في حين أن مفهوم «الإسلام المعتدل» يلقى الترحيب في الأوساط التي تشتكي من توحيش صورة الدين، إلا أنه ينضوي على قبول ضمني للطرح القطعي بأن الانتماء الديني هو الهوية وصيغة التعريف الحصرية لكل من يدخل الإسلام في تشكيل هويته الإيمانية والحضارية، وهذا معيار قلّ تطبيقه فيما يتعلق بالديانات الأخرى.
إزاء تأصيل العلماء القطعيين والناشطين الجهاديين للقتل والإرهاب ضمن العقيدة الإسلامية، يأتي رد العديد من المفكرين المخلصين، من المسلمين وغير المسلمين، من خلال تأطير صيغة أكثر اعتدالاً للدين الإسلامي. غير أن التدقيق في هذا المنحى، والذي يبدو بديهياً للوهلة الأولى، يكشف عن إشكالية تبدد من فعاليته، وتدعو إلى التخفيض من التعويل عليه كأساس في مواجهة القطعية.
في حين أن مفهوم «الإسلام المعتدل» يلقى الترحيب في الأوساط التي تشتكي من توحيش صورة الدين، إلا أنه ينضوي على قبول ضمني للطرح القطعي بأن الانتماء الديني هو الهوية وصيغة التعريف الحصرية لكل من يدخل الإسلام في تشكيل هويته الإيمانية والحضارية، وهذا معيار قلّ تطبيقه فيما يتعلق بالديانات الأخرى.
طبعاً وحكماً، المسلمون بعديدهم بل بمعظمهم، يضعون الدين في صدر استيعابهم لعالمهم وتفاعلهم معه. إلا أن دور الإيمان والأحكام والشعائر في حياتهم هو في حوار وجدل مستمرين مع سائر مكونات الشخصية، الفردية منها والجماعية، سواءاً كانت الثقافة أو الوطن أو الأمة أو اللغة أو التوجه الفكري أو النمط المعيشي. وتقادم هذه المكونات هو بحكم الظرف والحال، وليس أسير هرمية تقريرية. وعلى الرغم من القناعة بأحادية الإسلام، فإن اعتناقه وإقامته والتزامه تأتي بأشكال مختلفة متفاوتة، متجانسة حيناً ومتعارضة أحياناً، مستقاة من المصادر المتوازية للتجربة الدينية.
وحدة الدين ووحدة الأمة من القناعات الإجمالية السائدة في مختلف الأوساط المسلمة. إلا أنه ثمة جهد متواصل، يبقى إلى اليوم عند مستوى المشروع، للانتقال بهذه القناعات من الإجمال إلى التفصيل سعياً لفرض منظومة دينية معيارية واحدة. والمفارقة أن كل من دعاة القطعية في الدين والسياسة، ودعاة التوصل إلى صياغة معتدلة للدين يعملون باندفاع لتحقيق هذا الهدف. فالطرح القطعي والطرح المعتدل مختلفان من حيث المضمون، إلا أن كل منهما ينشط لإيجاد مادة مرجعية موحّدة يقتصر تعريف الدين عليها. أي أن كل منهما يسعى إلى تحديد معالم الإسلام الحقيقي، واعتبار كل ما خرج عن هذا التحديد تشويهاً مرفوضاً للإسلام. أما التجربة المعاشة فهي أن تعابير الدين قد استعصت عبر المكان والزمان على محاولات احتوائها وتأطيرها، فكان منها المتوافق مع مقررات العلماء ومنها الخارج عن بعضها ومنها المناقض لها ومنها المنتقي منها ومن غيرها ما شاء. فدعم مفهوم «الإسلام المعتدل»، إذ يرسم العلماء والمفكرون المصنفون معتدلين معالمه، هو بمثابة اتخاذ موقف إلى جانب مشروع التأحيد الهادف إلى المعيارية، وإن كانت هذه المعيارية معتدلة، على حساب التعددية غير المقيدة. وهنا تقع مقولة الإسلام المعتدل كوسيلة للتقدم الاجتماعي في خطأ جوهري أول.
فالدعوة إلى الإسلام المعتدل تشكل، من حيث تدري أو من حيث لا تدري، تغليب القراءة التي يعتمدها العلماء، بمجموعهم كمؤسسة علمية، على أنها الصيغة الأصلية للدين، على أمل أن تتفوق الآراء المعتدلة لبعض هؤلاء العلماء على الطروحات القطعية. إلا أن هذا الأمل يتلاشى عند استعراض السجال العقدي خلال القرن الماضي، بل يبدو عند التدقيق أن الطروحات القطعية نفسها هي نتيجة تلقائية للمنحى المعتدل، وهو الذي يطلب منه اليوم أن يدحضها.
