شهدت الكنيسة البطرسية بالكاتدرائية المرقسية في العباسية بوسط القاهرة، يوم الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تفجيرًا ضخمًا، أودى بحياة أكثر من 25 شخصاً وإصابة العشرات. ويأتي هذا التفجير؛ ليلقي بمزيد من القلق والتوتر على أوضاع الأقباط في مصر، تلك الأوضاع المتقلبة والمضطربة في الأساس منذ فترة طويلة.
وفور وقوع التفجير، انتشرت حالة من الغضب بين الأقباط وخاصة الشباب منهم، والذين توافدوا على موقع الحادث وهم يرددون هتافات وشعارات مناوئة لكل من عبد الفتاح السيسي ووزير داخليته، متهمين إياهما بالمسؤولية عن حدوث تلك المذبحة. وامتد الأمر أيضا، إلى توجيه مظاهر الغضب صوب الإعلاميين المقربين من النظام المصري، أمثال لميس الحديدي وأحمد موسى اللذين تعرضا للاعتداء والطرد من قبل المتظاهرين؛ في رسالة رافضة لوجودهما ولمحاولاتهما تبرير إخفاق النظام في منع تلك المذبحة.
ونتيجة لتلك التظاهرات التي خشي النظام أن تتفاقم ، قررت الحكومة إعلان حالة الحداد في البلاد لمدة ثلاثة أيام، وشارك السيسي في حضور الجنازة، وعوضاً عن أن تقام مراسم جنازة الضحايا بالكاتدرائية المرقسية الكبرى الواقعة في وسط القاهرة؛ كما هو متعارف عليه في مثل تلك الأحداث الكبيرة، فقد أقيمت تلك المراسم بإحدى الكنائس التي تقع في ضاحية مدينة نصر، ولم يُسْمحْ بحضورها؛ إلا لأهالي الضحايا حيث أن كل قبطي حاول الدخول إلى تلك المنطقة في ذلك اليوم بدون تصاريح؛ انتهى مصيره بالقبض عليه، مما أثار حفيظة الكثير من الأقباط تجاه تلك الإجراءات التي تمت بالتنسيق بين الدولة والكنيسة، وهم يتساءلون: أليس من حق الأقباط توديع شهدائهم؟! وكان وقد سبق أن أعلن السيسي بنفسه عن المتورط في ذلك التفجير، كما أنه عبر عن رفضه للاتهامات التي تدين أجهزة الأمن بتهمة التقصير أو الخلل.
لقد كانت الرسالة، مفادها أن نظام عبد الفتاح السيسي الذي كان يعتبر الأقباط الداعم الأكبر له؛ صار بين ليلة وضحاها يخشى تظاهرهم الناتج عن الإحساس بخيبة الأمل وانعدام الثقة. ويبدو أن السيسي قد أيقن بأن قيادة الكنسية المتمثلة في "البابا" لن تستطيع كبح جماح شباب الأقباط الغاضب، ففضل التعامل معهم عن طريق القبضة الأمنية. ولم تكن قيادة الكنسية أيضاً، بعيدة عن انتقادات الأقباط الذين يرونها تسبح في فلك النظام؛ حتى ولو كان ذلك على حساب الأقباط أنفسهم، حيث أصبح البابا "توا ضروس الثاني"، والذي صاروا يطلقون عليه لقب "بابا النظام"، محل انتقاد نتيجة تورطه في بعض الإجراءات التي ترهن مصير الأقباط بأمور سياسية. والرسالة الأخرى التي حملها تعامل السيسي مع الأقباط أمنياً، بأنه لن يتردد في استخدام القوة ضد أياً من حلفائه المقربين إذا شعر بانه سوف يعارضه أو يمثل مصدر تهديد حتى ولو محتمل.
ولم تكد الأمور تهدئ حتى ولو قليلا بالنسبة للأقباط لبضعة أيام بعد حادث التفجير المروع الذي أستهدف الكنيسة البطرسية حتى عاودت الاشتعال مرة أخرى، حيث شهدت البلاد عدداً من الحوادث في عدة محافظات منها الإسكندرية حيث قام أحد اتباع الجماعة السلفية المتشددة بذبح أحد التجار الأقباط أمام محله، كما تم العثور على قبطي وزوجته مذبوحين في منزلهما بمحافظة المنوفية، ثم في وقت لاحق تم العثور على طبيب قبطي أيضا مذبوح في شقته بمحافظة أسيوط جنوب مصر، مما يؤكد أن الأقباط مستهدفين في مختلف مناطق ومحافظات مصر.
