- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إعلان حشد العتبات المقدسة سيغير قواعد اللعبة في العراق
من المرجح أن يكون لدعوة السيستاني للعراقيين للمشاركة في الانتخابات، إلى جانب الإعلان الأخير عن تشكيل "حشد العتبات المقدسة" ككيانات مستقلة عن قوات الحشد الشعبي، تأثير كبير على المشهد السياسي والاجتماعي العراقي.
بعد سنين من محاولة النأي بنفسها عن السياسة، بعد الفشل والإحباط الذي أصاب العراقيين عموماً ومقلديها خصوصاً بسبب إخفاق العملية السياسية التي (رعتها) بعد عام 2003 مباشرةً، عادت مرجعية النجف العليا لتمارس أسلوب (الرعاية) و(التوجيه)من خلال حدثين كبيرين لهما مدلولاتهما السياسية والأمنية المباشرة وخلال أقل من ثلاث أيام في الأسبوع المنصرم.
يتمثل الحدث الأول في استجابة المرجعية لنداءات سياسية محلية ودولية لإصدار توجيه تحث العراقيين، وتحديداً اتباعها، على التصويت للانتخابات وأحداث ما أسمته "تغيير حقيقي في أدارة الدولة وأبعاد الأيادي الفاسدة". كما حثت مقلديها" العبور بالبلد الى مستقبل أفضل...وتفادي خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي". نحن اذاً إزاء نص سياسي بامتياز لا يتحدث عن الانتخابات فحسب، بل ينتقد العملية السياسية ويحث العراقيين على التغيير (الحقيقي لا الشكلي)، ليس في الحكومة، بل في الدولة التي تعاني من تحكم الفساد في (مفاصلها).
لقد جاء نداء المرجعية الواضح والقوي ليستجيب لمخاوف الحكومة وكثير من القوى الراغبة بالتغيير محلياً ودولياً لتجنب المخاطر المحتملة من استثمار القوى السياسية الراهنة لمعدل المشاركة المنخفض المتوقع في انتخابات 10 أكتوبر الحالي لتعزيز هيمنتها على المشهد السياسي وبالتالي حصول ما أسمته المرجعية (الانسداد السياسي) لان من المحتمل جداً أن تثور قوى تشرين مجدداً بعد ظهور نتائج الانتخابات. إن ما يعزز هذه المخاوف أن كل الاستطلاعات التي أجريت لحد الآن توقعت معدلات مشاركة منخفضة بخاصة في مناطق انتفاضة تشرين.
أما الحدث الثاني، والذي سبق هذا الحدث بيومين فتمثل في الإعلان الرسمي عن إطلاق تسمية حشد العتبات المقدسة على الفصائل المسلحة الأربعة التي أعلنت في نيسان 2020 انفصالها عن الحشد الشعبي العراقي. وفي اعتقادي أن تداعيات ورمزية هذا الحدث قد تفوق في دلالاتها ونتائجها الحدث الأول وتمثل نقطة فارقة في المسيرة السياسية للعراق بعد 2003. صحيح أن هذه الفصائل المسلحة الأربعة، المتمثّلة بفرقتَيْ الإمام علي والعبّاس ولوائَيْ علي الأكبر وأنصار المرجعيّة، كانت عملياً تتبع العتبات المقدسة في النجف منذ تشكيلها بعد احتلال داعش للموصل وصحيح أنها انفصلت رسمياً عن تنظيم الحشد الشعبي المؤسسي وصارت ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة(رئيس الوزراء) منذ نيسان 2020، إلا أن إعلان قائد قوات فرقة الأمام العباس القتالية ميثم الزيدي من كربلاء في الأسبوع الماضي عن تبني تسمية حشد العتبات المقدسة رسمياً له دلالات زمانية ومكانية وموضوعية ربما تغير الكثير من موازين القوة على الأرض.
رمزية حشد العتبات المقدسة
ويشمل هذا الحدث عدة طبقات من الرمزية، وأولها الرمزية المكانية، فقد جاء إعلان الزيدي من كربلاء المقدسة، ومن على منبر ضريح العباس الذي يمثل أحد أقدس الأماكن عند الشيعة في العالم عموماً وعند العراقيين خصوصاً. وهناك أيضا الرمزية الزمانية حيث فقد جاء هذا الإعلان في ختام زيارة الأربعين المقدسة وبعد أن نجحت هذه الفصائل وبالتعاون مع القوات المسلحة العراقية على حفظ الأمن لملايين الزوار الذين أمّوا كربلاء من داخل وخارج العراق.
