- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إعادة تعريف الأمن في العلاقات الأردنية الأمريكية
يجب على كل من الولايات المتحدة والأردن العمل على توسيع نطاق علاقاتهما الأمنية والاستعداد لمجموعة متنوعة أكثر من التهديدات الأمنية.
في الكلمة الأخيرة التي ألقاها جلالة الملك عبد الله الثاني خلال اجتماع "أجندة دافوس" التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، افتتح خطابه بالجملة الآتية: " نبدأ عامًا جديدًا والكثير من التحديات ذاتها التي كانت عنواناً العام الماضي، ما زالت تؤثر في مختلف القطاعات". وبالفعل فإن أزمة "كوفيد -19" أخضعت الأردن "لاختبار إجهاد" حقيقي كشف وسيستمر في الكشف عن نقاط الضعف والاختلالات الهيكلية الموروثة في البلاد. وسوف يتطلب هذا الأمر في المستقبل تقييمًا جديدًا لا يقتصر على كفاءة أنظمتنا فحسب بل يطال أيضًا فعاليتها في معالجة أزمات عصرنا. وقد أثبتت الأزمة الحالية من دون أدنى شك أن قوة الأردن ومناعته ترتبط ارتباطاً مباشراً بمدى منعة وقوة الأضعف بيننا، من أفرادٍ ومؤسسات على حدٍ سواء.
دعت كلمة الملك في جوهرها إلى إعادة النظر في أدوات سياستنا واستحداث صيغ جديدة منها، مع وضع قيم التعاطف والكرامة والابتكار في صلب عملية "التعافي معًا". وهنا يمكن للولايات المتحدة – وهي أكبر مصدر للمساعدات الثنائية للأردن - أن تؤدي دورًا رئيسيًا في دعم الدعوة المذكورة إلى تحدي قبول العمل كالمعتاد في البلاد. وفيما يمر كلا البلدين بالتحولات، يجب على الأردن أن يبدأ بإيجاد مكان لنفسه في السياق الإقليمي والعالمي المتغير مع استقرار الإدارة الأمريكية الجديدة في البيت الأبيض.
مع ذلك، كما يقول المثل، اليد الواحدة لا تصفّق. ما يعني أن المسؤولية تقع على كلا البلدين لوضع نموذج جديد يرى استقرار الأردن من منظار التنمية والازدهار متجاوزًا النموذج التقليدي للأمن. ويمكن توضيح هذه الفكرة عبر القول إن التركيز على الأمن الوطني بمفهومه التقليدي جاء على حساب الأمن البشري عمومًا، وتمت معالجة التهديدات الأمنية المباشرة كالراديكالية والتطرف العنيف ولكن بدون معالجة كافية لمحركاتها الهيكلية كضعف الحوكمة والظلم الاجتماعي والتهميش، فضلاً عن اعتماد سياسات اقتصادية وتشريعية وأمنية للتعامل مع العنف المترتب، ولكن بدون إيلاء الاهتمام نفسه لمرحلة ما قبل العنف وما بعده. والواقع أن هذه السياسات الحصرية للأمن التقليدي لا تتوائم مع استقرار الأردن على المدى البعيد.
جاءت تداعيات "كوفيد-19" لتؤكد بوضوح الحاجة إلى إعادة التفكير في معنى الأمن في هذا السياق وتوسيع مظلته لتشمل الغذاء والمياه والطاقة والصحة والأمن الفردي. من هنا، لا بد من توسيع مجموعة السياسات الأردنية لتضم تكتيكات واستراتيجيات جديدة لا تكتفي بتفادي عواقب الوباء المحتملة والحد منها بل تعزز مناعة المملكة ومرونتها وقدرتها على الصمود من أجل مواجهة الأزمات غير المتوقعة بما يتعدى الأزمات المشابهة للجائحة الراهنة. فالمنطقة تتغير، ويجدر بالأردن أن يتغير أيضًا – من خلال إجراءات جريئة ومدروسة.
وعلى هذه الأصعدة، تقدم الإدارة الجديدة في البيت الأبيض فرصًا جديدة. فقد كشف استطلاع رأي حديث أجراه معهد واشنطن على مشارف الانتخابات عن ارتفاع حاد في عدد الأردنيين الذين يقدّرون العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة، مقارنةً بـ 20 في المائة فقط ممّن اعتبروا أنه من "المهم نوعًا ما" للأردن الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة في وقت سابق من العام 2020. ولا يخفى على أحد أن النتائج الأخيرة ترتبت عن سياسات الإدارة السابقة في المنطقة، والتي تركت تأثيرًا اقتصاديًا وسياسيًا مباشرًا على البلاد. ومثالان على ذلك هما خطة ترامب للسلام والاستهداف الاقتصادي للأردن بسبب مواقفه السياسية من القضايا الإقليمية. واليوم يتوقع الأردن من الإدارة الجديدة قدرًا أكبر من التفهم والدعم للتمكين الاقتصادي.
في هذا الإطار، يقدم خطاب الأردن المختلف فرصة أخرى في هذا الاتجاه. على وجه الخصوص، لم تأتِ كلمة الملك على ذكر تحديات الفقر أو البطالة المعتادة، بل تطرقت إلى الشمول المالي وتقليص الفجوة الرقمية ونقل الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى الاقتصاد الرسمي واستكشاف حلول المياه والتكنولوجيا الزراعية، حتى أنها تناولت موضوع تغير المناخ باعتباره جائحة أكبر من "كوفيد –19". ويشير هذا التحول في الخطاب إلى "نداء عمل" جديد للأردنيين حيث أنه يستعرض الاحتياجات الناشئة التي تتطلب تغيير الطريقة التي تحدد بها البلاد تحدياتها وأولوياتها.