وفى التاسع عشر من فبراير/شباط المنصرم، بث تنظيم الدولة الإسلامية بسيناء فيديو يتوعد فيه الأقباط بالاستهداف أينما كانوا واصف إياهم بأنهم مدعومين من الدول الصليبية والولايات المتحدة ولهم علاقات مع دوائر النظام المصري، واستطرد المتحدث في الفيديو "لزاماً على المجاهدين والموحدين استهداف نصارى مصر وتنغيص عيشهم، وإدخالهم في دائرة الصراع فهم من جملة المحاربين الصلبيين" على حد قوله. كما أعلن المتحدث بأن التنظيم هو من قام بتفجير الكنيسة البطرسية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وبالفعل في أعقاب بث هذا الفيديو بدأت عناصر الدولة الإسلامية في سيناء بالقيام بعمليات قتل وذبح وحرق لعدد من الأقباط في ظل غياب تام وكامل للدولة بالرغم من علمها بأن الأقباط أصبحوا الهدف الأول لتنظيم الدولة الإسلامية، وتحت وطأة تلك الهجمات الشرسة التي استهدفتم وفى ظل غياب أي دور لقوات الجيش أو الشرطة لتأمينهم، أمسى الأقباط المتواجدين في سيناء عرضة للتهجير وبدأوا بالنزوح القسري إلى مدينة الإسماعلية في منطقة غرب قناة السويس، تاركين ورائهم منازلهم وممتلكاتهم، ويقدر عدد هؤلاء حتى الأن ب 133 أسرة بأجمالي 546 فرد.
وبدلاً من البحث عن حل لمشكلة هؤلاء على أساس انهم مواطنين مصريين بغض النظر عن الانتماء الديني، اخذ النظام في استخدام أذرعه الإعلامية لنزع صفة النزوح والتهجير عما حدث، وكعادته في مساندة النظام على حساب الأقباط؛ خرج البابا تواضروس لإصدار بيان في الأول من مارس الجاري يرفض فيه استخدام لفظ التهجير لوصف ما يحدث. مما أثار موجة من السخط والاستياء ليس فقط بين الأقباط ولكن أيضاً بين نشطاء حقوق الأنسان والمجتمع المدني الذين يروا في تصريحات البابا نوع من التدليس للحقائق ومساعدة النظام على التهرب من مسئولياته أمام المجتمع والقانون الدولي.
وبالرغم من كل هذا الغضب العارم بين صفوف السواد الأعظم من الأقباط، كانت هناك بعض الأصوات القبطية التي تحاول تبرئة سمعة نظام السيسي من المصائب المتلاحقة التي تحيق بالأقباط، مستخدمين نفس حجة النظام في تخويف الأقباط بفزاعة عودة الإسلامين إلى المشهد كبديل عن النظام الحالي في حالة المطالبة برحيله.
وهنا وبعد مرور قرابة ثلاثة أعوام على حكم السيسي يجد الأقباط أحوالهم تصاب بحالة من التدهور المستمر الذي صار غير معروف نهايته بعد وصول العنف ضدهم إلى مراحل غير مسبوقة، حتى صار ما كانوا يخشون وقوعه من تعرض لنفس مصير الأقليات الأخرى التي كانت بسوريا والعراق أمر واقع؛ ومروا بكل تفاصليه من تدمير للكنائس لقتل وذبح وحرق للأشخاص ونهب للممتلكات وصولاً إلى مرحلة التهجير القسري والنزوح الجماعي.
وفى النهاية لن يحصل الأقباط تحت حكم السيسي إلا على المزيد من الخسائر المستمرة والمزيد من التخلي عنهم وتركهم فريسة في براثن الإرهاب حتى يبرر شرعية استمراره أمام العالم كمحارب للإرهاب على غير الحقيقة الواقعة، وبالتزامن مع هذه الخسائر التي يتعرض لها الأقباط فلن يحصلوا من السيسي إلا على زيارة كل عام لقداس عيد الميلاد ومزيد من الوعود الفارغة والكلام المعسول، التي لا تعد كونها أكثر من رسائل لتحسين صورته أمام الغرب أكثر منها اهتمام موجه للأقباط أو الداخل المصري.
وتأتى كل هذه التطورات اللافتة في المشهد المصري، لتزيده تعقيداً وتلقى بظلال القلق ليس فقط على أحوال الأقباط بل أيضاً على مصر ، ليصبح التساؤل ليس فقط حول مستقبل الأقباط بل حول مستقبل مصر بشكل عام تحت حكم السيسي.