- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هبوط «الإمبراطورية الفارسية الرابعة» (وسقوطها؟)
يثير توقيت القيادة الإيرانية رفع الدعم عن أسعار الوقود، بما أدّى عملياً إلى مضاعفة الكلفة على المستهلكين، تساؤلات أساسية حول طبيعة الحساب السياسي في طهران. إذ على الرغم من استفحال المظاهرات في العراق، جوار إيران المباشر، وما تحمله من صرخات مدوية رافضة للتدخل والنفوذ الإيرانيين في بلاد الرافدين، وعلى الرغم من ثورة شعبية غير مسبوقة في لبنان تعيد رسم معالم الحياة السياسية في بلاد الأرز، وتشكل تحدياً عميقاً للقبضة الإيرانية على الطائفة الشيعية، تصرّف حكام طهران على ما يبدو بكامل الاطمئنان إلى ثبات سلطانهم ودون اعتبار لاحتمال انتقال عدوى الاحتجاج إلى جمهورهم الداخلي. وهذا الحساب، والذي كشفت ردة فعل الجمهور الإيراني عن خطئه، يستدعي المزيد من الحيرة لأن الدافع الأولي للحراك الاعتراضي في كل من العراق ولبنان كان فجور الحكم واستباحة موارد جمهور فقد للتوّ ثقته بالطبقة السياسية في بلاده.
وقد ينظر إلى إقدام النظام الإيراني على المضي قدماً بتنفيذ قراره رغم كل هذه المعطيات على أنه انعكاس لغرور السلطة ولفائض القناعة بالقدرة على تجاوز الإرادة الشعبية وفرض مشيئة النظام بالقوة. وقد تجد هذه القراءة ما يؤيدها في النجاح الفوري الظاهر بقمع الحراك في كافة المدن والبلدات الإيرانية، رغم عدم اتضاح فعالية القمع على المدى البعيد. على أن التقييم الأقرب إلى الصواب هو بالإشارة إلى درجة من الإنكار تطال مستويات عدة من النظام حول التباعد بين السردية التي تعتمدها الجمهورية الإسلامية وبين مصالح جمهور المحكومين وتوجهاتهم. والأرجح أنه لكل من الغرور والإنكار حصّة لفهم سلوك القيادة الإيرانية، ولقرارها بتجاوز آخر أطلال الصيغة التمثيلية الوهمية التي تتبعها، أي مجلس النواب، في اجتراح قرارات التقشف الاقتصادي ووضعها موضع التنفيذ. على أن هذين الدافعين من شأنها كذلك الدفع باتجاه مرحلة جديدة من العنف، من إيران وصولاً إلى لبنان.
ويمكن الاستفادة من متابعة لردة الفعل الإيرانية الأولية على الحراك الشعبي في كل من العراق ولبنان لتبين الحسابات التي اعتمدها النظام الإيراني في تعامله مع الحركة الاحتجاجية لديه. فالتصريحات الصادرة عن المرشد والرئيس في طهران ميّزت في المرحلة الأولى بين المطالب المشروعة للإصلاح والمساءلة في الاحتجاجات العراقية واللبنانية، وبين مآرب القوى التي تتربص وفق زعمها بعموم المنطقة شراً (أي الغرب، وفي صدارته الولايات المتحدة، ودول الخليج المولجة بالتمويل، وطبعاً إسرائيل)، وهي التي دفعت باتجاه الفوضى وتحريف الاحتجاجات لإبعادها عن أغراضها المشروعة. غير أن العمقين الزمني والمطلبي للحركات الاحتجاجية، والتي أعلنت زوال الثقة بالحكم على التوالي في كل من بغداد وبيروت، وطالبت برحيل الطبقة السياسية برمّتها، أرغمت طهران على إعادة النظر بمواقفها. فجسامة الحوادث المستجدة بدت وكأنها فاجأت إيران وأذرعها المحلية.
في العراق، ربط المتظاهرون صراحة وبالصوت المرفوع بين الفساد والتبعية لإيران. بل، في فعل تحدٍ، جرى إحراق صور للمرشد الأعلى الإيراني. وقد أشعلت هذه الأفعال رداً فورياً، فعمدت أجهزة الدولة العراقية الخاضعة للنفوذ الإيراني والفصائل المسلحة الموالية لطهران إلى قمع وحشي للمتظاهرين، صاحبه إطلاق الاتهامات لسائر أجهزة الدولة ومؤسساتها، المصابة بقدر أقل من الاختراق الإيراني، بتنفيذ «انقلاب» يستهدف الحكومة الشرعية (المدجّنة إيرانياً). وإذ اضطرت الحكومة العراقية، نتيجة الضغوط الدولية، إلى إصدار التقارير الاستقصائية حول الممارسات القمعية، فإن ذلك لا يشكل أي وازع لمنع تكرارها، بل تبدو بغداد مقعدة نتيجة العجز أمام استمرار القناصين والتشكيلات المسلحة الموالية لإيران بتعريض المتظاهرين بشكل شبه يومي للقتل والأذى.