كما أن هذا الإعلان جاء بعد يومين فقط على تصريح فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي بأنه" لا يوجد هناك ما يسمى بحشد العتبات، وأن هيئة الحشد الشعبي واحدة". كما أن الإعلان جاء قبل أيام من موعد الانتخابات البرلمانية العراقية وهنا يبدو الربط واضحاً بين هذا الإعلان ومقررات المؤتمر الأول لحشد العتبات الذي عُقد في النجف في بداية شهر ديسمبر من العام الماضي والذي لم يكتفِ بمنع مقاتلي هذه الوحدات من الانخراط في العمل السياسي كما نص على ذلك الدستور، بل منعهم أيضا من الترشيح للانتخابات، في تناقض ومخالفة واضحتين لسلوك فصائل الحشد الشعبي ورئيسها الذين خالفوا الدستور بالاشتراك في الانتخابات الحالية كمرشحين.
هناك أيضا الرمزية الموضوعية والدلالية، حيث إن اختيار تسمية "حشد العتبات المقدسة" لم يأت اعتباطاً بخاصة وأن الاسم المتداول لهذه الوحدات المسلحة كان "حشد المرجعية". فمن جهة كان الدفاع عن العتبات المقدسة التي هددتها داعش عندما واصلت زحفها في حزيران 2014 باتجاه سامراء وبغداد وحتى كربلاء، هو أحد اهم الدوافع التي تداعى من أجلها شباب الشيعة في العراق للتطوع لمقاتلة داعش والدفاع عن العراق عموما والمقدسات خصوصاً. ومن جهة أخرى فأن العتبات المقدسة في العراق كانت وما زالت تحتل مكانة خاصة في الوجدان العراقي عموماً والشيعي خصوصاً، لذلك فان الإدارة الدينية لهذه المراقد المقدسة كانت تتم بإشراف مرجعية النجف. صحيح أن العتبات المقدسة ترتبط أدارياً بديوان الوقف الشيعي إلا أن الإشراف الديني واللوجستي هومن نصيب مرجعية النجف.
لذا فأن التسمية هذه تشير بوضوح الى مدى الارتباط بمرجعية النجف، لكنها تتجنب في ذات الوقت الإحراج الذي لربما تسببه التسمية المتداولة (حشد المرجعية) كون النجف أكدت مراراً أنها لم تدعو اساساً لتشكيل أي قوات وإنما دعت في فتوى الجهاد الكفائي بعد احتلال داعش للموصل وأجزاء أخرى للتطوع للدفاع عن العراق. فهذه التسمية الجديدة تعطي للنجف فسحة أكبر للمناورة وتجنب التدخل المباشر في السياسة وهو أهم ما يميز مرجعية النجف للشيعة مقارنة بمرجعية قم.
الدلالات والتداعيات الموضوعية
لم تكن رغبة الفصائل الأربعة (حشد العتبات المقدسة) في تأكيد اختلافها وانفصالها عن الحشد الشعبي وليدة اليوم، بل تعود لبدايات تشكيل الحشد الشعبي في نوفمبر 2016، ويعود الخلاف اساساً الى المرجعية الروحية التي تتبعها الفصائل المختلفة المنضوية تحت مسمى الحشد الشعبي. فبعيداً عن القوى السنية والمسيحية ضمن الحشد الشعبي تنقسم ولاءات قادة فصائل الحشد الشعبي الشيعية الى أغلبية تتبع المرشد الإيراني الأعلى في قم، وأقلية تتبع آية الله السيستاني. وكان من الغريب حقاً أن غالبية قادة الحشد الشعبي الذي تشكل -كما يدعي القائمين عليه بفتوى السيستاني- وبخاصة المؤثرين منهم يتبعون مرجعية السيد الخامنئي بدلا من مرجعية السيستاني. والمفارقة الأخرى أن غالبية المقاتلين الشيعة في الحشد، بل غالبية الشيعة في العالم وفي العراق تتبع مرجعية السيد السيستاني، ومع ذلك فأن غالبية قادة الحشد هم من اتباع مرجعية قم!
