- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أهمية الاتفاق المشترك بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لتونس: دروس مستخلصة من تجربة اليونان
من خلال اختيار مسار الاستقرار والنمو عبر الشراكة الدولية، يمكن لتونس أن تخفف من تعرضها للصدمات الخارجية وتعمل على خلق بيئة اقتصادية أكثر مرونة واستقرارًا لمواطنيها.
تواجه تونس وضعًا اقتصاديًا حرجا، فمع تجاوز الدين الخارجي نسبة 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وعجز في الميزانية يزيد عن 7٪، وارتفاع نسبة التضخم في المواد الغذائية إلى 9٪، تصاعدت حدة الاختلالات المالية بشكل ملحوظ. ومن الجدير بالذكر أن تمويل الميزانية التونسية من خلال طباعة النقود من قبل البنك المركزي يمكن أن يسهم في تفاقم التضخم، مما يجعل من انخراط تونس في اتفاق مشترك مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي خيارًا أكثر استدامة. وفى هذا السياق، يُظهر الانتعاش الاقتصادي في اليونان كيف يمكن للدعم الدولي المقترن بالإصلاحات الهيكلية أن يسهم في استعادة الاستقرار والنمو الاقتصادي. وبالنسبة لتونس، يمكن أن يساهم هذا النهج في تحقيق التوازن المالي وحماية الفئات الضعيفة من التبعات السلبية الناتجة عن الضغوط التضخمية.
ومع ذلك، فإن الإخفاقات السابقة في تنفيذ الإصلاحات التي فرضها صندوق النقد الدولي مثل إصلاح منظومة الدعم وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة - تثير شكوكا حول نجاح أي برنامج إصلاحي جديد. وتشمل التحديات التي تواجهها تونس ضعف الإرادة السياسية، وتعقيدات المصالح الراسخة، والمعارضة الاجتماعية للإصلاحات. وبدون معالجة هذه العقبات، فإن أي ترتيب جديد قد يكون عرضة لتكرار أخطاء الماضي. وفي ضوء التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها تونس، يُعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار. ومع ذلك، ينبغي أن تُصاحب هذه الخطوة إجراءات عملية تركز على إصلاحات تدريجية وشفافة تراعي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي واتخاذ تدابير صارمة لمكافحة الفساد، يمكن لتونس أن تخلق بيئة اقتصادية أكثر استقرارًا وجاذبية للاستثمارات الدولية. هذه الإصلاحات، إذا نُفذت بطريقة متوازنة، ستُمكن البلاد من تفادي الأخطاء السابقة وإطلاق مسار مستدام نحو النمو.
التحول الاقتصادي في اليونان: مخطط التعافي الاقتصادي
في أوائل عام 2010، واجهت اليونان أزمة متفاقمة مع ارتفاع حاد في معدلات البطالة، حيث وصلت الديون المفرطة إلى 180% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2016. كما شهدت البلاد انهيارًا اقتصاديًا كبيرًا استغرق سنوات لمعالجته. ومع ذلك، وبدعم من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، اعتمدت اليونان إصلاحات جوهرية، شملت تدابير التقشف، وإعادة هيكلة النظام الضريبي، وخصخصة الأصول المملوكة للدولة. وعلى الرغم من صعوبة هذه التدابير، إلا أنها نجحت في إعادة التوازن المالي لليونان تدريجياً، ومهدت الطريق أمام عملية التعافي الاقتصادي.
وقد كانت نتائج هذه الإصلاحات لافتة للنظر، ففي عام 2023، صنّفت مجلة "الإيكونوميست" اليونان في المرتبة الأولى بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بناءً على مؤشرات نمو الناتج المحلي الإجمالي، والسيطرة على التضخم، وزيادة معدلات التوظيف، وأداء سوق الأسهم. ومع توقعات بنمو يتجاوز 2% في السنوات القادمة، فإن التحول الذي شهدته اليونان يعد إنجازاً استثنائيًا. وعلى الرغم من بقاء الناتج المحلي الإجمالي لليونان أقل بحوالي 14% من مستويات عام 2009، فقد تمكنت "وكالة ستاندرد آند بورز " من إعادة تصنيف اليونان كاقتصاد واعد من الدرجة الاستثمارية، مما جذب اهتمام المستثمرين بقوة الى السندات اليونانية، كما وضع هذا التصنيف بورصة أثينا بين أفضل البورصات أداءً في العالم، حيث تفوقت على اقتصادات أوروبية كبرى مثل فرنسا وألمانيا.
