- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كراهية قديمة بأشكال جديدة: مجابهة حملة الأسد المعادية للسامية في ألمانيا
مع احتفاء اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست هذا العام بمرور 75 عامًا على تحرير أوشفيتز، من المهم أن ينظر الرأي العام الألماني في التداعيات التي قد تترتب عن موجة جديدة من معاداة السامية على أرض بلاده. فالبادرة اللافتة التي قامت بها ألمانيا حين استضافت أكثر من مليون لاجئ قادمٍ من سوريا، ذاك البلد الذي تشكل فيه الحملة المعادية للسامية إحدى أبرز خصائص خطاب آل الأسد، أدّت إلى تنامي حجم اليمين المتطرف في ألمانيا وإلى احتكاك يهود ألمانيا بنوع جديد من معاداة السامية كان نظام الأسد الديكتاتوري يعتمده كآلية للسيطرة على شعبه.
إنّ الأفكار المعادية لإسرائيل وللسامية التي كانت تُلقَّن أو تُروَّج أو تُسمح في سوريا بدون انتقاد تطرح اليوم مجموعة تحديات جديدة أمام السلطات الألمانية التي لا تزال تتصارع مع ماضي بلادها. فقد أخذت ألمانيا على عاتقها، بسبب تاريخها، مسؤوليةً أكبر من الدول الأوروبية الأخرى باستقبال اللاجئين. واليوم يتوجب عليها تحمّل مسؤولية كبيرة أخرى، وهي توعية تلك المجتمعات المحلية حول الهولوكوست وخُبث المعاداة للسامية.
وأنا، بصفتي سورية تعيش في ألمانيا، أنتبه بشكل خاص إلى هذه المشكلة. قبل بدء الحرب الأهلية في سوريا، سافرتُ إلى أوروبا بنيّة تعلّم المهارات التي أحتاجها لفتح حانةٍ للنبيذ في مدينة دمشق القديمة. لكن إقامتي في حي اليهود بستراسبورغ فتحت عينيّ على أمور تتعدى تعقيدات النبيذ. فهناك واجهت جذور أحكامي المسبقة ضد اليهود، واكتشفت في طور ذلك الدور الذي تؤديه معاداة السامية في خداع شعب بلدي.
ما بدأ انتفاضةً سلمية في وطني سوريا عام 2011 اشتعل سريعًا ليتحول إلى حرب أهلية حقيقية اجتاحت دولةً بأكملها والدول المجاورة لها. وبالرغم من تأجج الصراع على مدى تسع سنوات، نجح نظام الأسد الديكتاتوري في التمسك بالسلطة وعجز المجتمع الدولي عن الإجماع على التدخل في هذه الكارثة الإنسانية فساهم بذلك في أكبر أزمة لجوء شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وهرب الكثير من هؤلاء اللاجئين من سوريا – إحدى أكثر الدول معاداةً للسامية على وجه الأرض – إلى ألمانيا التي لا تزال تعمل على إصلاح علاقتها المعقدة والمشحونة بالشعب اليهودي. واليوم ينبغي على ألمانيا أن تدرك وأن تسعى إلى فهم الطبيعة المتأصلة لنزعة معاداة السامية في سوريا من أجل التمكن من مساعدة سكانها الجدد على عيش حياتهم بدون أي أحكام مسبقة أملتها عليهم دولتهم.
نطاق معاداة السامية داخل سوريا
طوال عقود من الزمن، دأب نظام البعث السوري على بث شعور الكراهية والمعاداة للسامية ضد الشعب اليهودي بشكل ممنهج. ولعل الوجه الأوضح لمعاداة السامية يتجلى في سياسة سوريا الخارجية، إذ أن نظام البعث عمل وبشكل لا يُغتفر على دعم التنظيمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين على غرار "حماس" و"حزب الله". ولا يجوز وضع هذا الدعم في خانة دعم القضية الفلسطينية – فالحالة المروعة لمخيم اليرموك الفلسطيني في ضاحية دمشق الجنوبية تعكس استخفاف النظام السوري الفاضح بحياة الفلسطينيين. لذلك من الحري اعتبار هذا الدعم للتنظيمات الإرهابية مزيجًا بين الانتفاع السياسي والكراهية الحقيقية تجاه اليهود.
