- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تونس: الانتخابات والتعطيل والأمل في مستقبل اقتصادي أكثر إشراقاً
كشفت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في تونس في أيلول/سبتمبر عن تطورين رئيسيين في السياسة التونسية. إذ تُظهر النتائج أنّ الناخبين لن يتسامحوا بعد الآن مع سوء الإدارة وتردد صانعي السياسة السابقين، وأنّ هناك اعتقادًا بأن التعطيل، من خلال مرشّحين غير تقليديين، يمكن أن يجلب حياة جديدة للبلد واقتصاده. لذلك، سيتنافس مرشّحان غير منتظرَين في الجولة الثانية، وسيدعو كلاهما إلى تعطيل النظام السياسي الحالي. وفي هذا الإطار، يسعى قيس سعيد، وهو محامٍ محافظ، إلى استبدال النظام التشريعي الحالي بنظام قائم على التمثيل المحلي، بينما يدعو نبيل القروي إلى الديمقراطية الليبرالية باعتبارها أفضل حاضنة للتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، من أجل أن تتبنى تونس نموذج إصلاح اقتصادي ليبرالي، يجب على المرء أولاً معالجة القضايا الاجتماعية الاقتصادية التي ساهمت في المصاعب الداخلية في المقام الأول.
طوال العقد الماضي، كان التونسيون يعيشون في زمنٍ يشوبه الغموض، اتّسم بظهور أزمات مالية وتفاوت اجتماعي متنامي. فسهولة الوصول إلى المعلومات في العصر الحديث عرّضت التونسيين إلى مجموعة إضافية من المشاكل المعقدة وأججت مشاعر القلق لدى المواطنين. هذا وتوفّر موجات الارتياب العام اللاحقة تحديات إضافية لواضعي السياسات، ما يؤدي إلى تأخير التقدم فيما هم يحاولون معالجة عدد متزايد من القضايا المهمة بالنسبة لعامة الناس. ومع ذلك، على الرغم من الشكوك التي تكتنف الشعب، وصعود الشعوبية، وزيادة السياسات الحمائية، يبقى الاقتصاد السوقي أفضل حل معقول لتحقيق النمو داخل تونس. ولكن، من أجل تحقيق اقتصاد أكثر تحررًا، يجب على الحكومة التونسية الجديدة – حالما تتشكّل بعد إجراء الجولة الرئاسية الثانية في الشهر المقبل وبعد الانتخابات البرلمانية - أن تعالج استياء التونسيين من خلال التركيز بشكل أكبر على المخاوف الاجتماعية.
السياق الاجتماعي الاقتصادي للاقتصاد التونسي
مع الحالة الاقتصادية العصيبة في تونس، تغلّبت المواقف تجاه السياسات الحمائية على الإصلاحات الهيكلية والتحرير الاقتصادي في المناقشات السياسية. وبدأ عدد كبير من المواطنين انتقاد اتفاقيات التجارة الحرة المبرمة مع الاتحاد الأوروبي، رغم أنه سيصعب على الاقتصاد التونسي الصمود من دون إمكانية الوصول إلى عملاق أوروبا التجاري. والحجة التي كثيرًا ما يتم التذرّع بها من أجل تأييد قطع الواردات الأجنبية هي أن ذلك من شأنه حماية الأسواق المحلية والوظائف من المنافسة الأوروبية. ولكن، فإنّ فكرة تقليل التضخم عن طريق التحكم بالواردات لها نتائج عكسية وغير واقعية، لا سيّما عندما يتعلق الأمر بالمنتجات الزراعية. وبما أنّ الهدف الرئيسي لسياسة تونس الاقتصادية هو تحسين القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق النامية، يجب عليها أولاً التأكد من أنّ عملية التصدير مستقرة وخالية من العراقيل. فلا يمكن للسوق تشجيع التنمية الاجتماعية والاقتصادية بحق إلا من خلال سياسة طوعية موجهة نحو التصدير.