تُظهر تجربة اليونان كيف يمكن للإصلاحات الهيكلية المقترنة بالتعاون الدولي أن تُحدث تحولاً في الاقتصادات المتعثرة. وعلى غرار الوضع الاقتصادي لليونان قبل أزمتها، تواجه تونس مديونية مرتفعة، وعجزاً مالياً، وتحديات هيكلية، مما يجعل المقارنة بين الحالتين وثيقة الصلة. يسلط تعافي الاقتصاد اليوناني الضوء على دور الإصلاحات في تعزيز جذب الاستثمارات الدولية، وهو ما يمكن أن تحققه تونس من خلال شراكة فعالة بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يجب على تونس معالجة ظاهرة الفساد التي تقف حائلا أمام الاستثمار وتقوض الإصلاحات. وقد واجهت اليونان تحديات مماثلة، لا سيما في مجالات تحصيل الضرائب وإدارة الإنفاق العام، لكنها أحرزت تقدماً ملحوظًا عبر اتخاذ إجراءات ساهمت في تعزيز الشفافية وإصلاح نظام الحوكمة. ويمكن لتونس أن تتبنى هذه التجربة وتستفيد منها من خلال الجمع بين الإصلاحات الهيكلية والتدابير الصارمة لمكافحة الفساد، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي ودفع عجلة النمو.
يُبرز المشهد الاقتصادي في تونس تحديات خطيرة ومتفاقمة، ففي ظل شح الموارد المالية، تواجه تونس ضغوطا مالية متزايدة ناتجة عن الارتفاع الكبير في الدين الخارجي، والعجز الهائل في الميزانية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. وبالنسبة للأسر ذات الدخل المنخفض، التي تخصص النسبة الأكبر من دخلها لشراء الضروريات الأساسية، يؤدي التضخم إلى تآكل قدرتها الشرائية، مما يجعل هذه الضروريات صعبة المنال.
في مثل هذا السيناريو، قد يبدو تمويل الميزانية من خلال طباعة النقود من قبل البنك المركزي التونسي مخرجًا سريعا للازمة. ومع ذلك، فإن هذا النهج يحمل مخاطر مضاعفة معدلات التضخم، مما يزيد من معاناة الأسر ذات الدخل المحدود، ويُعمّق من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في البلاد.
ويمكن أن يوفر اتفاق مشترك محتمل بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لتونس الاستقرار المالي والوصول للخبرات اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الرئيسية. وفي حين تنطوي مساعدة صندوق النقد الدولي عادةً على شروط مثل إصلاح منظومة الدعم وإصلاحات المؤسسات الحكومية، فإن هذه التدابير تشكل خطوات نحو إطار مالي أكثر استدامة. ويمكن أن يحقق دعم الاتحاد الأوروبي فوائد إضافية، تتضمن زيادة الوصول إلى الأسواق، والاستثمار في البنية التحتية، ودعم التنمية على نطاق أوسع.
ويبرز نموذج اليونان أنه رغم التحديات الكبيرة التي صاحبت برامج الإصلاح التي فرضها صندوق النقد الدولي في البداية، فإن هذه الإصلاحات أسهمت تدريجيًا في تحقيق انتعاش اقتصادي. بالنسبة لتونس، قد تكون تلبية شروط صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي صعبة ومرهقة في البداية، إلا أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى استعادة ثقة المستثمرين في الاقتصاد التونسي وتسهم في تحقيق نمو مستدام على المدى الطويل.
ومن خلال الاتفاق بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، يمكن لتونس أن تحقق الاستقرار الاقتصادي، وأن تتجنب الضغوط التضخمية التي تثقل كاهل الفئات الأكثر ضعفًا من المواطنين. بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود، يؤدي التضخم إلى تآكل قدرتها على تحمل تكاليف الضروريات بشكل مباشر ويقوض مستوى معيشتها. ويمكن أن يؤدي استقرار الاقتصاد من خلال الدعم الدولي إلى تخفيف هذه الضغوط، وحماية الموارد المالية للأسر والحفاظ على مستوى جودة الحياة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للإصلاحات الناجعة أن تسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية، مما يساعد في خلق فرص عمل ويدفع عجلة النمو الاقتصادي. ففي اليونان، اجتذبت النتائج الإيجابية للإصلاحات المستثمرين الدوليين، مما ساهم في تحسين سوق السندات ودعم بورصة أثينا. وبفضل سمعة مستقرة، يمكن أن تشهد تونس اهتمامًا استثماريًا مماثلا يسهم في توفير المزيد من فرص العمل، ويوسع القاعدة الضريبية، ويتيح إعادة الاستثمار في الخدمات الاجتماعية ومشروعات البنية التحتية.