وما يرمز إلى هذا المنحى هو قرار النظام السوري باستقبال أبو داوود – وهو أحد المخططين للهجوم على أولمبياد ميونيخ – في العام 1993، لتكون بذلك سوريا هي البلد الوحيد الذي وافق على ذلك، وهكذا سمحت لذاك الإرهابي بالتملص من القانون الدولي حتى وفاته لأسباب طبيعية في العام 2010. ويشار أيضًا إلى أن الحكومة السورية كانت قد اتخذت قبل عقود قرارًا بإيواء المدعو ألويس برونر، وهو نازي فار من العدالة ومسؤول عن مقتل 128 ألف يهودي على الأقل. ويقال أيضًا إن ألويس برانر لعب دورًا أساسيًا في تأسيس جهاز المخابرات السورية المروّع والمسؤول عن مقتل العديد من السوريين.
إنّ معاداة السامية منتشرة ومتجذرة في كل مستويات المجتمع في سوريا. فرجال الدين يقتبسون الآيات القرآنية خارج سياقها التاريخي والديني لتعزيز عقيدة الكراهية هذه، في الوقت الذي يتبنّى فيه الكثير من المفكرين والفنانين السوريين خطاب الكراهية الذي يكرره النظام الديكتاتوري بدون أي جدال.
ويُعتبر الأدب الشعبي السوري أحد المجالات التي تبرز فيها العلاقة الوطيدة بين الدولة السورية والثقافة التي تمليها الدولة والمعاداة للسامية. في العام 1983، أصدر وزير الدفاع آنذاك مصطفى طلاس كتابًا بعنوان "فطير صهيون" يحكي عن حادثة "القضية الدمشقية" التاريخية التي تم فيها إلقاء القبض على 13 يهوديًا دمشقيًا بتهمة "القتل الطقوسي" عام 1840. يستعرض هذا الكتاب اتهامات عديمة الأساس على أنها وقائع، مكررًا خرافة "تشهير الدم" التي تزعم أن اليهود يقتلون غير اليهود ويستخدمون دماءهم في طقوس دينية. كان طلاس متشبثًا بمعاداته للسامية وواثقًا بأن كل اليهود – وليس الإسرائيليين فحسب – متعطشون بطبيعتهم للدم، لا بل أكّد أن اليهودية هي انحرافٌ آثم وأن اليهود يشعرون بكراهية سوداء تجاه كل البشر والأديان.
كما أن الحملة المعادية للسامية في "فطير صهيون" تكرر اللغة نفسها المستعملة في كتابَي "كفاحي" و"بروتوكولات حكماء صهيون"، وقد حقق "فطير صهيون" مستويات مماثلة لهما في الشعبية في الأوساط الدولية المعادية للسامية، علمًا بأن المكان الأسهل لشرائه هو على الأرجح دمشق حيث يباع فعليًا على نواصي الشوارع لقاء ثمنٍ زهيد يبلغ دولارين. والواقع أن الكتب المعادية للسامية المذكورة آنفًا ليست مدرجة على القائمة الطويلة للأعمال المحظورة في سوريا، وبذلك يتم نشر هذه الأعمال بدون أي نقد.
لكن المثال الأفضل والأكثر تأثيرًا عن معاداة السامية في سوريا منذ بداية عهد بشار الأسد هو ربما مسلسل "الشتات" التلفزيوني المؤلف من 29 حلقة. يطرح كاتب هذا المسلسل، إلى جانب حفنة من أبرز الممثلين السوريين، مجموعةً مهولة من الإشاعات والافتراءات المعادية للسامية، فيُظهر اليهود على أنهم أحقر وأفسد شعوب العالم. ومع أن مسلسل "الشتات" ليس الإنتاج التلفزيوني السوري أو المصري الوحيد الذي يروّج لمعاداة السامية، إلا أنه الأكثر تحقيرًا. ويُذكر أن المسلسل حقق نسبة مشاهدة في المنطقة حيث عُرض في إيران عام 2004 وفي الأردن عام 2005.