أما في لبنان، حيث استقرّ الزعم (والمخالف بحقيقته للواقع) بأن حزب الله هو الاستثناء بترفعه عن الفساد المشتري في مفاصل الدولة اللبنانية، فردة الفعل الأولى على الاحتجاجات مالت إلى محاولة تجييرها للمزيد من وضع اليد على الطبقة السياسية والنظام السياسي القائم على المحاصصة. غير أنه سرعان ما تبدّى أن الاحتجاجات ليست تنفيساً عابراً عن مشاعر مكبوتة، بل مطالبة مثابرة للتغيير الحقيقي.
والأسوأ، من وجهة نظر إيرانية، هو أن «ثورة السابع عشر من تشرين» قد تمكنت من الاستقطاب في عمق الطائفة الشيعية. فحين ترتفع أصوات من هذه الطائفة مطالبة برحيل الطبقة السياسية بأكملها، فإن الأمر ينضوي على مخاطر جدية لكافة أدوات إيران وحلفائها. فكان لا بد من الشروع بخطوات متتالية لتصحيح الوضع والمحافظة على فائض القوة، ما أدّى إلى وضع «المقاومة» في مواجهة صريحة إزاء «الثورة».
حيث خرج المتظاهرون في المدن والبلدات ذات الوجه الشيعي الغالب، والتي تصنّف على أنها «بيئة» المقاومة الموالية لإيران، كانت الخطوة اللجوء إلى القمع والترهيب. وحيث نشر الناشطون أو المواطنون العاديون من أهل هذه «البيئة» رسائل على منصات التواصل الاجتماعي تبدو مسيئة لـ «المقاومة» أو المقربين منها، جرى تصيدهم ودعوتهم/إرغامهم على إصدار تسجيلات مفعمة بالأسف والاعتذار. أما في وسط بيروت، والذي اتخذته «الثورة» منصة وطنية لها، فجرى إفلات «المقاومين» من ذوي القصمان السود، بالعصي ومستوعبات الوقود، مع إصرار الإعلام الموالي لإيران على تصويرهم على أنهم من «أهالي المنطقة» الذين ساءهم ما طال أعمالهم من إضرار نتيجة الاعتصامات، ليضربوا المتظاهرين نساءاً ورجالاً الضرب المبرح، وليضرموا النيران بالخيم والأكشاك والمسارح التي أبرزت وجهاً احتفالياً فريداً للثورة اللبنانية. وخلال الأسابيع الماضية، استمر الصف التابع لإيران في تطبيق خطته الهادفة إلى تخويف المتظاهرين، ودفعهم نحو الإحباط واستنزاف مواردهم الذاتية التي تموّل الثورة، وذلك من خلال الهجوم الوحشي المتتابع عليهم بالعنف والضرب، ومن خلال تدمير أشكال التعبير الثقافية والاجتماعية للثورة. ولا يزال إصرار الثوار على الاستمرار وإعادة بناء ما تهدم والمثابرة على الأجواء الاحتفالية الجامعة لثورتهم قائماً إلى اليوم رغم الترهيب.
وفي كل من العراق ولبنان، رست السردية الموالية لإيران حول الاحتجاجات على تجاهل الواقع الموضوعي وعلى اعتبار الحراكات مرتبطة بـ «السفارات»، التي خلقتها أو استغلتها، أو على أقل تقدير أنها مشبوهة إن لم تكن صنيعة أعداء الخارج. ومع حال الإنكار هذا، حين تصدر التصريحات المتشابهة حول عمالة الاحتجاجات من كل من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية والأمين العام لحزب الله في لبنان، وحين تفيد التقارير أن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني هو الذي يدير عمليات مكافحة الاضطرابات في العراق، لا بد من استشفاف المزيد من الخطوات القمعية في المرحلة المقبلة.
ثمة ما يدعو، من وجهة نظر إيران ومن يواليها، إلى اعتبار الأوضاع الحالية استمرار لتحديات سابقة. فالاحتجاجات في العراق تكاد أن تكون متوالية على مدى الأعوام الماضية، ولكنها كانت دوماً قابلة للاحتواء في نهاية المطاف. والاحتواء قد تحقق في لبنان كذلك من خلال إسكات الأصوات المعارضة لإيران، سواء عبر حملة الإغتيالات التي قضت على نخبة مختارة منهم، أو من خلال ما طال سائرهم من تخويف واستيعاب. بل إيران نفسها سبق لها أن شهدت احتجاجات داخلية ذات دوافع اقتصادية، وإن وصفت بأن من أشعل فتيلها هو الخارج. غير أن قمع هذه الاحتجاجات قد تحقق من خلال منظومة أمنية سريعة التحرك. فبناءاً على هذه النجاحات في ضبط ما سبق، بدت التحديات الحالية وكأنها تحت السيطرة بل قد تشكل فرص يمكن الاستفادة منها. ومن منظور ذاتي، كانت «الجمهورية الإسلامية» في موقع المطمئن على انتشارها في المنطقة.
