يمثل ظهور "وحدات الحشد الشعبي" وشرعنتها ظاهرة مستمرة في التاريخ العراقي الحديث الذي يمكن وصفه بدولة ضعيفة وجيوش منقسمة. أما لتحقيق الديمقراطية فيجب أن يقوم الجيش على أسس من الوحدة والحيادية، مما يوفر مساحة من التنافس بين الجماعات المدنية بشكل مدني.
ظهر "الحشد الشعبي" العراقي كردة فعل للتهديد الأخطر على حكم الأغلبية الشيعية في العراق، ألا وهو "الدولة الإسلامية" ("داعش"). ويعود تكوين "وحدات الحشد الشعبي"، كمفهوم، لفتوى المرجع آية الله علي السيستاني في 13 حزيران/يونيو 2014. بالرغم من ذلك، وبما أن الفتوى كانت ردة فعل لتهديد محدد، فإن طبيعتها كانت مؤقتة ومن ثم فهي ليست كافية لتقديم أرضية لاستمرار هذه المجموعات. وبوصفها فتوى تقع في إطار حد الكفاية، فإنها تعد دعوى محدودة تختلف عن الفتوى في إطار فرض العين، وعليه فإنها غير ملزمة لجميع الأفراد، بل يمكن للقلة أن تقوم بها كواجب نيابة عن الأغلبية ولصالحهم. إلا أنه، وبالرغم من ذلك، عقب إعلان الفتوى في العام 2014، تكاثرت الجماعات المحدودة لتصبح قوة أمنية مختلطة مع الجيش العراقي.
وقد صيغت الفتوى بنبرة قومية، فدعت جميع المواطنين القادرين إلى الدفاع عن بلادهم وشعبهم وأماكنهم المقدسة والمشرفة. إذا وضعنا في الاعتبار هذه الخلفية، فإن "وحدات الحشد الشعبي" تواجه سؤالين يتعلقان بمصداقيتها. الأول: إذا ما هزمت "داعش"، لماذا على "وحدات الحشد الشعبي" الاستمرار في الوجود بالأساس؟ إضافة إلى ذلك، وبما أن فتوى السيستاني كانت شرطية ومؤقتة، فإن الأرضية التي يتأسس عليها وجود الوحدات لن تستمر في منحها الشرعية الدينية.
في السادس والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2016، مرر البرلمان العراقي قانونًا لتحويل "وحدات الحشد الشعبي" إلى مؤسسة عسكرية منفصلة ورسمية وبالافتراض دائمة، وأثار ذلك تساؤلات حول العلاقة على المدى البعيد بين المدني والعسكري. فالقانون يسمح بظهور جيشين على التوازي، يكون كليهما معززًا بالعقيدة والتقنيات العسكرية الغربية، وبالمظلة الدينية والطائفية المحلية. لم تكن هذه الخطوة مفاجئة بالضرورة حيث أنها مدفوعة من جماعات شيعية في البرلمان، وهي ليست المرة الأولى التي تدعم فيها الدولة العراقية جيشًا غير نظامي أو مجموعة مسلحة غير تابعة للدولة. فظاهرة الجيش الموازي، سواء كانت تمثل جناحًا عسكريًا لأحد الأحزاب أو جهازًا للدولة، تعود إلى "الحرس القومي" سيء السمعة والذي ظهر في بداية الستينيات من القرن الماضي. في الواقع، وطوال مدة وجود العراق، سعت كل الحكومات إلى استخدام القوة العسكرية كوسيلة لدعم سلطتها. ومن هنا ظهرت علاقة تكافلية بين الحكومة العراقية والجيش، فكلاهما استخدم الآخر واعتمد على الآخر. بناء عليه، فإن الخاصية الرئيسية للعملية السياسية العراقية هي محاولات الجيش للسيطرة على هوية الأمة ومصيرها. وبالرغم من أن الجيش هو أحد مؤسسات الدولة البارزة، إلا أنه قلما ساهم في إحلال الاستقرار بالعراق، حيث تدخل في التطور السياسي في عدة مناسبات إما عبر إملاءاته لتشكيل الحكومة أو الإطاحة بها.
