الأحزاب العراقية من سطوة الأيديولوجيا إلى سلطة الفوضى
يساعد تاريخ الأحزاب السياسية في العراق على تأطير أسباب التشرذم الشديد الذي ينتاب المشهد السياسي الحالي وفهم ما يبقى مفقودا في هذا المشهد.
في 23 آب/أغسطس عام 1922 أي بعد عام من تتويج فيصل بن الحسين ملكا على العراق، حصل جعفر أبو التمن على إجازة رسمية لتأسيس حزب سياسي عراقي اسماه "الحزب الوطني العراقي"، والحقيقة أن حزب أبو التمن لم يكن الأول فقد سبقته أحزاب وجمعيات سياسية دعت إلى الاستقلال والسيادة وبناء الدولة لكنها لم تكن مجازة بشكل رسمي. وفي عام 2021 أي بعد 99 عاما حصل شاب يدعى طلال الحريري على إجازة تأسيس حركة باسم "حركة 25 أكتوبر" وهذا الشاب يدعو من خلال حركته إلى ليبرالية وطنية تقوم مبدا الاقتصاد الرأسمالي وعلى التطبيع مع إسرائيل واجتثاث الأحزاب الدينية، الأمر الذي أثار جدلا عراقيا.
وخلال المئة عام الماضية، شهد المسار السياسي في العراق مجموعة واسعة من الأحزاب والأفكار، والصراعات والانقلابات والنكسات والشعارات والانشقاقات والحروب والدماء، وهي تجسيد لمشهد خال من المشروع الحزبي المتكامل. وعلى مدار هذا التاريخ السياسي المضطرب والمتغير، تطور المشهد السياسي في العراق لكن دون اتجاه أو هدف واضح وموحد، حيث أدى ذلك إلى بروز مجموعة متشرزمة من الأحزاب السياسة.
مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وانقضاء الموعد النهائي لتسجيل الائتلافات والكتل في الأول من أيار/مايو، فإن ديناميكية الأحزاب السياسية العراقية تمثل أهمية قصوى. وفي حين يأمل العراقيون في تشكيل حكومة جديدة تتمتع بالنزاهة والخبرة، إلا أن المشهد السياسي العراقي المنقسم لا يبشر بالخير. السياسية في العراق في تحديد وفهم أسباب الانقسام الشديد الذي لتاريخ الأحزاب. ومن ثم، قد يساعد السرد الموجز يمر به المشهد السياسي العراقي اليوم، وتحديد العناصر المفقودة في هذا المشهد حتى الآن.
من أحزاب الصالونات إلى الأحزاب الأيديولوجية
كانت الميزة الأهم لأحزاب العهد الملكي هي أنها أحزاب صالونات، أنتجها تحالف أبناء البرجوازية المتوسطة مع الإقطاعيين بتوجهات وطنية، مثلت تطلعات النخبة الاجتماعية والسياسية، وبعد تأسيس الجمهورية العراقية في 1958 وتعاظم دور الجيش في السياسة، حيث ظهرت الأحزاب الأيديولوجية الجماهيرية أو الشعبية التي اعتمدت على القواعد الشعبية الفقيرة وعلى البسطاء والشباب والعمال والفلاحين، وتصدرت المشهد السياسي بقوة جماهيرها ومساحة تأثيرها الشعبية، رغم أنها استوردت أيديولوجياتها من الخارج.
ثلاثية الشيوعي القومي الإسلامي
خرج العهد الجمهوري من حالة الاستقرار السياسي النسبية التي ميزت العهد الملكي، ليدخل حالة الفوضى، فقد افتقدت الجمهورية العراقية الوليدة إلى عامل الاستقرار وحفزت الجماهير على الحراك والصدام السياسي حيث تحولت الحياة السياسية إلى تصادم وصراع على السلطة، انتكست الحياة الحزبية، وانتقلت الصراعات الدامية إلى الشوارع، لاسيما بين البعثيين والشيوعيين.