في لبنان، رغم مضي قرابة العقدين على انتهاء الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من البلاد، وهو الاحتلال الذي كان لمقاومة حزب الله له موقع تقدير وطني وعالمي، فإن هذا الحزب الذي أسسته وتموّله وتوجهه إيران ما زال قادراً، بحجة المقاومة ووهجها، على اعتراض كافة التحديات لـ «حقه» بأن يبقى جيشاً رديفاً للجيش الوطني، غير خاضع للمساءلة والمحاسبة. بل من خلال تحكم حزب الله بالطائفة الشيعية، ومن خلال الاستقواء الذي منحه لأطراف فئوية مختارة، نجح إيران بوضع اليد على قرار الدولة والمجتمع في لبنان.
وفي إعادة استنساخ للنموذج اللبناني الناجح، تعوّل إيران في العراق على الرصيد المعنوي لفصائل الحشد الشعبي التابعة لها، والتي قدمّت تضحيات كبيرة بالأرواح في مواجهة إرهاب «تنظيم الدولة»، لتعزيز حضورها على مدى الفضاء العراقي، والمتحقق للتو من خلال نشر المرتبطين في أجهزة الدولة ودوائرها، أو من خلال إعادة توجيه الموارد الوطنية العراقية لخدمة الأغراض الإيرانية. وتأتي التقارير الاستقصائية الأخيرة المنشورة في صحيفة «نيويورك تايمس» وعلى موقع «ذي إنترسپت»، والمبنية على وثائق نادرة مسربة من إيران نفسها، لتؤكد على مدى اتساع الاختراق الإيراني في العراق.
أما النفوذ الإيراني في سوريا واليمن فهو يأخذ أشكالاً مختلفة عن تلك القائمة في العراق ولبنان، غير أن الحضور الإيراني على مدى المنطقة قد سمح لبعض أساطين الحكم في طهران الحديث عن أن إيران اليوم هي في الواقع «إمبراطورية فارسية رابعة» تمتد من وسط آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط.
وإيران اليوم تكرر، من خلال الشبكة الإعلامية الفاعلة على مدى المنطقة والتابعة لها، أنها قد انتصرت على محاولات التحالف الغربي الخليجي الإسرائيلي لتركيعها. ومضمون الرسالة الإعلامية التي تنشرها إيران هو أنها قد نجحت في تجاوز الحصار والعقوبات. هي تعترف أنه لا شك أن إجراءات «الضغط الأقصى» والتي تطبقها الولايات المتحدة قد تسببت ببعض الضيق. غير أن الغلبة وفق خطابها للتوّ هي لإيران، إذ أثبتت أنها رغم الصعوبات الاقتصادية تبقى راسخة في خياراتها للسياسة الخارجية.
غير أن موقع الهشاشة في هذه «الإمبراطورية» الإيرانية جديدة قد تبين في الداخل الإيراني، وهو في التباعد بين قراءة القيادة لموقع البلاد في العالم وفي السياسات الخارجية، وبين المطالب المتحققة واللاحقة تقديراً لجمهور إيراني تصمّ القيادة آذانها عن الإصغاء إلى مطالباته بالكرامة والمحاسبة ورفع الضيم. فحيث ترى هذه القيادة تضحيات تستوجب التقدير، يرى الجمهور حرماناً مهيناً. وحيث تعتبر القيادة حالات الفساد السافرة مسائل عرضية عابرة، يرى الجمهور استباحة ممنهجة لثرواته.
وقد قدّم أمين عام حزب الله عند آخر إطلالاته المتكررة، في مشهد يكاد أن يكون خيالياً، الإطراء المسهب على الشعب اليمني، والذي رضي بالفقر وفقدان الخدمات، والحر والحروب المتواصلة، ليبقى صامداً بوجه إسرائيل (البعيدة جداً). أغدق أمين عام الحزب مديحه هذا في خضمّ أزمة نقدية واقتصادية تفتك بلبنان، وأسبابها عائدة وإن جزئياً إلى حزب الله نفسه، فيما هو طمأن للبنانيين إلى أنه لا خطر على الأموال اللازمة لديمومة «المقاومة»، إذ أن هذه تأتي مباشرة من إيران، ولا تمر عبر النظام المصرفي، والذي يهدد انهياره العتيد خراب عيش اللبنانيين وضياع نمط حياتهم.