بدلاً من ذلك، أضرّت التدابير الاقتصادية المخصصة التي طبقتها الحكومة السابقة بالاقتصاد التونسي. فلنأخذ على سبيل المثال ضريبة الاستهلاك في تونس التي تصل إلى 75 في المائة على بعض مواد البناء، فهي مصممة لمنع الرخام والصوّان من أوروبا، إنّما أضرت أيضًا بصناعة الرخام التونسية. فلقد كان بين إيطاليا وتونس علاقة ذات منفعة متبادلة من خلال استيراد الصناعة التونسية للرخام والصوّان الإيطالي، وعليه عانت الصناعة التونسية لاحقًا نتيجة ضريبة الاستهلاك، ممّا أدى إلى حصيلة تتعارض مع الهدف المقصود من الضريبة.
ومع ذلك، فإن قرار وزارة التجارة بإخضاع بعض السلع الاستهلاكية المستوردة للضوابط التقنية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي قد أوضح بجلاء أنّ هناك ضغوطًا شديدة على السلطات العامة من أجل إعادة فرض الحواجز التي تحمي الشركات الوطنية. وفي حين أنّه يمكن تسويغ هذه السياسات الحمائية في بعض الحالات الاستثنائية، فإنّ الاعتماد حصرًا على هذه الاتجاهات الانعزالية سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد.
وعلى الرغم من أنه من غير المنطقي الدفاع عن المحافظة على العجز التجاري التونسي الذي يتعرض لانتقادات شديدة، إلاّ أنّ تطوير التجارة الحرة ضروري فعلاً للصناعات الديناميكية في البلاد التي تعتمد على التصدير إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك نظرًا لأنّ قدرتها على النمو في السوق المحلية التونسية محدودة. وبالتالي، لا ينبغي أن يكون تركيز الحكومة على حماية الصناعات المحلية التونسية - حتى لو كان ذلك يساعد في تحقيق التوازن في أسعار صرف العملات الأجنبية على المدى القصير - بل على توقيع اتفاقات تجارة حرة مع شركاء دوليين من شأنها أن تؤمّن أسواقًا أوسع للشركات التونسية على المدى الطويل.
نموذج اقتصادي جديد
لقد أظهرت السنوات القليلة الماضية أن البديل الذي يعتمد على استمرار النموذج الاقتصادي القديم في تونس قد بلغ منتهاه - فالنمو المدفوع بقطاع عام غير مستقر ليس خيارًا سليمًا للبلاد على المدى الطويل. وفي ضوء هذا الواقع، يجب على الإدارة القادمة اتخاذ عدد من الخيارات الاقتصادية الحاسمة لمستقبل البلاد.
مع الهبوط الحاد الذي شهدته قيمة الدينار ومعدّل التضخّم الذي ارتفع إلى 7 في المائة، واصلت القوة الشرائية تدهورها. وإلى جانب ذلك، تؤثر البطالة على 15 في المائة من العمال في القوى العاملة الإجمالية وتستمر في الارتفاع بين صفوف الشباب والنساء - حيث أنّ معدلات البطالة بلغت نحو 35 في المائة بين الشباب ككل و25 في المائة بين النساء. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ العجز التجاري والعجز في الميزانية المتواصلَين أجبرا الحكومة على الغرق بمديونية أعمق. فقد بلغ إجمالي الدين العام حوالي 72 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة 40 في المائة في عام 2010. كما من المتوقع أن يرتفع الدين العام إلى 80 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بحلول نهاية هذا العام.
وعلى الرغم من ذلك، من المتوقع أن يستمر النمو الاقتصادي. فمجموعة البنك الدولي تتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي بنسبة 3.5 في المائة بحلول عام 2021، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى الزيادة الطفيفة في الزراعة، والفوسفات، والسياحة والصناعة التحويلية. وما يشير إلى ذلك أيضًا، الإشارات التي تدل على أن الاقتصاد الفرنسي ينمو هذا العام، حيث أن اقتصاد البلدين يميل إلى الترابط بسبب علاقاتهما التجارية الوثيقة. يشار إلى أنّ هذه الإحصاءات تسمح ببعض التفاؤل، ولكن من أجل الاستفادة من هذا النمو، يجب على القادة التونسيين تنفيذ سياسات تشجّع على ديناميكية القطاع الخاص وتعظيم إمكانات صادرات البلاد. ويمكن تحقيق ذلك من خلال اعتماد الحلول والإصلاحات العملية التي يمكن أن تحفز نمو فرص العمل وتزيد الإنتاجية.
