- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
"الأدغال": زيارة إلى مخيم فرنسي للاجئين
كانت الرحلة من لندن إلى مدينة "كاليه" الواقعة على ساحل فرنسا سريعة ومريحة، إلا أن الأسوار العالية ولفائف الأسلاك الشائكة التي لا تنتهي كانت أهم ما يميز حدود المخيم. كان المكان يعج بسيارات الشرطة وكانت قوات الشرطة المسلحة تجوب محيط السياج بالكامل. عمّ التوتر الناجم عن الشعور بالأزمة والطوارئ أجواء المخيم، وعلى بعد بضع ساعات فقط من لندن، بدت "الأدغال" وكأنها عالم آخر.
سافرت مع مجموعة من زملائي إلى مخيم اللاجئين في "كاليه"، المعروف حالياً على نطاق واسع باسم "الأدغال" لتقييم الوضع في المخيم. كنا نأمل أيضاً في إجراء مقابلات مع اللاجئين السوريين هناك حول وجهات نظرهم بشأن السلام في سوريا كجزء من الحملة الإلكترونية "message4peace" (رسالة من أجل السلام)، وهي منصة على الإنترنت تم إطلاقها بالتنسيق مع "iguacu" وتهدف إلى رفع مستوى الوعي بالتحديات المستمرة التي تواجه السوريين داخل سوريا وخارجها، بيد أن الواقع في المخيم بدا بمثابة تذكير صارخ بالوقائع اليومية التي يعيشها هؤلاء اللاجئين.
بعد أن وصلنا بالقرب من مدخل المخيم، أوقفنا سيارتنا بجوار جدارية "ستيف جوبز" الشهيرة للفنان بانكسي ودخلنا سيراً على الأقدام. كان الدخان لا يزال يتصاعد في المخيم جراء الاشتباكات مع الشرطة نتيجة لمحاولات السلطات الفرنسية تفكيك المخيم حتى أن الخيام التي كانت لا تزال منصوبة بدت في حالة يرثى لها.
شكّل سكان هذه المساكن المؤقتة المفككة والمحرقة مجتمعاً متعدد الأعراق لا تجمعه قواسم مشتركة كثيرة باستثناء كونهم ناجين من الصراع والنزوح. وأظهر الأفغان والصوماليون والعراقيون والسودانيون والسوريون والإريتريون وغيرهم هوياتهم من خلال وضع الأعلام المتهالكة أمام الخيام واللغات المتنوعة المكتوبة على اللافتات التي تغطي الجدران المصنوعة من قماش التربولين. كما هناك هيكل - بدا وكأنه كنيسة بجوارها بعض الخيام استخدمها مجموعة متنوعة من الجماعات الدينية المسلمة كمساجد - مثّل وسيلة أخرى للحفاظ على الهوية. وبدت هذه المحاولات لخلق نوع من الألفة مناقضة للقاذورات المتناثرة في كافة أرجاء المخيم ونظام الصرف الصحي البشع. كانت مياه الصرف الصحي تسير في أنابيب مكشوفة مشكلةً قنوات وبرك كبيرة في شتى أنحاء المخيم. كانت ظروف المعيشة بائسة حقاً وغير صالحة للسكن البشري.