يعكس هذا الخطاب الذهنية العقائدية للمحور الإيراني، والتي تفترض بأن عزاء اللبنانيين، والعراقيين، والإيرانيين، إذ يتخبطون في الخراب الاقتصادي والاجتماعي المفروض عليهم، هو أن المقاومة سوف تبقى «شوكة في خاصرة العدو»، وإن نظرياً وحسب.
ثمة خطر جدي في هذا الابتعاد عن القراءة الواقعية، وفي رفض الإقرار بأن التصور الوهمي لعالم مبني على الحروب هو عامل رئيسي في استنزاف الموارد المحلية وفي تعريض الحياة والرخاء على مدى المنطقة لمجازفات لا مبرر لها. فالنظر المجرد إلى الأوضاع من شأنه أن يكشف استحالة الاستمرار بالهيمنة الإيرانية لما تقتضيه من جرف متواصل لموارد ليس من الشأن التوسع أن يضمنها، في حين أن هذا الجرف، في استنزافه للأموال العامة سوف يحقق الكارثة الاقتصادية بالتأكيد.
في بعض الأوساط القيادية لمحور المقاومة، في طهران كما في بغداد وبيروت، وعي فعلي على ما يبدو لهذه الحقيقة الشفافة، ما يفسّر جنوحهم في الاستيلاء على المال العام، إلى الانتقال من صيغة «حلب البقرة» أي بما يضمن الفساد المستدام، إلى «استنزاف البقرة» والذي ينهب المال العام إلى حد إنضابه. أما القلة العقائدية والتي تصرّ على رؤية «حركات تحرير» حيث تنتشر قوى أمر واقع تتعاطى مع الناس بمنطق الاحتلال القاهر وتحرمها من حقوقها الأساسية، فالتوجه هو إلى المزيد من الإمعان في الذهنية الخرافية حول مواجهة وجودية ما. وهذا التوجه كما ذاك من شأنه الإسراع في الوصول إلى المزيد من العنف.
فـ «الإمبراطورية الفارسية الرابعة» هي في حالة هبوط عائدة إلى استحالة ديمومتها ذاتياً. وتأتي العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة لتسرّع من وتيرة الانحدار وحسب. واليوم مع التلاقي بين الندرة المتصاعدة للموارد المتوفرة، والجشع المتزايد للسلطات الناهبة، والوعي الذاتي المتحقق لدى القواعد الشعبية، فإن الحركات الاحتجاجية أشبه بمارد خرج من القمقم، ولا يمكن استشفاف تصور مستقبلي يمكن معه لصيغة التسلط الخارجي المفلسة من الاستمرار على المدى البعيد. ولبنان ليس بمنأى عن أن تنحدر الأوضاع فيه إلى حال العنف القمعي الذي يشهده كل من العراق وإيران. وفي جميع هذه الدول، المواجهة هي معركة غير متوازنة بين محتجين غير مسلحين يسعون وراء مطالب مصلحية واقعية وقيم عالمية، في مقابل أدوات تابعة لنظام عقائدي محكوم بأوهام العظمة والاستعلاء.
لا يحتاج ثوار العراق ولبنان، وربما في غد قريب ثوار إيران، للسلاح لموازنة هذه الحالة المجحفة القائمة، ولا تفيدهم التصريحات الصادرة من بعض العواصم العالمية والتي تزعم النطق بمطالبهم. ولكنهم بالتأكيد بحاجة إلى الدعم المبدئي والفعلي. ففي مواجهة محاولات نظام طهران وعملائه قطع الاتصالات، وخاصة عبر الشبكة العالمية، يحتاج الثوار بإلحاح إلى وسائل بديلة لمقاومة العرقلة المفروضة على قدرتهم على إيصال المعلومة والوصول إليها، وعلى التنسيق مع بعضهم البعض.
والأهم هو أن المحتجين بحاجة إلى من يعترض على القوة القاهرة الظالمة التي يواجهون بها، وذلك من خلال الإدانات الدولية والمعاقبة الفعلية للمرتكبين والمسؤولين. فالعالم الذي أتاح الاندفاعات الشاهنشاهية للعقائديين من حكام طهران، أو قبل بها أو غضّ النظر عنها، عليه أن يجعل من دماء المحتجين الخط الأحمر لإيران وجميع أدواتها. فالإمبراطورية الفارسية الرابعة، ساعة تحرم من القوة القمع الغاشمة لديها، سوف تحاسب وتجازى، ومصيرها سوف يحدده من هم اليوم ضحاياها.