لكن الصعوبة في تحقيق هذه التحولات تكمن في مدى قدرة الأردن على التعامل بفطنة مع أجندته الإصلاحية وتحقيق التوازن بين الإصلاح الاقتصادي والسياسي. ويجب على الأردن أن يقرر بأي عزم سيمضي نحو تعزيز المواطنة كممارسة سياسية-اجتماعية-اقتصادية، وتعزيز الحكم الرشيد وتوسيع الحريات لتشمل كلًا من حرية الفكر والتعبير، بالإضافة إلى توسيع مساحات العمل المدني ونزع الطابع الأمني التقليدي عند النظر له والتعامل معه. وهنا لا بد أن يترافق الإصلاح السياسي مع جهود الإصلاحات الاقتصادية حيث أن "مسألة السياسة" في الأردن اتسمت على مدى العقد المنصرم بثلاث خصائص بارزة هي التوسع في سلطة الدولة، وغياب الثقة وتدنيها في المؤسسات السياسية، وشعور بضعف إجراءات المساءلة والمحاسبة. وفي مقابلة أجراها الملك مؤخرًا مع وكالة الأنباء الأردنية (بترا)، جدّد الدعوة إلى الإصلاح السياسي وأوعز بمراجعة مشاريع القوانين المتعلقة بالإصلاح السياسي كقوانين الانتخابات والأحزاب السياسية والإدارة المحلية.
وكذلك فإن المضي قدمًا يتطلب إثبات حسن النية والاستفادة من العلاقات الوطيدة مع الإدارة الجديدة، بدءًا من تبني منظار أمن إنساني أكثر شمولاً للمساعدات والبرامج المخصصة للأردن. ويستدعي هذا المنظار تغيير طريقة التفكير بما يتخطى إطار أمن الدولة الأردنية أو المواطن الأردني، والانتقال من حالة الردع العسكري أو الوقاية المدنية إلى جمع الاثنين وتحقيق كليهما.
ومع انه يمكن القول أن تقليص الدعم الأمريكي للمؤسسات العسكرية والأمنية الأردنية أو إعادة توجيهه أشبه بتحدّي القدر، لكن يجب على البلدين العمل معًا لإعادة تعريف مفهوم الأمن بشكل يعكس بدقة أكبر التحديات التي يُتوقع أن يواجهها الأردن في المستقبل. وهذا يستدعي عدم الاكتفاء بالتركيز على قدرات الأردن العسكرية والأمنية، على أهميتها، حصراً، بل العمل على تعزيز الكفاءات والقدرات من خلال تقوية عمليات المساءلة المشتركة. ولا بد أن تكون هذه العمليات مرتكزة على رؤية مشتركة تقوم على فهم الاحتياجات بدلاً من "الرغبات"، أكانت آتية من عمان أو من العاصمة واشنطن. ويشار إلى أن المقاربة المتمحورة حول بناء القدرات تطبَّق عادةً في مجال الصفقات وبالتالي تحدد هذه المساءلة وفق مخرجات محددة مسبقًا تساهم بشكل رئيسي في بناء رأسمال سياسي قصير الأجل "يُصرف" على شكل "قدرة على الوصول". ولكن إذا كنا نؤمن حقًا بقيمة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، يجب تطوير المساعدات إلى مستوى أعلى لإكمال دورة المرونة من خلال الحرص على توجيه الموارد بشكل عادل إلى حيث تكون القضايا والاحتياجات ملحة.
ومن الضروري بالقدر نفسه الإقرار بأن الأردن عالقٌ منذ فترة طويلة في نهج إدارة الأزمات، حيث يعمل باستمرار على المصالحة بين المتخاصمين ومنع الاختلالات الإقليمية وآثارها من الوصول إليه. وبذلك أصبحت أفق التفكير استراتيجيًا محدودة بحدود إقليم غير مستقر، إذ يبدو أن رحلة البلاد في التاريخ حافلة دائمًا بالتحديات. لكن الأردنيين من جهتهم صبروا على الأزمات وحافظوا على تفاؤلهم بشأن مستقبل بلادهم. وفي دراسة إقليمية أجرتها مؤخرًا مؤسسة "كونراد أديناور"، قال 65 في المائة من الأردنيين إنهم يعتقدون أن مستقبل البلاد الاقتصادي سيكون أفضل بعد اثني عشر شهرًا.
وجدير بالذكر أيضًا أن الأردن كان من أولى دول العالم التي وفّرت لقاحات مجانية مضادة لفيروس كورونا للاجئين. كما اضطلع الأردن بدور فاعل في مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف في الداخل والخارج، وفي هذا السياق تعتبر "اجتماعات العقبة" نموذجًا أردنيًا متينًا يمكن الاستفادة منه فيما تتعامل الولايات المتحدة مع الراديكالية والتطرف الناشئين على أرضها.
من هذا المنطلق، أصبح من الضروري إعادة تعريف الأمن بين البلدين بناءً على نجاحات الأردن في تعزيز الأمن التقليدي. ومن الحكمة أن يتم دعم الإصلاحات الهيكلية واعتبارها أولوية قصوى للأردن – وحالما يبدأ تنفيذها، سيثبت الأردن من جديد أنه رهان رابح وموثوق للجميع على المدى الطويل.