ويجب الاعتراف أيضًا بأن الاعتماد المستمر على تصدير منتجات منخفضة القيمة لن يسمح بحدوث انخفاض مطلوب في العجز الاقتصادي. فإن تطور الصادرات التونسية لم يتحسن منذ الستينيات، ولذا يجب أن تركز الجهود المبذولة لتنمية الصادرات التونسية أيضًا على ترويج منتجات جديدة عالية القيمة.
التوصيات
ينبغي على تونس الاندماج في الاقتصاد العالمي، فليس أمامها أي بديل صالح آخر. ويمكن تحقيق هذا الاندماج من خلال اتباع منحى ثنائي المسار – شراكة أعمق وشاملة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تقدم تبادلًا حرًا للسلع، والخدمات ورأس المال، بالإضافة إلى زخم جديد للإصلاحات الاقتصادية؛ وشراكات جديدة وغير تقليدية مع بعض الدول الآسيوية والولايات المتحدة، التي يمكن أن تقيم تونس معها تثليثًا مكسبًا لجميع الأطراف من أجل الوصول إلى أسواق جديدة في إفريقيا.
تحتاج استراتيجية النمو الاقتصادي هذه إلى سياسات تعزز النمو التجاري. فمن مصلحة تونس إتمام المفاوضات، التي توقفت منذ سنوات، والتي تتعلق بالانضمام إلى منطقة التجارة الحرة العميقة والشاملة مع الاتحاد الأوروبي وإدماج الاقتصاد التونسي بالكامل في السوق الأوروبية. فهذا الإدماج من شأنه تنويع الصادرات، وتحسين آفاق الاستثمار، وتسهيل الإصلاحات الاقتصادية التي طال انتظارها. لذلك، من الضروري وجود بنية تحتية اقتصادية أكثر قوة وقطاع خدمات أكثر تنافسية لتحقيق الاندماج الكامل في السوق العالمية التنافسية.
على الصعيد المحلي، يجب على تونس وضع آليات مختلفة لمكافحة الفساد من أجل تهيئة الظروف اللازمة لنمو القطاع العام. ولضمان عدم تعرض النمو للتهديد من جراء التحديات الأمنية، ينبغي على تونس أيضًا تعزيز التعاون العسكري والأمني مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن تونس ليست حليفة في الناتو، إلا أنها تحتاج إلى المساندة من جانب الولايات المتحدة في عمليات مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، والتدريب العسكري والمساعدة التقنية.
كما يجب مراجعة أنظمة التطوير التعليمي والمهني لتهيئة الشباب على مواجهة التحولات الحاصلة في قطاعي التجارة والصحة. فإن إعطاء الأولوية لوصول الشباب إلى التكنولوجيا وتزويدهم بالتدريب المناسب من شأنهما تحسين فرص العمل. ويجب أن تطّلع تونس أيضًا على النموذج الفنلندي للتعليم والنماذج السويسرية والألمانية للتنمية المهنية بحثًا عن الالهام. وأخيرًا، فإن الاستثمار في بنية أساسية حديثة للنقل واللوجستيات مع الضغط في الوقت نفسه من أجل مزيد من اللامركزية الاقتصادية سيساعد تونس على التطور لتصبح مركزًا تجاريًا إقليميًا. إذ يعي المانحون الدوليون جدية الحالة وسرعان ما سيدركون أهمية تونس الاستراتيجية أثناء الاستثمار في الأسواق الناشئة.
إنّه وقت تحولي في تاريخ تونس. فإذا تمكنت الحكومة الجديدة من التركيز على سنّ هذه الإصلاحات، ستصبح التطلعات الاقتصادية للشعب التونسي حقيقة واقعة. وأمّا إذا تجاهلت الحكومة الجديدة هذه القضايا أو استمرت في سياسات الماضي، فسوف تواجه البلاد المزيد من التحديات الاقتصادية في المستقبل.