ولو كان اختلاف مرجعية قادة الحشد يتعلق بالمسألة الدينية الروحية التعبدية فحسب لهانت الأمور، لكن الاختلاف أعمق من ذلك بكثير، بل هو حتى أبعد من المنافسة التاريخية التقليدية بين مرجعيتي النجف وقم، فهو يرتبط بأصل فكرة حمل السلاح خارج إطار الدولة. فمرجعية النجف تتجنب تقليدياً وتاريخياً التدخل في شؤون الحكم وتبتعد عن فكرة الدين العابر للوطنية. من هنا نفهم الهجوم الشديد الذي شنه السيد الياسري معتمد المرجعية وقائد لواء أنصار المرجعية في شهر آب الماضي على الفصائل المسلحة الموالية لإيران حين قال إن «من يوالي غير الوطن؛ فإنها خيانة عظمى. إنه دجل عظيم وخداع كبير، هكذا تعلمنا من الإمام الحسين.... أما أن يأتينا الصوت والتوجيه والإرشاد من خلف الحدود، فهذه ليست عقيدة الحسين. نحن نرفض الانتماء والولاءات، ونعلن بأعلى أصواتنا وبلا خوف أو تردد، أن من يوالي غير هذا الوطن، فهو خائن "!!
أما مرجعية قم فلأنها تتبنى مشروع ولاية الفقيه المرفوض من مرجعية النجف، ولأنها لازالت تؤمن بمبدأ تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية فهي تؤمن بالدين العابر لحدود الأوطان. عليه فأن الفصائل المسلحة العراقية الموالية لها لا ينتهي قتالها بطرد داعش ولا بحماية العتبات المقدسة، وأنماء هي تقاتل باسم الدين والمذهب أينما وجهها مرشد الثورة الإسلامية سواء في العراق، أو سوريا، أو لبنان، أو اليمن، أو أفغانستان! وهذا من وجهة نظر قادة حشد العتبات المقدسة مخالفة واضحة للتكليف الشرعي الديني من جهة وللدستور العراقي الذي يمنع إرسال أي قوات مسلحة عراقية خارج الحدود من جهة أخرى. لذلك صرح السيد الزيدي من على المنبر العباسي الأسبوع الماضي " أن هذا الاسم وهذا الشعار وهذا الوشاح التي توشحت به التشكيلات الأربعة ...هو الوشاح الشرعي والقانوني.. فالجانب الشرعي واضح للجميع من ناحية ارتباط هذه القوات الشرعية بالمرجعية، إما القانوني فاكتسبه حشد العتبات من رضا وقبول ودعم القائد العام للقوات المسلحة العراقية".
أن تسمية حشد العتبات المقدسة يشير الى أن تلك العتبات باتت محمية لا بقوات الأمن العراقية فحسب، بل بالفصائل المسلحة التابعة لمرجعية النجف، وبالتالي تنتفي الحاجة الى الفصائل المسلحة الأخرى التي يفترض أنها تشكلت لدحر داعش-وقد دُحرت- ولحماية العتبات المقدسة من أي تهديد أمنى مستقبلي بخاصة خلال مواسم الزيارات المقدسة المختلفة كما حصل في زيارة الأربعين. ومما يعزز من وضوح هذه الرسالة ما ذكره.
ومما يعزز من شدة رسالة حشد العتبات المقدسة أنها تمتلك قدرات قتالية متفوقة تضم قوات مدرعة أيضا، وأن التأييد المعروف لقوات سرايا السلام التابعة للسيد مقتدى الصدر لحشد العتبات المقدسة، لا يجعل ميزان القوة بيد الفصائل المسلحة الأخرى. لا بل أن من المتوقع جداً انضمام فصائل أخرى لحشد العتبات المقدسة مما يضعف كثيرا من المشروعية القانونية والشرعية وحتى العسكرية للفصائل المسلحة الأخرى.
والخلاصة فأن مرجعية النجف على ما يبدو، قررت أن تلقي بثقلها الروحي والمعنوي والمادي لاستعادة الدولة ومنع تكرار الانموذج الثوري الإيراني أو حتى تقليد الانموذج اللبناني في العراق. وهي تدرك على ما يبدو أن الصبر الذي التزمت به لسنين، والتعويل على الثقل المعنوي والتوجيه عبر خطب الجمعة لم يمنع إيران من أن تتمدد داخل جسد الدولة العراقية بالشكل الذي رفضته علناً قوى الشباب الذي انتفض في المناطق الجنوبية في تشرين 2019 والذي على ما يبدو مستعد لإعادة تفعيل الانتفاضة وبشكل اقوى إذا لم يحدث تغيير حقيقي وأستمر الوضع على ما هو عليه الآن. وبغض النظر عن الرأي في مدى تقبل أو رفض التدخل الديني في شؤون الحكم في العراق إلا أن من المتوقع أن تؤدي هذه التغييرات الأخيرة الى تغيير قواعد اللعبة السياسية في العراق.