ويعيش ثلاثمائة لاجئ سوري على الأطراف الخارجية لمخيم الأدغال، وقد أتيحت لي الفرصة للتحدث مع عدد منهم عن حياتهم وأحلامهم ومخاوفهم. وهم يشكلون عدداً قليلاً نسبياً من سكان مخيم الأدغال "بكاليه"، وقد وصل أغلبيتهم هناك في محاولة للانضمام إلى ذويهم في المملكة المتحدة. عاش معظمهم في الأصل في منطقة درعا في جنوب سوريا التي اندلعت فيها المظاهرات والاشتباكات الأولى ضد الحكومة قبل خمس سنوات. أخبرني من تحدثت إليهم عن الاضطرابات المبكرة وعمليات قمع الاحتجاجات، وأسبابهم الشخصية للفرار. فقد اعتُقل أحدهم ثلاث مرات عندما كان في سوريا وتعرض للتعذيب. وأصيب لاجئ آخر بالرصاص في قدمه قبل مغادرة البلاد، بينما أُصيب ثالث بشظايا قنبلة انفجرت على الطريق. كان معظمهم في العشرينات من العمر، ممتلئين بالحياة والأمل رغم ظروفهم المعيشية المفزعة. يأمل هؤلاء اللاجئون أن يعيشوا في نهاية المطاف حياة سلمية مع أسرهم بعيداً عن أهوال الحرب. رغم هذا كله، لا يزالوا يتمتعون بكرم الضيافة؛ إذ أصروا على أن نتناول الشاي أو القهوة في خيامهم الواهية. رفضنا بلطف، حيث لم نرغب في إضافة عبء الضيافة إلى معاناتهم.
على الرغم من تفاؤل السوريين المدهش بشأن المستقبل، إلا أن الخوف كان بمثابة أكثر الموضوعات تردداً خلال مناقشاتنا. يشعر هؤلاء اللاجئين بأنه يُنظر إليهم وكأنهم أشخاص غير صالحين وغير مرغوب فيهم. حتى في فرنسا، كان الكثير منهم يخشى الإفصاح عن اسمه الحقيقي خوفاً من أن يتعرض شخص ما بالأذى لأسرهم في سوريا أو تركيا كنوع من الانتقام.
قبل بعض منهم بلطف أن يكتب رسالة لموقع "message4peace" للمساهمة في الحملة. كانت الرسائل مؤثرة بشكل لا يصدق، وركزت بصورة كبيرة على من بقوا في سوريا. لم يذكر أياً من اللاجئين أي مخاوف عن أوضاعهم الشخصية. كتب معظمهم أن السلام هو الأمل المنشود لوقف نزوح السوريين من بلدهم وإيقاف تدميره، وأنهم يأملون في العودة في نهاية المطاف.
إن زيارتنا للمخيم قد أثارت لدينا مشاعر التضامن والشعور بالذنب في وقت واحد. كان من السهل جداً على مجموعتنا الخروج من المخيم والعودة إلى لندن، ولكن الناس الذين التقيناهم كانوا محاطين بالبؤس؛ إذ كانوا يواجهون رحلة شاقة للفرار من المخيم وبدء حياتهم في إنكلترا. لكن اختلاف ظروفنا عن ظروفهم هو أمر يرجع للحظ والقدر. قدّر لهؤلاء الناس أن يكونوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ، ولدوا حيث اندلعت الحرب. ربما كانت هذه المأساة لتحدث لأي منا. بصفتي سوري كنت أعيش في لندن عند بدء الاضطرابات في سوريا، يراودني شعور صعب بالقدر والمحنة.
أثناء تصويرنا لهذه المنطقة من المخيم التي تعرضت للتدمير وما زال الدخان يتصاعد منها، جاء صبي في سن المراهقة بدراجته نحونا، ووقف على بعد خطوات منا في محاولة لتخويفنا. ثم سأل زميلنا المصور عن سبب قيامه بالتصوير. أجبناه بهدوء بأننا نريد أن نرفع مستوى الوعي بشأن الوضع القائم هناك. غادر دون أن يتفوه بكلمة. انتهى اللقاء بسرعة فلم يكن لديه الكثير ليقوله. ربما شعر بالألم والغضب بسبب زيارة الناس للمخيم لالتقاط صور البؤس لسكانه. وربما أدرك لاحقاً أن ما يحدث في "كاليه" يجب أن يستمر عرضه على العالم كله. غادر ونحن نغمغم دون توقف قائلين: "لا ينبغي أن يحدث هذا في فرنسا، أو في أي مكان في العالم."
سنان الحواط باحث أول في شؤون سوريا والعراق لدى iguacu. وهو حاصل على ماجستير في إدارة التنمية من "كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية". نشر الحواط عدداً من المقالات حول الأزمة السورية. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"