخر من حدود 1967 في منطقة من غير المرجح أن تكون موضع تنازع.
فضلاً عن ذلك، لا بد من الضغط على إسرائيل لتبذل المزيد من الجهود الرامية إلى تحسين الوضع على الأرض في الضفة الغربية. وهناك قائمة طويلة من الخطوات التي يمكن اتخاذها في هذا الصدد. على سبيل المثال، يجب اتخاذ خطوات لتحسين الاقتصاد الفلسطيني، مثل إتاحة النفاذ الاقتصادي إلى مناطق في الضفة الغربية خاضعة للسيطرة الإسرائيلية. ويجب السماح أيضاً للفلسطينيين بالبناء في مناطق محاذية للمراكز الحضرية الفلسطينية المكتظة بالسكان. ولن تؤدي مثل هذه الخطوات إلى إنهاء الصراع، ولكنها ستسمح للفلسطينيين الملتزمين بالتعاون مع إسرائيل بالإشارة إلى بعض المنافع في مقاربتهم اللاعنفية.
وأخيراً، على الولايات المتحدة أن تواصل دعمها لتدريب "قوى الأمن الفلسطينية" وتكثفه. فخلال العقد الأخير، شكل هذا البرنامج أهم تطور إيجابي في سياق الصراع. وتجدر الإشارة إلى جدية هذه القوات واحترافها. كما أن علاقتها بنظيراتها الإسرائيلية قوية، وقد كان لها أثر بالغ في تحسين أمن الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
ولكن لا بد من الارتقاء بالبرنامج إلى المستوى التالي، من خلال استثمارات أكبر في إنشاء قطاع عدالة يمكنه تكملة هذه القوى وضمان محاكمة المشتبه بهم وإدانتهم وسجنهم بعد توقيفهم إذا كانوا مذنبين بالفعل، عوضاً عن إطلاق سراحهم أو احتجازهم بشكل تعسفي. وتحتاج إسرائيل أيضاً إلى إسناد المزيد من المسؤوليات لهذه القوى والسماح لها بالتنقل بحرية أكبر عبر الضفة الغربية لضمان الأمن.
وعلى الصعيد السياسي، يجب أن تثني الولايات المتحدة عباس عن التهديد بإيقاف التعاون الأمني، حيث أن هذه التصريحات تقوض الشرعية المحلية لقوى الأمن الفلسطينية الملتزمة بالتعاون مع نظيراتها الإسرائيلية. ويجدر بالولايات المتحدة أن تشجع نتنياهو أيضاً على إفساح المزيد من الحرية للجيش الإسرائيلي كي ينفذ على الأرض تدابير مقترحة منذ زمن طويل وتساهم، وفقاً لقوات "جيش الدفاع الإسرائيلي"، في تحسين وضع الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ونظراً للخلل وعدم الثقة لدى كلا الجانبين، لن يكون من السهل تنفيذ حتى هذا البرنامج المتواضع وسيستغرق ذلك عدة أشهر من العمل المضني من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين. ولن تؤدِ هذه الأجندة السياسية إلى حدوث تحوّل جذري على الأرض أو إلى التقدم الباهر الذي يتوق الكثير منا إليه، إلا أنها ستحد من وتيرة الفورات العنيفة وتبقي احتمال التوصل إلى حل الدولتين قائماً وتترك النافذة مفتوحة أمام فرص أفضل في المستقبل.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن ومستشار سابق للرئيس الفلسطيني وفريق التفاوض الفلسطيني. إيلان غولدنبرغ هو مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في "مركز الأمن الأمريكي الجديد"، وخدم في الفريق الأمريكي المفاوض خلال المحادثات الاسرائيلية الفلسطينية في الفترة 2013-2014.
"هآرتس"