- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
البُعد الديني للاستجابة لفيروس كورونا في العراق
لقد أدّى الدين دورًا مهمًا في قدرة الشعب على التصدي لوباء فيروس كورونا من خلال الممارسات الدينية كالصلاة الجماعية، حتى في الدول العلمانية نسبيًا مثل ألمانيا. أما الدول التي يتسم فيها دور الزعيم الديني وأتباعه بمزيد من التعقيد والأهمية فتواجه تحديات إضافية في قدرتها على تطبيق التدابير الإنقاذية. وظهر ذلك جليًا في دول مثل العراق حيث لعب الدين دورًا مؤثرًا بشكل متزايد في قدرة الحكومة على الحد من انتشار المرض.
يشهد العراق منذ منتصف شهر آذار/مارس ارتفاعًا في عدد الحالات المؤكدة، ويعزى ذلك في الأغلب إلى رداءة الخدمات الصحية. إلا أن إمعان النظر في النسيج الديني المعقّد في البلاد يكشف الدور الكبير للدين في قدرة البلاد على تطبيق مختلف إجراءات الإغلاق. لقد واجهت الحكومة العراقية صعوبة في تطبيق هذه التدابير بالكامل وذلك بسبب مقاومة الشعب الشديدة لحظر التجول الإلزامي الذي فرضته. وفي 17 آذار/مارس، حيث حاولت فرض حظر تجوّل يعرّض المخالفين إلى غرامات وحتى الاعتقال. إلا أن الحكومة أعلنت عن تقليل ساعات الإغلاق خلال شهر رمضان فيُطبّق من الساعة السابعة مساءً حتى الساعة السادسة صباحًا بدلًا من فرضه على مدار اليوم. وبالنسبة إلى العراق، فقد أدى القادة الدينيون أدوارًا متعارضة في تشكيل استجابة الحكومة للأزمة الصحية العامة إما من خلال تعزيز جهود الحكومة أو مواجهتها.
ويعدّ غرس حسّ الالتزام هو الدور الأول الذي أدّاه القادة الدينيون. ويتألف أتباع هؤلاء القادة في الغالب من مواطنين عراقيين التزموا بحظر التجول المفروض تجاوبًا مع طلب قادتهم مثل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني. ولكي يلتزم معظم الشعب منازلهم وبهدف تشجيع أولئك العاملين في القطاع الصحي على مواصلة تقديم خدماتهم لمكافحة فيروس كورونا، أصدر السيستاني فتوى (وهو حكم في الشريعة الإسلامية) أثّرت كثيرًا في طريقة تعاطي الناس مع المسألتين. والأهم من ذلك، فقد ساعد التأثير الذي يملكه السيستاني الحكومة في تجنّب معضلة خطيرة تتمثل في الخوض في صدام كبير مع الذين لا يستجيب للأوامر "العلمانية". هذا وقد عمد مسؤولون عراقيون، ومن بينهم وزارة الصحة، إلى ذكر فتوى السيستاني بشكل واضح في تصريحاتهم بهدف تحفيز الناس إلى الامتثال. وفي هذه الحالة، تعكس مراعاة أوامر البقاء في المنازل في العراق احترام الأتباع لأوامر هؤلاء القادة الدينيين، مما يسلط الضوء على أن فيروس كورونا أصبح مسألة دينية ومسألة صحية على حدّ سواء. ولو لم يصدر القادة الدينيون مثل السيستاني فتاواهم، لكانت الحكومة العراقية قد واجهت المزيد من الصعوبات في تطبيق حظر التجول.
أما الدور الثاني الذي أداه القادة الدينيون فهو المقاومة لتعليمات حظر التجول. لم يشجع الكثيرون من هؤلاء القادة الدينيون على الامتثال للحظر المفروض لأنهم لا يؤمنون بوجود هذا الفيروس أو لأنهم لا يعتبرونه مؤذيًا. ومن الأمثلة على ذلك، قاسم الطائي، وهو قائد ديني وأحد أنصار مقتدى الصدر، صرح بأن المسلمين المؤمنين لن يصابوا بفيروس كورونا. وخلال تجمع عام، حثّ قائد ديني آخر الشعب على مواصلة أداء المراسم والطقوس الدينية كالمعتاد. كما وأيّدت ردود بعض الزعماء السياسيين في العراق هذه التصريحات. وواصل القادة السياسيون الاستخفاف بخطورة الفيروس وإثارة نظرية المؤامرة من خلال التصريح بأن الولايات المتحدة هي التي تقف وراء انتشار هذا الفيروس لاستهداف الدول الإسلامية. وطرح هذا النوع من التأثيرات الدينية تحديات عديدة أمام الحكومة العراقية. فعندما تفاقم التفشي، سعى العراق إلى إحداث توازن بين مواجهة القادة الدينيين وأتباعهم الذين خالفوا حظر التجول والعمل في الوقت عينه على تبديد المخاوف بشأن حرية الدين. وللتخفيف من الشعور العام بالقلق المرتبط بما إذا كان حظر التجول ينتهك الحقوق الدينية، فقد حاولت الحكومة تطبيق حظر تجول في جميع أنحاء البلاد بشكل حذر ولجأت إلى طلب المساندة من القادة الدينيين الأكثر نفوذًا.