وظهرت الميليشيات المسلحة سيئة الصيت، كالمقاومة الشعبية، والشبيبة الديموقراطية "ميليشيا الشيوعيين"، والحرس القومي "ميليشيا البعثيين"، لتجسد امتزاج "العنف والأيديولوجيا بانفلات الشارع" وتلك الثلاثية ميزت المشهد السياسي العراقي الذي اتسم بالصراع المستمر بين البعثيين والشيوعيين تارة وبين البعثيين والإسلاميين تارة أخرى، فلقد استمرت الصراعات الدامية بين الأحزاب الأيديولوجية متمثلة بالبعثيين والشيوعيين الجبهة القومية التقدمية حتى انفراد البعث بشكل نهائي بالسلطة وتشكيل الجبهة القومية التقدمية في عام 1973.
وبعد تشكيل الجبهة القومية التقدمية، خرج العراق ظاهريا من الصراعات الثنائية التي لازمت العمل السياسي في الجمهورية العراقية، حيث تم ابتكار مفهوم جديد هو "الحزب القائد"، وتشكيل ما يعرف بالجبهة القومية التقدمية التي استغلها البعثيون لاحتكار وتقنين العمل السياسي العراقي بشكل نهائي، مع ممارسة البطش بالخصوم بلا رحمة، وعلى الرغم من هيمنة القيادة البعثية على الجبهة القومية التقدمية، إلا أنها وضعتها تحت مظلة الحزب الشيوعي العراقي وجزء صغير من الحزب الديموقراطي الكردستاني وأحزاب صغيرة أخرى، حيث سعت هذه الجبهة، لابتلاع الأحزاب وامتصاص الأيديولوجيات الأخرى واحتكار العمل السياسي في العراق.
لكن هذه المحاولة اصطدمت بالصعود المتسارع للحركة الإسلامية العراقية، ووقوفها ندا للبعث الذي حاول مغادرة الاشتراكية وتخفيف حدة وركوب الموجة الدينية خلال العقود الأخيرة من عمره في السلطة لكنه لم يتمكن من تحقيق ما يرضي تطلعات الشارع حتى الإطاحة بالرئيس البعثي صدام حسين على يد القوات الامريكية في عام 2003.
ديموقراطية بلا ديموقراطيين
بعد الغزو الأمريكي للعراق في نيسان/أبريل عام 2003 وبعد أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء حكم حزب البعث، تم إنشاء دولة عراقية جديدة تحت رعاية الولايات المتحدة، وكان الهدف المعلن لهذه الدولة الجديدة هو الوصول إلى عراق ديمقراطي مستقر. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود المبذولة نحو تشكيل حكومة عراقية ليبرالية وديمقراطية، فإن العراق الديمقراطي الجديد لم يرث أي خبرة سياسية عملية في كيفية إدارة الدولة، ولم يكن لدى الحكومة العراقية الجديدة فهم مؤسسي للنظام السياسي الدولي.
وعوضا عن ذلك، ورث حكام العراق الجدد مؤسسات شبه منهارة، لدولة تحولت إلى مارقة بفعل أوهام القوة وغرور السلطة، دولة غلفت نفسها بأيديولوجيا فاشية قومية وانعزلت عن محيطها الإقليمي. ومع ذلك، لم يكن ورثة العراق الديموقراطي الجديد على درجة من الحنكة السياسية أو الخبرة في إدارة الدولة، أو في خبايا النظام السياسي الدولي، وليس لهم الباع في تأسيس الحكم الرشيد فيها عدا الثقافة النظرية، واتضح لاحقا أن تأثير الأحزاب والإيديولوجية أصبح اقوى من الدولة.
خرج العراق من ثلاثية أيديولوجية ميزت العهود الجمهورية ليدخل بعد 2003 في تعددية مفتوحة ومشهد فوضوي مترهل لا يخلو من العنف والعنف المضاد، فقد تميزت إدارة صناع عراق ما بعد 2003 بنقل الصراعات والممارسات الحزبية إلى مؤسسات وإدارات الدولة ودواوين الحكومة، ولم يستفيدوا بشكل جيد من الانفراج الدولي تجاههم، ولا من المناخ الديموقراطي الجديد.