تختلف "وحدات الحشد الشعبي" عن الميليشيات العراقية السابقة، ليس لأنها مدعومة من غالبية السكان فحسب، بل لأنه تم التصويت لصالحها من جانب برلمانيين شيعة وأكراد وعرب سنة. إضافة إلى ذلك، ووفقا للقانون الجديد، فإن "الحشد" هو جزء من الجيش العراقي يقع تحت القيادة المباشرة لرئيس الوزراء. إذن فهو يتمتع بكل حقوق الجيش وموارده، لكن بدون الخضوع لكل شروطه وأحكامه. على سبيل المثال، فإن "الحشد الشعبي" معفى من شروط السن والمؤهلات الدراسية للتجنيد. علاوة على ذلك، وبخلاف المعركة ضد "داعش"، تتواجد وحدات "الحشد الشعبي" بهدف الدفاع عن المركزية الشيعية في العراق والاستمرار في الولاء إليها، أي أنه جهاز أمن لحماية النظام. وإذا أضفنا هذا إلى الصفة الطائفية جزئيا للجيش العراقي، فإن قوة الهوية الوطنية للعراق تتهاوى بوضوح، فلم تعد الهوية العراقية تؤثر على الأفراد بالعراق.
وإن استبدال الهوية الوطنية العراقية أمر يشجع الشيعة بالعراق الذين ينعمون الآن بحقوق ديمقراطية إلى جانب الحماية العسكرية.
إذن، فكيف يمكن لهذا التغيير في السلطة البنيوية والعسكرية أن يؤثر على المجموعات غير الشيعية بالعراق، مثل الأكراد والعرب السنة؟
يظهر الأكراد دعمًا لـ “وحدات الحشد الشعبي" يشوبه الحذر وانعدام الحماس. تستفيد قوات كردستان العسكرية من القانون الجديد، حيث أن "البشمركة" لديها السبق في الوجود على بقية القوات خارج الجيش النظامي للبلاد. كما يوفر القانون تبريرًا مفاده بأن الأكراد، كما هو الحال مع الشيعة، يحتاجون لقوات تحمل الولاء لهم للدفاع عنهم ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة المحتملة. على الجانب الآخر، فإن السنة العرب يرون هذا القانون كتهديد لهم أساسًا، فيشكل وجود الجيش الشيعي خطرًا دائما على الطوائف الأخرى. بالرغم من ذلك، وكما هو الحال مع الأكراد، فإن القانون يوفر غطاء لظهور جيش سني طائفي.
مما يزيد المشكلة تعقيدًا، هو أنه بالإضافة إلى دورها المحلي، فإن "وحدات الحشد الشعبي" ستلعب دورًا إقليميًا متصلًا بوضوح بالصراع الإيراني التركي للهيمنة على المنطقة. ستشكل "وحدات الحشد الشعبي" جزءًا من الطموح الإيراني للهيمنة على المنطقة لأسباب عديدة، منها الطائفة، والحتميات الأمنية، وتوازن القوى ضد منافسيها، والنفوذ الاقتصادي. يُطرح سؤال هنا أيضَا حول إمكانية بزوغ ميليشيات مدعومة دوليًا يمكن أن تطابق خدمات الجيش النظامي التابع للدولة.
هذه القضية ليست بالفريدة من نوعها أو الجديدة، فالجمهورية الإسلامية في إيران دعمت الجيوش غير النظامية بالمنطقة منذ تأسيسها في العام 1979. في الحقيقة، تمتلك إيران جهازًا خاصًا يهدف إلى تدشين القوات العسكرية غير المؤسسية في الخارج. وستدعم "وحدات الحشد الشعبي" العلاقات الإيرانية العراقية وستزيد من تقاربهما، ليس على المستوى العسكري فحسب ولكن على المستوى السياسي أيضًا. على سبيل المثال، في الانتخابات المحلية والوطنية القادمة لعام 2017 و2018، ستستفيد قيادات "الحشد الشعبي" على الأرجح من أداء "دورها البطولي" هذا، مما سيزيد من نفوذ "الحشد الشعبي" في مؤسسات الدولة، ويضمن دعمًا مستقبليًا للـحشد.
مع ظهور هذا الجيش الموازي الجديد، ستعاني مؤسسات الدولة من مزيد من الضعف. وسيطيح عدم التوازن بين المدني والعسكري بكل الآمال في تأسيس حكومة ديمقراطية حقيقية، ليس في بغداد فقط بل ربما في كردستان أيضا. وإن استخدام البرلمان لشرعنة غير الشرعي، كما حدث مع "الحشد الشعبي"، هو الوصفة المناسبة لعدم الاستقرار على المدى الطويل. من الآن فصاعدًا، سيشكل الجيش غير النظامي الطائفي جزءًا من الساحة السياسية في البلاد وسيغلق الأبواب أمام أي محاولة لتأسيس نظام أكثر علمانية أو على الأقل نظام يشمل كل الطوائف.