- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تركيا تضفي الطابع الأمني على القضية الكردية: استراتيجية خطيرة
على خلفية الهجوم الذي استهدف أنقرة مؤخراً وأدى إلى مقتل 34 شخصاً وإصابة عشرات آخرين، سرعان ما وُجهت أصابع الاتهام إلى «حزب العمال الكردستاني». ويُعدّ هذا الهجوم الأحدث في سلسلة هجمات سُجلت في مختلف أنحاء البلاد وضمن العاصمة خلال الأشهر الستة الأخيرة، موقعةً مئات الضحايا. وقد تنوعت الجهات التي أعلنت مسؤوليتها عن هذه الهجمات، إذ أن تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») و«صقور حرية كردستان»، وهو تنظيم منشق عن «حزب العمال الكردستاني»، أعلنا مسؤوليتهما عن هجومين من هذه الهجمات. إلا أن تحديد الجهات المسؤولة عن هذه الهجمات لا يتم بطريقة سهلة أو مباشرة على الإطلاق. فالدولة يمكنها أن توجه اللوم بسرعة إلى أحد التنظيمات، مستشهدةً بـ "أدلة دامغة" من شأنها توريط ذلك التنظيم إضافة إلى قيام الدولة بفرض قيود وغلق مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن عندما يهاجم هذا التنظيم أهدافاً عسكرية بشكل عام، يصبح الوضع أكثر غموضاً والتباساً .
تُعتبر تركيا إحدى الدول الأساسية في الشرق الأوسط. فهي حليف للغرب تحيطه فوضى المشرق وجسر عبور بين أوروبا وآسيا وركيزة أساسية من منظومة الأمن التابعة لمنظمة "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو"). بيد أن تركيا تواجه تحديات أمنية داخلية كبرى، بدءاً من القوى الشيوعية الثورية من جهة على غرار تنظيم «صقور حرية كردستان»، الذي يدعم الاستقلال الكردي، والقوى الفاشية القومية المتطرفة من جهة أخرى، بما فيها تنظيم «الذئاب الرمادية»، الذي يعارض أي حل سلمي للقومية الكردية. ولطالما عاشت تركيا منذ تأسيسها حالة تحول ديمقراطي مستمر. فاليوم، حاز حزب إسلامي معتدل على معظم مقاعد البرلمان التركي للمرة الأولى من دون معارضة عسكرية، غير أن هذه الخطوة الديمقراطية للأمام ترافقت مع استبداد واستقطاب اجتماعي متزايدان. فضلاً عن ذلك، قامت تركيا مؤخراً بقمع حرية التعبير وحرية الصحافة بصورة شبه تامة، حيث يوضع كل من يحاول استجواب الحكومة التركية أو انتقادها بحدة، إما خلف القضبان أو تحت رقابة الدولة. وكانت صحيفة "زمان"، وهي الأكثر مبيعاً في تركيا، آخر ضحايا هذه المعاملة.
وفي حين تواجه تركيا تحديات متعددة، إلا أن افتقارها للسلم الاجتماعي يُعتبر المشكلة الأبرز. وفي الواقع، بدا أن تركيا قد تجاوزت مشكلة انعدام الاستقرار الداخلي من خلال الجهود التي بذلها «حزب العدالة والتنمية» لإنشاء دولة شاملة خلال السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين. ولكن منذ اندلاع تظاهرات "منتزه جيزي" عام 2013، أخذ السلم الاجتماعي يتلاشى مع تعاظم المشاكل منذ صيف عام 2015. ومن ثم أتت الانتخابات العامة في حزيران/يونيو وتفجير "سروج" لتعيد إشعال الحرب بين الحكومة و«حزب العمال الكردستاني»، التي بقيت هامدة لعدة سنوات. ويَظهر انعدام السلم الاجتماعي اليوم من خلال الاستقطاب الحاصل بين الشباب وكبار السن، اليساريين والمحافظين، والأهم بين الأتراك والأكراد، أو على الأقل بين من يعتبرون أنفسهم أتراكاً ومن يعرّفون عن أنفسهم على أنهم أكراد. وقد ساهم نظام «حزب العدالة والتنمية» بتأجيج هذا الاستقطاب بشكل ملحوظ من خلال إضفائه الطابع الأمني على القضية الكردية مؤخراً . فقرار «حزب العدالة والتنمية» برفع سقف المواجهة مع «حزب العمال الكردستاني»، الذي يعتبره «حزب العدالة والتنمية» وحلفاؤه تنظيماً إرهابياً ، زاد حدة الاستقطاب ضمن المجتمع التركي وقوّض السلم الاجتماعي.