المقصود بالمؤسسة العلمية الإسلامية مجموع العلماء المعنيين بالعلوم الشرعية، من التفسير والحديث والفقه والعقيدة والسلوك، على اختلاف مذاهبهم وفرقهم وطرقهم، وهم لم يشكلوا يوماً هيئة واحدة، ولكن توافقهم الضمني على الأصول المنهجية والمصادر المعرفية يجيز الإشارة إليهم جماعياً كمؤسسة. وإذا كانت هذه المؤسسة قد استفادت عبر تاريخها في الفترة السابقة للدولة الحديثة من حاجة الدول المتعاقبة إلى خريجيها لشغل الوظائف الإدارية والقضائية المختلفة، فإنها قد قدّمت كذلك للاسشتراق الغربي، من خلال مادتها المكتوبة الوفيرة، النافذة الأولى بل الوحيدة في غالب الأحيان على المعتقد والثقافة للأوساط الإسلامية المختلفة. والملاحظ بشأن هذه المؤسسة العلمية في مرحلة ما قبل الحداثة، بأنها احتملت قدراً مرتفعاً من التعارض في نظمها الفقهية والعقدية. بل كان الميل عامة إلى نبذ محاولات الإصرار على التأحيد والقياسية الملزمة على أنها مثيرة للشقاق، وعليه كان الموقف السلبي الشائع مثلاً من ابن تيمية ومن سار في خطاه، في قراءتهم التشذيبية لنتاج السلف.
غير أن حداثة القرن التاسع عشر أعادت إحياء مشروع ابن تيمية، وإن على أساس مسلمات مختلفة. فانطلاقاً من قناعة بالتوافق الأساسي بين الدين والحضارة، اجتهد الحداثيون من رجال الدين في مسعى لاستخلاص صفاء الدين من شوائب الوهم والخرافة، مستفيدين من أدوات علمية جديدة كان لها الأثر العميق في تطور العقيدة الإسلامية.
أولى هذه الأدوات كانت مجاراة السياق التاريخي للمرحلة التأسيسية للدين الإسلامي. ذلك أنه عبر القرون، تقدمت روايات الشمائل على أخبار السيرة في ذكر الرسول، بما فيها من تداخل للغيبي بالواقعي. أما حداثيو القرن التاسع عشر، فقد سعوا إلى إبراز الرسول كباني دولة ومؤسس حضارة، وذلك عبر تهذيب الأخبار وتمحيص الروايات. فبعد أن كان مقام الرسول في معظم الوعي الإسلامي الوصل بين العالمين العلوي والسفلي، جاءت به الحداثة إلى صلب التاريخ الإنساني، وإن أبقته في صدارته. فالقراءة الإسلامية الحداثية للتاريخ النبوي وافقت على المقاربة الاستشراقية الغربية، والتي اعتبرت بأنه يمكن العودة إلى الموروث النصي، رغم تأخر تسجيله وعدم اتساقه، للحصول على رواية وقائعية مقرّرة لتاريخ الرسول، وأن تسلسل الأحداث كان فاصلاً في تشكل الدين الإسلامي. وإذا كانت متابعة المستشرقين لهذا التسلسل ترى فيه استفادة من المتاح وحسب، فإنه، من وجهة نظر الحداثيين ثم التقدميين في وقت لاحق كان تدرجاً باتجاه إقامة نظام الحكم العادل.
أما الأداة الثانية فهي المفاضلة بين الأخبار على أساس انسجامها مع الأصول والمبادئ. وعلم الحديث كان قد تضمن طبعاً اعتبار متون الروايات، فالجديد ليس الأسلوب بل الميزان والذي أصبح تأكيد انسجام الإسلام مع التنوير المتحقق في أوروپا. ففي سعي العلماء الحداثيين والتقدميين إلى تأصيل إسلام معاصر مواكب للقيم العالمية ومتوافق معها، جرى إسقاط العديد من الضوابط التي كانت قد حصّنت الروايات إزاء الترك في حال الضعف، وإزاء الاعتماد في حال الغرابة، وهي الضوابط التي كانت تقف بوجه التلفيق والتدليس والانتقائية الأهوائية.
فبروز العقيدة الإسلامية التقدمية، والتي كان لها النفوذ في معظم القرن العشرين، قد انطلق من هذه التبديلات المنهجية. إذ حصل التركيز على قراءات جديدة للمرحلة التأسيسية للإسلام تعظّم ما توافق مع القيم العالمية وتمّ انتخاب التفاسير والروايات والأخبار والأحكام التي يمكن استدعائها دعماً للديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، بما في ذلك رفض الصرامة النسبية في إلزام المسلم التقليد وأقصار نطاق سلطة علماء الدين على الشؤون الدينية.
