- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الانتفاض أم الانتخاب: ما هو شكل التغيير الذي يريده العراقيون؟
تظهر استطلاعات الرأي العام الجديدة أن العراقيين يريدون التغيير المؤسسي، لكنهم يفتقدون الثقة في الانتخابات كأداة حقيقية نحو الإصلاح.
لم يعد هناك شك لدى المتابعين للوضع العراقي أن هناك غالبية كبرى من العراقيين ممن يريدون تغيير نظام الحكم الذي تأسس في العراق بعد 2003. حسب آخر استطلاع للرأي أجري في 2021 كان هناك أكثر من 90% من العراقيين ممن يريدون إسقاط النظام الاثني-الطائفي في العراق. وواحدة من أهم الأسباب وراء ذلك هو اعتقاد الغالبية المطلقة (85%) أن هذا النظام يخدم طائفة أو مجموعة عرقية واحدة، وغير مصمم لخدمة غالبية العراقيين. والمفارقة أن كل مجموعة عرقية أو طائفية تعتقد أن هذا النظام لا يخدمها. وحتى الشيعة والكرد الذين كانت أغلبيتهم مرحبة بالإطاحة بالنظام السابق وغالبا ما كانت تظهر مستويات عالية من التأييد للنظام الحالي باتوا غير راضين عن أداء النظام الحالي حسب استطلاعات الرأي للسنوات الخمسة الماضية. ففي الوقت الذي أفاد فيه 64% من السنة (قبل أسبوعين فقط) أنهم يعتقدون أن العراق يسير بالاتجاه الخاطئ كانت نسبة أعلى من الشيعة (67%) والكرد (68%) تعتقد أيضا أن العراق يسير بالاتجاه الخاطئ.
لقد أدى فشل النظام السياسي في العراق الى تحول هذا النظام مما كان يفترض أن يكون نظاما ديمقراطيا (عند تأسيسه عام 2003) الى نظام ما يسمى بالأدبيات السياسية بحكم اللصوص Kleptocracy . فقد انتشر الفساد في العراق وبلغ مستويات قياسية جعلت 95% من العراقيين يقرون أن الفساد منتشر جدا. وبحسب مقياس مؤسسة بيت الحرية أو "فريدم هاوس" فأن العراق لم يغادر تصنيف (غير حر) على مقياس الحريات، خلال السنوات الخمسة الماضية. كما تم تصنيفه على انه نظام تسلطي، على مقياس الديمقراطية من قبل ذات المنظمة.
هذا الفشل انعكس سلبا على ثقة العراقيين بكل مؤسسات الدولة العراقية (التنفيذية والتشريعية والقضائية). ليس ذلك فحسب، بل امتدت عدم الثقة الى المستوى الاجتماعي أيضا والذي شهد تآكلا مستمرا في رأس المال الاجتماعي جعل اقل من 10% فقط من العراقيين يثقون ببعضهم البعض. وحتى المؤسسة الدينية التي كانت في يوم ما تحوز على ثقة معظم العراقيين، تراجعت لتبلغ نسبة من يثقون بها 38% فقط في عام 2021
أن هذه الأرقام وسواها هي التي جعلت العراقيين، وبالذات الشباب منهم يخرجون بعشرات الألوف للساحات العامة والشوارع في أكتوبر 2019 مطالبين بتغيير النظام. وهي التي جعلت أكثر من 60% من العراقيين أجمالا، منهم أكثر من 70% في المناطق الشيعية، يؤيدون تلك الانتفاضة. ورغم تقديم بعض التنازلات من الطبقة السياسية الحالية في العراق تمثلت بتغيير الحكومة وإقرار قانون انتخابي جديد واستبدال المفوضية العليا المستقلة للانتخاب والتي عدها كثير من العراقيين غير محايدة، إلا أن الأمور لا تبدو أفضل كثيرا الآن بحسب آخر استطلاعات الرأي العام. فهناك 70% من العراقيين يعتقدون أن الشباب في العراق ليس لديهم مستقبل جيد وأكثر من ثلث الشباب العراقي يودون الهجرة الى خارج البلد.