واليوم، بدأت العلاقة بين الحكومة التركية و«حزب العمال الكردستاني» تشبه علاقة حكومة سريلانكا بحركة «نمور التاميل» قبل انتهاء الحرب الأهلية في سريلانكا عام 2009. كنت أعمل في سريلانكا عام 2008 لصالح منظمة غير حكومية أمريكية تُدعى "Nonviolent Peaceforce" ("قوة السلام اللاعنيف "). قامت حركة «نمور التاميل» في تلك الفترة بتصعيد التفجيرات الإرهابية على نحو مماثل. فكان رد الحكومة غير متوقع، إذ سحقت حركة «نمور التاميل»، التي كانت تُعرف بـ «نمور تحرير التاميل- إيلام»، بواسطة هجوم شنه الجيش عليها. وقد أوقعت هذه العملية عشرات آلاف الضحايا في صفوف المدنيين، وبالرغم من أنها وضعت حداً للنزاع إلا أنها لم تعالج المشكلة الكامنة وراءه بل قامت بالتعتيم عليها. وتبرز اليوم إشارات مقلقة على أن الحكومة التركية قد تعيد اعتماد هذه الاستراتيجية بدورها للتعامل مع نزاعاتها الداخلية. وسيكون هذا المسار كارثياً إذا ما اتُبع، إذ سيتسبب بمعاناة إنسانية كبرى وسيعيق الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بمستقبل تركيا. وفي حين أن «نمور التاميل» لم يكن لديها مكان تفر إليه خارج جزيرة "سريلانكا"، يمكن لـ «حزب العمال الكردستاني» أن ينسحب نحو المناطق الكردية خارج الحدود التركية، فيجرّ بذلك تركيا وربما قوى إقليمية أخرى إلى حرب دولية.
إزاء هذه النتيجة المحتملة، من المثير للعجب عدم سعي تركيا لانتهاج مقاربة لحل النزاعات أسوةً بـ "الجيش الجمهوري الإيرلندي" في إيرلندا الشمالية أو منظمة "إيتا" الانفصالية في إسبانيا أو حتى حركة "آتشيه" الحرة في إندونيسيا، وهي حركة انفصالية طالبت باستقلال منطقة آتشيه المتنازع عليها عن إندونيسيا وأوقفت نشاطها إثر تسوية سياسية عام 2005 بعد ثلاثين عاماً من الحرب. قد تحول عدة اعتبارات دون اعتماد الحكومة التركية مقاربة أكثر تصالحية، بما فيها القضايا الجيوسياسية المرتبطة بالحروب على حدود تركيا، ولكن يبدو أن القوة المحركة الأساسية وراء ذلك هي مصلحة حكومة «حزب العدالة والتنمية» والنخب في الاحتفاظ بالسلطة السياسية. فتشارك السلطة مع منطقة كردية مستقلة يهدد خطة أر دوغان القاضية بتحويل النظام البرلماني الحالي في تركيا إلى جمهورية رئاسية مركزية. وأصبحت هذه المصلحة أكثر وضوحاً بعد أن غيّر «حزب العدالة والتنمية» استراتيجيته رداً على خسارته في انتخابات حزيران/يونيو 2015، إذ قلب عندها تماماً سياسته القائمة على المشاركة في محادثات السلام الرسمية مع «حزب العمال الكردستاني» إلى إعادة شن حرب، مطبقاً بذلك على ما يبدو مفهوم إضفاء الطابع الأمني المقتبس من مدرسة كوبنهاغن الفكرية.