ويلاحظ بالتالي أن العقيدة الإسلامية القطعية، والتي استتبت في القسم الأخير من القرن العشرين، لم تأتِ بالجديد، فهي وحسب قد عمدت إلى تطبيق الأدوات التي استحدثتها العقيدة الإسلامية التقدمية، ولكن على أساس منطلقات مختلفة. فبدلاً من العمل على التوافق مع الأفكار التنويرية، سعت العقيدة القطعية إلى تحقيق البراء من غير المسلمين. أما اعتماد السياق التسلسلي لحياة الرسول، فأمر مرحّب به من وجهة النظر القطعية، حيث أن الفصول الأخيرة من السيرة حافلة بالغزوات والمعارك، فيما أكثر الدعوات إلى التسامح والتراحم تعود إلى المراحل الأولى من الدعوة. فالمخزون النصي أكثر قابلية عبر التلفيق والتدليس والانتقائية الأهوائية لاستخراج جملة من الأحكام والأخبار الداعية إلى الشدة والقسوة، على حساب اللين والسماحة والرحمة والتي سعت إلى إبرازها العقيدة التقدمية.
ففي مقابل كل خبر يفيد بقبول غير المسلم وكل حكم يساوي المرأة بالرجل، بوسع العقيدة القطعية أن تأتي بأخبار عدة وأحكام جمّة، من صلب النصوص لا من هوامشها، تغلّب رفض غير المسلم وتصغيره وتأصّل إلزام المرأة بقوامية الرجل. وكان الاعتبار القائم لكل من أحكام اللين على قلّتها وأحكام الشدة على كثرتها يلزم علماء الدين في الماضي بالامتناع عن الافتاء القسوة، انطلاقاً من أصل فقهي يعترض تجاهل أي منها. ولكن مع إسقاط العقيدة التقدمية للعديد من أحكام الشدة، أمسى بإمكان العقيدة القطعية، دون تحرّج، إبطال العمل بأحكام اللين، وصولاً إلى فرض الصرامة على كافة أوجه حياة الإنسان. فالمماثلة في المنهج تجعل من العقيدة القطعية نتيجة تلقائية للعقيدة التقدمية.
ورغم هذه العلاقة السببية، فإن دعاة الإسلام المعتدل لا يزالون يتوقعون من الداء، أي المنهج، أن يكون الدواء، فيجري انتخاب جملة جديدة من الروايات والأحكام من المخزون النصي، يتمّ من خلالها نقد العقيدة القطعية ونقضها. هو بحث تائه لا جدوى منه. بل لا بد من الإقرار بأن النقلة النوعية في المنهجية المعرفية، والقاضية برفض التعارض الداخلي والإصرار على نظام متجانس متكامل، قد أضرّت بالرصيد العلمي الإسلامي كمصدر لقيم التسامح والتراحم.
من حق علماء الدين والمفكرين المسلمين، لا بل من واجبهم، السعي إلى تحقيق نقلات نوعية جديدة قد تتمكن من إعادة التوافق بين العقيدة الإسلامية والقيم التي يتشارك بها المسلمون وغير المسلمين، بما فيها عصمة الكرامة والحرية والمساواة للجميع. إلا أن القضية اليوم هي في تداخل أزمتين، أزمة في المؤسسة العلمية وأزمة في المجتمع والسياسة. ولا يجوز افتراض اقتصار التجربة الدينية الإسلامية على الرصيد العلمي والمؤسسة العلمية، وإن أصرّ العلماء، القطعيون منهم والمعتدلون، على وصايتهم على الدين. فالإسلام المُعاش بالنسبة للعديد من المسلمين هو كذلك تقوى فردية، وشعائرية طرقية، وروحانية، وزهدية، وقبول بالتجليات الإلهية في إيمان الآخرين. ولا يجوز الافتراض بأن الدين بمختلف أوجه تلقيه، العلمية والروحية وغيرها، يختزل الهموم الذاتية والجماعية لمن يحمل الإسلام ديناً أو حضارة أو ثقافة.
وعليه يصبح فك الارتباط بين الأزمتين السبيل الأنجع لمعالجة كل منهما. ففيما المؤسسة العلمية تتطرق إلى أزمتها، وبدلاً من إقحام عموم الثقافة بسجال ضمنها بين التوجهين القطعي والتقدمي، قد يكون من الأنسب أن توضع المواجهة الفكرية التي يتطلبها حل الأزمة الاجتماعية السياسية في إطار المفاضلة بين القيم التي تجمع الناس بغضّ النظر عن قناعاتهم الدينية، وبين القطعية الساعية إلى فرض صرامة شمولية، وإن تسلحت برداء الدين.