- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مكافحة الفساد في الجزائر ترحيب بتوجس
أدت الحملة التي قامت بها الحكومة الانتقالية الجزائرية مؤخراً إلى القبض على عدد من كبار المسؤولين البارزين من عهد بوتفليقة، وتوجيه عدة تهم لهم تتعلق بالفساد في محكمة سيدي محمد الابتدائية في الجزائر العاصمة. وفي حين أن الفساد الممنهج كان يمثل أحد أبرز القضايا التي غذت حركة الاحتجاج الأخيرة في الجزائر، إلا أن الأسئلة المتعلقة بالدوافع الكامنة وراء حملة الاعتقالات ساهمت في إضعاف ثقة الجمهور في النظام سياسي والاقتصادي المبهم. كما أن هناك مخاوف من تسييس جهود مكافحة الفساد والتي قد تؤدى إلى تغذية وتمكين اقتصاد الظل والتضحية بالاستثمار طويل الأجل والنمو المطرد في الجزائر.
ساهم أيضا الغموض بشأن مستقبل القيادة السياسية للبلاد إلى إطالة الأزمة الاقتصادية في الجزائر وفرض قيودًا كبيرة على النمو الاقتصادي والتنمية والاستثمار الأجنبي. وعلى الرغم من أن الجزائر تعتبر من الدول النفطية الغنية التي سجلت عائدات مالية كبيرة من الجباية النفطية برقم تجاوز الألف مليار دولار، إلا أن هذا الثراء لم يسمح للجزائر من أن تنتشل نفسها من دائرة التخلف والتبعية. أضف إلى ذلك، أعاقت العزلة الاقتصادية للجزائر واعتمادها على النفط قدرة الحكومة على توفير الخدمات الضرورية للمواطنين، مما أدى إلى تدهور مستوى المعيشة، وانعدام ثقة الجماهير في المؤسسات الحكومية على نطاق واسع.
هذا الواقع رصدته العديد من التقارير الدولية التي أشارت إلى تفشي الفساد في الجزائر، وانعدام الثقة في المؤسسات الحكومية، حيث وضع آخر تقرير لـ "منظمة الشفافية العالمية" حول مؤشر الفساد العالمي للعام 2018، الجزائر في المرتبة 105 من أصل 180 دولة. كما أن استطلاع الباروميتر العربي -وهو مشروع بحثي تم تنظيمه بالشراكة مع جامعة برينستون وجامعة ميشيغان ومبادرة الإصلاح العربي- توصل إلى أن نحو 32 بالمائة من الجزائريون يثقون في الحكومة، في حين لا يحظى مجلس النواب سوى بثقة 18 بالمائة من مجموعة الجزائريين، بينما المؤسسة الوحيدة التي يثق فيها غالبية الجزائريين هي الجيش بنسبة 74 بالمائة.
دفع فقدان الثقة في المؤسسات العامة وتفشى الفساد الممنهج الجزائريين إلى الخروج للتظاهر في مسيرات حاشدة أدت إلى استقالة بوتفليقة، وهو ما أصبح يطلق عليه ب "حراك 22 فبراير". ورغم أن السلطات الجزائرية في عهد بوتفليقة كانت دائما ما تسارع للتشكيك في دقة التقارير الدولية التي تتحدث عن استشراء الفساد في البلاد، لكن ما حدث في الثاني إبريل /نيسان الماضي كان سابقة في تاريخ البلاد حينما أصدر الجيش بيانا شديد اللهجة وصف فيه محيط الرئيس بوتفليقة ب "العصابة" التي تمكنت من تكوين ثروات طائلة بطرق غير شرعية وفي وقت قصير، دون رقيب ولا حسيب، مستغلة قربها من بعض مراكز القرار المشبوهة، وأشار إلى أن هذه "العصابة" تحاول هذه الأيام تهريب هذه الأموال المنهوبة والفرار إلى الخارج.
بيان الجيش أعقبه حمله اعتقالات واسعة طالت رجال بوتفليقة والمقربون منه. فمنذ مجيء الرئيس بوتفليقة للحكم عام 1999، شهدت الجزائر صعود الآلاف من أصحاب الملايين، وكثير منهم يشتبه على نطاق واسع في أنهم حققوا ثرواتهم من خلال أساليب مشكوك فيها. وقد شملت حملة الاعتقالات رجل الأعمال علي حداد رئيس منتدى رؤساء المؤسسات، وهو أكبر تجمع لرجال الأعمال والممول الرئيسي لحملات بوتفليقة الانتخابية.