ووفقاً لهذه النظرية، تلغي الحكومة قضية من الدائرة السياسية عندما تريد التعامل معها على أنها مصدر قلق حصري بالنسبة إلى الأمن القومي، مما يسمح للدولة باتخاذ تدابير استثنائية مبررة في حالة التهديد الأمني ولكن غير ملائمة للنزاعات السياسية. وعندما أدركت الحكومة التركية أن التعامل السياسي مع «حزب العمال الكردستاني» لم يكن مجدياً من الناحية التكتيكية، بدأ «حزب العدالة والتنمية» بإعادة "تغليف" دور «حزب العمال الكردستاني» من الناحية الأمنية وباتخاذ تدابير استثنائية من شأنها إضفاء الطابع الأمني على المخاوف التي يشكلها الأكراد. وأدت إجراءات الحكومة خلال تلك المناورات إلى مقتل مئات المدنيين، إلا أن المنطقة الشرقية من تركيا تتحول بسرعة إلى ما يسميه المحلل السياسي جورجيو آقمبن بـ "دولة الاستثناء". فعدة قرى ترزح اليوم تحت حصار مفروض عليها، وتشهد أجزاء من المدن الكردية تهجيراً قسرياً وحتى تدميراً ، خصوصاً جزيرة ابن عمر (أو جزرة) وغيرها من البلدات على غرار سور وسيلوبي وإيدل (أو آزخ) ونصيبين.
لقد أدانت عدة منظمات دولية لحقوق الإنسان ما اعتبرته "سوء" استخدام القوة في تلك المنطقة. وفي المقابل، التزم الاتحاد الأوروبي وبقية الأسرة الدولية الصمت، نظراً لاحتياجها على ما يبدو للدعم التركي في تعاملها مع أزمة اللاجئين السوريين والحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن تلك الإجراءات لم تكن من دون عواقب، إذ أدى الاستقطاب الاجتماعي المتزايد إلى تصاعد الهجمات الإرهابية وبالتالي انعدام الاستقرار الملحوظ في تركيا اليوم. إن مقاربة «حزب العدالة والتنمية» التي تكتسي طابعاً استبدادياً بشكل متزايد لم تحافظ على الأمان في تركيا. لذلك، إن لم تحاول حكومة «حزب العدالة والتنمية» اللجوء إلى نوع من المصالحة مع «حزب العمال الكردستاني» وإعادة تركيز جهودها للمضي قدماً بتركيا، فقد تصبح الأضرار الناجمة عن عملية التحول إلى النظام الديمقراطي دائمة.
وعلاوة على ذلك، فإن «حزب العدالة والتنمية» وأردوغان يتبنون خطاب يهدف إلى نزع الشرعية من هؤلاء الذين ينتقدون الإجراءات الحكومية. وشملت أهدافهم الصحفيين والناشطين والأكاديميين، وحتى الدبلوماسيين. كما تم مضايقة الأكاديميين الذين وقعوا على عريضة تحت اسم "أكاديميين من أجل السلام" ضد التدخل الحكومي في المنطقة الشرقية. وبعد يوم من هجوم أنقرة الأخير، أعلن أر دوغان أن "لا فرق بين الإرهابي الذي يحمل بندقية وهؤلاء الذين يستغلون مناصبهم لخدمة الإرهابيين حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم". هؤلاء يمكن أن يكونوا أكاديميين، سياسيين، صحفيين، أو أشخاص يمثلون منظمات غير حكومية، وجميعهم إرهابيين". وقبل بضعة أيام، انتقد أردوغان المبعوثين الأجانب بسبب حضورهم جلسة محاكمة الصحفيين التابعين لصحيفة "جمهوريت": "نحن جميعاً نرى مع من يتحيّز أولئك الذين يتحدثون دائماً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، عندما يقوم المسؤولون الذين تم انتخابهم بناء على تأييد شعبي بمواجهة الانقلابيين". إن المناخ الذي يعتمده أردوغان والمبني على التخويف المستمر يعكس الآثار البعيدة المدى للسياسة الأمنية لتركيا ويعمل ضد الديمقراطية في البلاد.
ماوريتسيو جيري هو مرشح لدرجة الدكتوراه ومساعد باحث في الدراسات الدولية في جامعة أولد دومينيون. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"