الحل الممكن: التعليم والتوعية
بالرغم من هذه الأمثلة عن تأصلّ معاداة السامية في سوريا، لا يزال بالإمكان إبطال هذا التلقين العقائدي المكثف، والخطاب العام الألماني هو في النهاية مثالٌ حي على ذلك. قبل أن أزور معتقل داخاو، لم أكن أتصوّر مقدار الوحشية والمعاناة البشرية التي تعرّض لها المعتقلون في هذا المعسكر. فهذه الأماكن، بالرغم من غيابها عن الوعي الجماعي السوري، تؤكد بشكل قاطع حدوث المحرقة اليهودية. والدموع التي ذرفتها في داخاو لم تكن دموع حزن فحسب، بل دموع خجل – خجل من الترعرع في ثقافة تُنكر الهولوكوست أو تؤكد في أفضل الأحوال أنه جاء بقرار صهيوني "للتضحية باليهود" من أجل التشجيع على الهجرة إلى إسرائيل.
واليوم تواجه ألمانيا أكثر من أي وقتٍ مضى تحدياتها الخاصة على أرضها: فعقيدة اليمين المتطرف التي عاودت الظهور في مختلف أرجاء أوروبا في ردٍّ ظاهر على أزمة اللاجئين استحثّت عودة معاداة السامية والإسلاموفوبيا إلى الواجهة – وخصوصًا في ألمانيا. من جهة، يخشى الكثيرون أن يعيش العالم مرة أخرى إحدى أحلك لحظات تاريخه إذا عجزت ألمانيا عن معالجة وضعها الراهن. فقد سبق أن طُلِب من الألمان اليهود الامتناع عن اعتمار الكيباه اليهودية في العلن وإزالة لفافات "ميزوزا" المعلقة على أبواب منازلهم – حتى أن الكثيرين بدأوا بإخفاء هويتهم. ومحاولة الهجوم على الكنيس اليهودي في مدينة هاله – الذي لم يتحوّل إلى مجزرة بكل ما للكلمة من معنى بفضل بابٍ مقفل – أدّت مع ذلك إلى خسارة الأرواح وأظهرت انعكاسات عدم معالجة المشكلة بفاعلية. من جهة أخرى، إذا أُعطيت هذه المسألة الأولوية وفق ما دعا إليه وزير خارجية ألمانيا على الملأ، سوف تتسنى لألمانيا فرصة ترسيخ مكانتها كـ"أرض الفرص" التي يأتيها الناس من كل حدب وصوب لإعادة تكوين هويتهم.
ولكن، مع أن الحكومة الألمانية تعهدت بمحاربة النزعة المعادية للسامية، اقتصرت تهديداتها بالدرجة الكبرى حتى الآن على عواقب غير واضحة على الأشخاص الذين يعتدون على اليهود الألمان. وبما أنني سورية الجنسية، فأنا أعلم أن التحذيرات وحدها لا تكفي للتصدي لعقود طويلة من الأفكار المعادية للسامية. فالمتطرفون يعتبرون في أذهانهم المحمومة أن الاعتداء على اليهود عملٌ مشرّف وشجاع، وهم في حالات عدة مكيّفون منذ ولادتهم لاعتبار اليهود أعداءهم، ويكونون أنفسهم ضحية روايات مصممة لمنعهم من تحميل ديكتاتوريي بلادهم مسؤولية البؤس المتفشي في كل العالم العربي.
يجب على السوريين أن يثقّفوا أنفسهم حول التاريخ المتواصل للمعاداة للسامية، هذا التاريخ الذي لم يبدأ مع الهولوكوست ولم ينتهِ مع قيام دولة إسرائيل. يجب على كل سوري يطمح إلى أن يكون مواطنًا أوروبيًا، أن يرفض أن يكون امتدادًا لحكومته في معاداة السامية. وتستطيع ألمانيا أن تقدم الكثير في هذا الإطار بفضل السنوات التي أمضتها في إعادة تدريب سكانها. ولكن يجب على الحكومة الألمانية أن تجعل هذه المسألة أولوية والتزامًا بالفعل كما بالقول.
إذا لم تكن أوروبا آمنة لليهود، لن تكون يومًا آمنة للأقليات الأخرى. وحين تدرك المجتمعات السورية في كل أوروبا هذا الواقع، تنبثق إمكانية حقيقية لبناء بيئة يحترم فيها اليهود والسوريون بعضهم البعض، وتشجّع على التفاهم والتعاون بين الجيران وعلى التساعد المتبادل بين الأقليات في كل أوروبا. ولكن تحقيق هذا المسعى يتطلب الكثير من الجهد والتصميم، إن كان من ناحية الحكومة الألمانية أم من ناحية المجتمعات السورية نفسها.