كما تم اعتقال شخصيات أخرى أبرزها اسعد ربراب الذي يعدُ أغنى رجل في الجزائر بثروة تفوق الثلاث مليارات دولار، ويعد أحد المعارضين لحكم بوتفليقة، مما يجعل اعتقاله ملحوظًا بشكل خاص. إلى جانب اعتقال بعض أعضاء عائلة "الإخوة كونيناف" وهي العائلة المقربة جدا من الرئيس بوتفليقة، ووجهت لهم تهم الاستفادة من امتيازات وقروض كبيرة دون ضمانات، إلى جانب إجراء تحويلات مالية مشبوهة وتهريب أموال معتبرة من العملة الصعبة نحو الخارج بطرق غير قانونية من بينها تضخيم الفواتير.
لم يقتصر مسلسل الاعتقالات فقط على رجال الأعمال بل طال حتى الفاسدين السياسيين، حيث تشهد محكمة سيدي محمد بوسط العاصمة الجزائر منذ أيام إحالة العديد من الوزراء والشخصيات البارزة على قاضي التحقيق بتهم فساد، وأبرز تلك الشخصيات رئيسي الحكومة السابقين عبد المالك سلال وأحمد أويحي هذا الأخير الذي تم استدعاؤه رفقة وزير المالية الحالي محمد لوكال للتباحث معه في قضايا فساد.
ورغم أن الجزائريون رحبوا بمحاكمة رموز نظام بوتفليقة الفاسدين، وهي الخطوة التي تماهت مع مطالب الحراك الذي رفع منذ بدايته شعار مكافحة الفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة، إلا أن ثمة مخاوف كبيرة من تحول هذه الحملة إلى وسيلة لتصفية الحسابات داخل أجنحة النظام الحاكم، من خلال ألية العدالة الانتقائية والتي تمس أسماء بعينها دون غيرها، ومن أجل صرف الأنظار عن المطلب الأساس للجزائريين وهو التغيير الجذري لنظام الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة.
اتسمت جهود مكافحة الفساد في الجزائر بتاريخ حافل من الاستعراض، فعلى الرغم من أن الدولة قد أنشأت سابقا عدة أجهزة لمكافحة الفساد، إلا أنها عجزت بالفعل عن محاربة الظاهرة وتحولت إلى هيئات صورية لا دور ولا آليات رقابية وتشريعية. كما فشلت "حملة الأيادي النظيفة" التي أطلقتها الحكومة سابقا لمكافحة الفساد، والسبب في ذلك عدم استقلالية القضاء وعدم قدرة القضاة على تحريك الدعاوى القضائية إلا بإيعاز من طرف السلطة التنفيذية المتمثلة في الرئيس وأعضاء الحكومة.
ورغم أن الحراك الشعبي قد دعي إلى إزالة بعض الحواجز التي تعيق جهود مكافحة الفساد المنصوص عليها في النظام القضائي في البلاد، بما في ذلك إحالة بعض من رموزه للقضاء، وتعهد الجيش بتحرر القضاء من الإملاءات الفوقية والعدالة بالهاتف، إلا أن إحالة هؤلاء الرموز للقضاء تم بشكل انتقائي حيث لا يزال بعض رموز النظام في السلطة، وهو ما أثار قلق الجزائريين حول فاعلية حملة مكافحة الفساد.
لذلك فان نجاح حملة مكافحة الفساد مشروط بالاستجابة الكاملة لمطالب الحراك برحيل كل رموز نظام بوتفليقة بداية بالرئيس المؤقت الحالي عبد القادر بن صالح، مرورا برئيس البرلمان معاذ بوشارب، وانتهاءً برئيس الحكومة الحالية التي يترأسها الوزير نور الدين بدوي. ولن يتسنى للجزائريين استعادة ثقتهم في جهود مكافحة الفساد التي تتبناها الحكومة إلا بتأسيس نظام سياسي جديد يحظى بالشرعية لدى الجزائريين. كما يجب إنشاء هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات ومراجعة القانون الانتخابي بشكل يساهم في نزاهة العملية الانتخابية. وبمجرد أن يستعيد الشعب ثقته في الحكومة، يجب على تلك الحكومة أن تعمل على إصلاح المجالس البلدية والولائية ومجالس الولايات المختلفة، ومساعدة الجزائريين على انتخاب سياسيين محليين جدد يحظون بدعم الشعب.
ومع ذلك، يبشر المناخ السياسي الحالي في الجزائر بالخير، فمن خلال إجراء انتخابات مستقلة حقا تساهم في تحقيق العدل، ستتمكن السلطة التشريعية من أداء مهامها في مراقبة الحكومة ومساءلتها. وفى حال فشلت جهود تشكيل حكومة جديدة، سيظل الجزائريون غير مقتنعين بحدوث انتقال ديمقراطي حقيقي يساهم في إنهاء عصر الفساد الطويل الذي شاب السياسة الجزائرية.