متابعة مسار اليونان لتحقيق الاستقرار
يُبرز تعافي الاقتصاد اليوناني إمكانات الإصلاح والتعاون مع المؤسسات الدولية في تحقيق تحسن اقتصادي مستدام. وعلى الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي لليونان لا يزال أقل من الذروة التي بلغها قبل الأزمة، إلا أن البلاد نجحت في استعادة ثقة المستثمرين وبناء أساس متين للنمو في المستقبل. وبالنسبة لتونس، يمكن للتعاون بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي أن يوفر إطارًا متكاملاً لدعم الاستقرار على المدى الطويل. ومن شأن قرض صندوق النقد الدولي أن يوفر متنفساً ماليًا ومسارًا منظمًا للانضباط المالي، في حين يمكن لدعم الاتحاد الأوروبي أن يُعزز هذا المسار من خلال توفير المنح والخبرات الفنية والحوافز التجارية التي تُسهم في دفع عجلة النمو المستدام. ومن شأن هذه الجهود مجتمعةً أن تُمكن تونس من تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة تشمل إعادة هيكلة الدعم الحكومي، وإصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي عبر تفعيل شبكات الحماية الاجتماعية الموجهة للفئات الأكثر ضعفًا.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم دعم الاتحاد الأوروبي في تسهيل وصول تونس إلى الأسواق الدولية من خلال تقديم دعم سياسي واقتصادي قوى، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز العلاقات التجارية. ومن خلال معالجة الاحتياجات المالية الفورية والتحديات الهيكلية طويلة الأجل على حد سواء، يمكن للشراكة بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي أن تساعد في حماية الاقتصاد التونسي من مخاطر التضخم، وتحقق استقرار المالية العامة، وتمهد الطريق لنمو شامل ومستدام.
ومن خلال اختيار مسار الاستقرار والنمو عبر الشراكة الدولية، يمكن لتونس أن تخفف من تعرضها للصدمات الخارجية وتعمل على خلق بيئة اقتصادية أكثر مرونة واستقرارًا لمواطنيها. ومع ذلك، ولضمان تأثير دائم، يجب أن يتحول الدعم المالي الأوروبي في المستقبل من مساعدات مباشرة للميزانية إلى مساعدات مشروطة بتنفيذ إصلاحات محددة بشكل صارم وقابلة للقياس. وينبغي أن تهدف هذه الإصلاحات إلى إعادة تنشيط النمو الاقتصادي من خلال إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة، وزيادة فاعلية نظام الدعم، ومكافحة الفساد الذي لا يزال يشكل عائقًا رئيسيًا أمام تحقيق الانتعاش الاقتصادي. ومن ثم، لن تساهم هذه المعايير الشفافة وآليات المساءلة الدقيقة في تعزيز فعالية هذه المساعدات فحسب، بل ستعزز أيضًا من ثقة الجمهور في هذه العملية.
في سياق مرحلة ما بعد الانتخابات، ومع تزايد الضغوط لتلبية الاحتياجات التمويلية المُلحّة، من المتوقع أن يتراجع خطاب السيادة المهيمن، مما يجعل الاتفاق المشترك بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي خيارًا أكثر واقعية. كما يمكن أن يُعزز دور صندوق النقد الدولي في توفير الانضباط المالي من خلال حزمة دعم تنموية مقدمة من الاتحاد الأوروبي، تستهدف مشاريع محددة تركز على تحقيق النمو، مثل تطوير البنية التحتية، وخلق فرص عمل، وتعزيز برامج التدريب المهني. ومن شأن هذه المقاربة المزدوجة أن تُسهم في تبديد الشكوك العامة من خلال ضمان أن الإصلاحات تركز على معالجة أوجه القصور والحد من استحواذ النخب، بدلاً من فرض تدابير تقشفية تثقل كاهل المواطنين.
والواقع أن تونس لا تمتلك بدائل واقعية، إذ أن غياب الدعم الدولي سيعرض البلاد لخطر تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي، وتصاعد الاضطرابات الاجتماعية، فضلاً عن العجز عن الوفاء بالتزاماتها المالية. ولن يؤدي غياب الإصلاحات إلا إلى استمرار دورة عدم الكفاءة والركود. وبناءً على ذلك، من شأن برنامج منسق بين صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي أن يشكل الخيار الوحيد الواقعي للمضي قدمًا – فهو لن يقتصر فقط على تحقيق الاستقرار المالي في تونس، بل سيطلق أيضًا العنان لنمو شامل وطويل لأجل. ومن خلال اغتنام هذه الفرصة، يمكن لتونس أن تؤمن مستقبلها الاقتصادي أن تستعيد الأمل لشعبها.