واليوم وبعد أكثر من 17 عاما على سقوط الأيديولوجيا البعثية، لم تتشكل أحزاب ليبرالية لمليء الفضاء السياسي الليبرالي الذي بات يعرف بالعملية السياسية، إنما اقتحمته أحزاب وكتل وقوى سياسية تعتمد أفكار سياسية وإدارية وتنظيمية واهية وغير عملية. بشكل عام، طرحت هذه الأحزاب نفسها في ثلاثية بديلة عن مفهوم واحد للمواطنة هي ثلاثية الشيعة والسنة والكرد.
ونتيجة لذلك، وصل الوضع السياسي في العراق إلى طريق مسدود لم يستطع تجاوزه وذلك رغم محاولات الترميم والإصلاح وإعادة البناء، وكادت الدولة أن تنهار بشكل كامل خلال الاحتجاجات العارمة التي عرفت باسم انتفاضة تشرين 2019 والتي أسفرت عن سقوط حكومة عادل عبد المهدي. ومع اقتراب موعد الانتخابات المقرر عقدها في عام 2021، أدت ومن الممكن أن تؤدي تداعيات تلك الاحتجاجات، الممزوجة بعوار سياسي سابق، إلى انتشار الأحزاب السياسية، وربما حتى فرص أكثر غموضًا للتقدم والاستقرار.
الرهان على الانتخابات المقبلة
اليوم وفي عراق ما بعد الانتفاضة التشرينية لعام 2019، وبعد سقوط حكومة عبد المهدي، وتراجع شعبية الأحزاب والقوى التقليدية المتصدرة للمشهد السياسي لاسيما قوى الإسلام السياسي، تحاول الأحزاب والقوى السياسية العراقية لملمة نفسها لكن من خلال تغيير التكتيكات والاستراتيجيات، واستيعاب الحراك ورموزه بالاستناد لما لدى هذه القوى من ثلاثية المال والديماغوجية والعامل الخارجي. ومن نتائج الحراك السياسي وحركة الشباب التشريني هو تعاظم عدد الأحزاب المسجلة رسميا ليصل إلى أكثر من 400 حزب سياسي.
بشكل عام، تعكس هذه الأحزاب التيارات السياسية التي يمكن تصنيفها وفق ثلاثية "التابع" و"المنشق" و"المتمرد". ولا تزال تلك الأحزاب التقليدية ، تتوافق مع التيارات السياسية المهيمنة تاريخياً مثل الشيوعية والإسلام السياسي.
وفي الوقت عينه، تعمل الأحزاب المنشقة، مثل "حزب الفراتين" و"حركة وعي" و"حركة امتداد" و"حركة إنجاز" و"حزب المرحلة"، بمثابة امتدادات للأحزاب التقليدية التي تبنت مقاربات جديدة إلى جانب التزامها بالعديد من القيم التقليدية. أما الأحزاب المعارضة مثل امتداد والبيت الوطني و25 أكتوبر وغيرها فهي عبارة عن مجموعات خرجت من رحم انتفاضة أيلول/ سبتمبر 2019، ولا تدعي تمسكها بالقيم التقليدية أو الأحزاب كما تفعل الأحزاب المنشقة.
تستعد كل هذه المجموعات ذات الآراء والأجندة المختلفة للمشاركة في الاستحقاقات الانتخابات المقبلة، والتي ستكون بمثابة الانتخابات الأكثر أهمية وخطورة في العراق منذ عام 2005. ورغم حدة التنافس وشدة زخم الاندفاع للمشاركة في الانتخابات لكن أحد لم يطرح سؤال جوهري، هو ماذا بعد أن يتحول الناشطون إلى نواب؟ وماذا بعد أن تأتي التفاهمات السياسية الداخلية والخارجية برئيس وزراء جديد؟ هل يتفق الجميع على تلميع صورة النظام من اجل البقاء، أم يتصاعد الضغط الشعبي من اجل إنتاج نظام سياسي بقواعد جديدة، خارج ثلاثية "الملكي الجمهوري الديموقراطي" التي ميزت المئة عام السابقة