وعلى الرغم من هذه الأرقام المحبطة إلا أن الأسوأ لم يأت بعد على ما يبدو. فالشباب الطامحين لتغيير الوضع الحالي ورغم إيمانهم بالديمقراطية وصندوق الانتخابات كوسيلة للتغيير إلا أن من الواضح انهم قد فقدوا ثقتهم بآليات التغيير السلمي والمسيطر عليه وباتوا أكثر ميلا للعودة الى الشارع وتجربة التغيير من خلال الاحتجاجات والانتفاضة التي حققت لهم بعض ما كانوا يهدفون إليه لكنها لم تحقق لهم التغيير الذي يطمحون له. فالعراقيين الذين أيد 85% منهم أجراء انتخابات مبكرة للخروج من الوضع الحالي لا يؤمن 70% منهم بان الانتخابات ستغير من كيفية إدارة الحكم. ومن الواضح أن العراقيين لا يثقون بقدرة الانتخابات على المجيء بنظام حكم أفضل. ولا يبدو السبب كامنا فقط في قوة ونفوذ وتنظيم الأحزاب الحالية مقارنة بالعديد من الأحزاب الجديدة التي نشأت من رحم انتفاضة تشرين والتي تفتقد للتنظيم والموارد ووحدة التوجه، بل الأهم من ذلك هو فقدان ثقة العراقيين بقدرة المنظومة السياسية الحالية على تنظيم وإدارة انتخابات نزيهة. إن 74% من العراقيين لا يثقون بقدرة مفوضية الانتخابات في العراق على إدارة انتخابات عادلة ونزيهة. والاهم من ذلك فأن 77% من العراقيين، منهم 76% في المناطق الشيعية يعتقدون أنه لا يمكن ضمان نزاهة الانتخابات في ظل سيطرة الميليشيات الموالية لإيران على المشهد السياسي.
أن السكون النسبي لشارع الانتفاضة العراقية نتيجة انتشار كورونا وتغيير الحكومة، جعل-على ما يبدو- القوى السياسية العراقية التقليدية التي تتحكم بالعملية السياسية العراقية حاليا تسيء تقدير الموقف وتعتقد أنها من خلال تنظيم انتخابات تكون فيها هي الأكثر قدرة على الفوز ستتمكن من إدامة هيمنتها على العراق لسنوات قادمة. لكن هذا التقدير خاطئ ويفشل في قراءة الواقع الشعبي وما يشعر به الشباب المحبط في العراق عموما وفي المناطق الجنوبية خصوصا. إن الانتخابات القادمة ستكون إذا ما فشلت في أحداث التغيير الذي ينشده العراقيون البوابة التي تفتح الأبواب لكل أشكال التغيير غير المسيطر عليه بما في ذلك التغيير العنيف. فهناك أكثر من 36% من العراقيين عموما، منهم 58% من الشيعة معظمهم تحت 35 سنة أفادوا انهم مستعدين للنزول للشارع والتظاهر حتى إسقاط النظام. من هنا تبدو احتمالات تجدد الانتفاضة اقوى بكثير من احتمالات التغيير من خلال صندوق الانتخابات. عند ذاك ورغم الانضباط والسلمية اللذان تميز بهما المنتفضون في العراق حتى الآن إلا أن احتمالات الانزلاق نحو المجهول تبقى قائمة وبقوة. لذا يجب على الحكومة العراقية والقابضون على السلطة وحتى المجتمع الدولي ضمان انتخابات شفافة ونزيهة إذا أرادوا تجنب هذا المنزلق الخطير. لم يعد السؤال الأهم في العراق اليوم، هل سيحصل التغيير في النظام السياسي أم لا، ولكن كيف سيكون شكل التغيير؟ هل سيكون آمن وغير عنيف استنادا لصندوق الانتخاب أم سيكون غير آمن وخطير من خلال انتفاضة أو ثورة شعبية لا يعرف مداها ولا تُجهل مخاطرها؟