الا أن الحكومة العراقية فشلت في منع الزيارة السنوية التي يقوم بها الشيعة إلى مقام الإمام الكاظم في بغداد ويبين ذلك أكثر فأكثر تراخي الحكومة في تطبيق حظر التجول كطريقة لاسترضاء الزعماء الدينيين. وكجزء من التحضيرات للزيارة، اجتمع وزير الصحة العراقي، جعفر علاوي، بحسين الصدر، احد القادة الدينيين في بغداد، طالبًا منه التعاون. وخلال تلك الزيارة، أعرب حسين الصدر عن دعمه للجهود التي تبذلها الحكومة بغية احتواء فيروس كورونا. ولكن اجتماعهما لم يسهم في ردع الشعب عن المشاركة في الزيارة السنوية إلى المقام. وفي 21 آذار/مارس، زحف آلاف الزوّار نحو بغداد متجاهلين تحذيرات الحكومة. كما تجاهل الزوّار في الكثير من الحالات الحواجز الأمنية التي حاولت وقف التدفق البشري. وبعد عجز العراق عن منع الزيارة، اضطر وزير الصحة إلى مناشدة مقتدى الصدر علنًا، وهو أحد القادة الشيعة السياسيين الأكثر نفوذًا، لإصدار بيان يطلب فيه من زوّار المقام التزام الحجر المنزلي لمدة 14 يومًا لأن هؤلاء يمكن أن يصغوا إلى الصدر أكثر مما يصغي إلى وزير الصحة.
ووجد عدد من القادة الدينيين في الجدل القائم حول إغلاق المقامات فرصة لزيادة شعبيتهم في أوساط الأغلبية الشيعية. فقد يؤمّن تحدي سلطة الدولة أمام الملاء المزيد من التأييد للقادة الدينيين، ولكن اعتمد معظمهم النهج "المعتدل" بمعارضتهم مسألة إغلاق المقامات ليس إلا. وتعدّ تغريدات مقتدى الصدر أحد أبرز الأمثلة على ذلك حيث وضّح في إحداها معارضته، مصرحًا: "لا أعارض حظر التجول ولا أخالف التدابير الصحية والتنظيمية... إنما عارضنا فحسب إغلاق المقامات". وبالتالي يؤكد تدفق الآلاف إلى المقامات على الرغم من أوامر الحكومة التأثير الذي يمكن للقادة الدينيين أن يتركه في الشعب.
وفي ما يتعلق بتأثير الزعماء الدينيين على الأقلية السنية في العراق، فقد صرح المجمع الفقهي لكبار علماء الدعوة والإفتاء، وهو مؤسسة دينية سنية، في شهر شباط/فبراير بأن على الشعب التوقف عن الصلاة في الجوامع في حال فُرض حظر التجول. كما نهى بيان المجمع عن التجمعات العامة في الأسواق والمدارس. وبالإضافة إلى ذلك، أعلن ديوان الوقف السني في 16 آذار/مارس عن إغلاق جميع الجوامع في العراق وحث الناس على الصلاة في منازلهم. وفي حين كانت الأوامر الأولى للقادة الشيعة مبهمة، فإن تعليمات القادة السنة لالتزام المنازل ساعدت الحكومة في ممارسة سلطتها وتنفيذ حظر التجول في أوساط الطائفة السنية.
وغالباُ ما يطلب المتدينون من العراقيين مشورة القادة الدينيين بشأن مسائل عامة، وهذا ما يعزز نفوذهم على أتباعهم وبالتالي على المجتمع بأسره. ووفقًا لاستطلاع أجرته شبكة "أراب بارومتر"، فقد ارتفعت نسب العراقيين الذين وصفوا أنفسهم بالمتدينين في العام 2019 إلى 50 في المئة بعد أن كانت 39 في المئة في العام 2013. وعلى الرغم من أن نسبة العراقيين الذين يصنفون أنفسهم بالمتدينين مرتفعة نسبيًا، فقد عكست احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019 مستويات مختلفة من التدين إذ خرج المحتجون إلى الشوارع هاتفين: "لا للدين لا للطائفية". وقد أدّى القمع الوحشي الذي مارسته قوات الأمن العراقية ضد المحتجين مقابل تراخيها في تطبيق حظر تجول إلى إثارة غضب الكثير من الناشطين وبدت الحكومة منافقة في إجراءاتها.
وبينما يصعب تقييم ما إذا كانت القيود المفروضة على المراسم الدينية تهدد شرعية الحكومة، لا بدّ من الاعتراف بأن موافقة القادة الدينيين أو معارضتهم، أثّرت جدًا على قدرة العراق على تطبيق حظر تجول في جميع أنحاء البلاد. ولكن بعد انتشار الفيروس بين زوّار الإمام الكاظم، بدأ الشعب يدرك أن القيود تُفرض حرصًا على السلامة العامة وليس انتهاكًا للحرية الدينية. وبصرف النظر عن هذا الإدراك، يبقى الدين العامل المحفز الذي يدفع الناس إلى التجاوب مع توجيهات الحكومة، لا سيّما في الأوساط الشيعية. وفي حال امتنعت الحكومة عن استشارة القادة الدينيين النافذين، فهي تجازف بخسارة دعم المتدينين من العراقيين الذين يشكلون نسبة كبيرة من الشعب.