بعد ثبوت خبر مقتل قاسم سليماني، انتشرت على تويتر مقاطع فيديو لمتظاهرين عراقيين يتوجهون بالهتافات إلى ساحة التحرير في بغداد للاحتفال بموت الرجل الذي كان منخرطًا حتى الآونة الأخيرة انخراطًا عميقًا في السياسة العراقية. ولكن بغض النظر عما تكشفه التظاهرات الشعبية، يبقى الواقع شبه المؤكد أن الشعب العراقي منقسم انقسامًا حادًا حول هذه الحادثة المثيرة للمشاعر.
لا شك في أن بعض العراقيين، ولا سيما المنتمين إلى ميليشيات "الحشد الشعبي" الشيعية، كانوا موالين فعلاً لسليماني ويشعرون اليوم بالغضب والتوق إلى الانتقام. وثمة آخرون – حتى وإن لم يكونوا من الأحزاب الموالية لإيران - مستاؤون، وعن وجه حق، من تصعيد الولايات المتحدة للخلاف القائم بينها وبين إيران على الأراضي العراقية، خصوصًا بهذه الطريقة السافرة والخطيرة في استفزازها. لهذه الأسباب، أحسنت وزارة الخارجية الأمريكية في حثها المواطنين الأمريكيين على مغادرة العراق مباشرةً في أعقاب الأحداث الأخيرة.
ولكن في الوقت نفسه، ازداد استياء عراقيين كثر من التدخل الإيراني في البلاد – ولذا من المحتمل ألا يكونوا غاضبين من اغتيال سليماني. ويكمن الدليل على هذا القول بالدرجة الكبرى في الاحتجاجات الشعبية المتنامية ضد إيران والتي شهدت العام المنصرم على الإحراق المتكرر للقنصلية الإيرانية في معقلَي النجف والبصرة الشيعيين.
بالإضافة إلى ذلك، أثبتت استطلاعات الرأي المتكررة والموثوقة التي أجراها المستطلع المستقل الرائد في العراق منقذ داغر، وبشكل قاطع، أن غالبية الشعب العراقي – بما فيه غالبية شريحته الشيعية – انقلبت بشكل حاد ضد إيران خلال العامين أو الأعوام الثلاثة الماضية. تشديدًا على هذه النقطة، يجب على واشنطن أن تذكّر العراقيين وغيرهم أن وجود قاسم سليماني نفسه داخل العراق يشكل انتهاكًا للقانون الدولي وتحديدًا القرارات السابقة الصادرة عن مجلس الأمن التي تفرض حظر سفر دولي عليه بسبب أنشطته الخبيثة وغير الشرعية.
ولكن إذا كان الكثير من العراقيين قد لا يعتبرون مقتل سليماني مأساةً، فهذا لا يعطي المسؤولين الأمريكيين سببًا لمواصلة التبجّح بوفاة سليماني أو الإشارة إلى العراقيين الذين يرقصون في الشوارع احتفالاً بمقتله. بل على العكس، ثمة طريقة أفضل بكثير لإثبات التزام الولايات المتحدة باستقلالية العراق، وهي التأكيد على "الالتزام الأمريكي بفك التصعيد" في العراق، كما فعل وزير الخارجية بومبيو لتوّه. فهذا هو بالتأكيد ما يريده معظم العراقيين من كافة الأطياف السياسية.
وبالفعل هذه رغبة عبّر عنها الرئيس العراقي برهم صالح في بيانه الأول الحذر الذي أصدره ردًّا على مقتل سليماني – وحتى في البيان الصادر عن الشخصية السياسية النافذة في العراق مقتضى الصدر. فمن مصلحة كل المعنيين التوجه نحو مسار فك التصعيد بالرغم من صعوبته. ولا بد للولايات المتحدة أن تقوم بخطوة صعبة إنما ضرورية وهي تفادي أي أعمال عنف إضافية في العراق – حتى إذا أقدمت إيران أو وكلاؤها المحليين على أعمال انتقامية ضد أهداف أمريكية هناك. ففك التصعيد من الجانب الأمريكي يساهم في تمكين العراقيين والأمريكيين والإيرانيين من التعايش معًا على الأراضي العراقية مهما كان ذلك صعبًا.
ولكن، إذا مارس بعض العراقيين اليوم ضغوطًا أكبر داخل البرلمان وفي الشارع لطرد الأمريكيين من بلادهم، ستجد الولايات المتحدة نفسها أمام معضلة جديدة. وهذه إمكانية واقعية، لا سيما وأن الضربة الأمريكية الأخيرة على مواقع تابعة لـ"كتائب حزب الله" التي جاءت ردًّا على قتلها مقاولاً أمريكيًا كانت قد استحثت مطالبات بخروج القوات الأمريكية في وقت سابق من هذا الأسبوع. وكان كبار المسؤولين العراقيين قد طمأنوا سابقًا نظراءهم الأمريكيين إلى أنهم سيعارضون أي تصويت برلماني على هذه المسألة، ولكن ثمة احتمال بأن تكون هذه الحسابات السياسية الداخلية قد تغيرت الآن. وفي حال ازدادت الضغوط المناهضة لبقاء القوات الأمريكية في العراق، سيكون أمام أمريكا خيار احتياطي يستحق الأخذ به بجدية أكبر في المرحلة التالية.
وهذا الخيار الاحتياطي هو مواصلة توسيع الوجود الأمريكي بهدوء في "إقليم كردستان" المستقل شمال العراق، حتى إذا كانت الولايات المتحدة تعمل في الوقت نفسه على سحب بعضٍ من قواتها أو كل قواتها من الجنوب. ذلك أن "حكومة إقليم كردستان" تتمتع بدرجة أكبر من الوحدة، سواء في صداقتها مع الولايات المتحدة أو احتراسها من إيران، ولذا قد توافق على هذه الترتيبات غير التقليدية إنما المفيدة للطرفين. أضف إلى ذلك أن "حكومة إقليم كردستان" تملك السلطة القانونية والدستورية اللازمة لإقامة "علاقات تمثيلية وروابط مع الدول الخارجية" وهي لا تزال تحت السيادة العراقية. ومع أن هذه النتيجة ليست مثالية، ولكنها كفيلة بالحفاظ على الوجود الأمني المهم في العراق وفي المنطقة ككل وقد تسهم في تخفيف حدة التوتر مع كل من بغداد وطهران في أعقاب أزمة سليماني الراهنة.