- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الانتخابات التركية بعيون سوريّة
على الرغم من أن السياسات المرتبطة بسوريا كانت في قلب الانتخابات التركية، إلا أن مستقبل العديد من السوريين لا يزال غير واضح حتى بعد فوز أردوغان.
تركيا وسوريا بلدان متجاوران طول حدودهما المشتركة يتجاوز 900 كيلومتر مع تداخل عائلي تاريخي بين الأتراك والسوريين والأكراد المتوزعين على جانبي الحدود، ولذلك من الطبيعي أن يُتابع السوريون الانتخابات التركية باهتمام، وخاصة الانتخابات الأخيرة التي اسفرت عن فوزا لرئيس الحالي رجب طيب أردوغان بفارق ضئيل. علاوة على ذلك، كانت القضية السورية والآثار التي ترتّبت عليها خلال هذه الفترة في قلب الحملة الانتخابية للمرشّحين. كما انقسم السوريون مثل الأتراك بين مؤيّد لتحالف الشعب الحاكم بقيادة أردوغان من جهة وبين مؤيّد لتحالف كيليشدار أوغلو "طاولة الستة"، من جهة أخرى. وحتى بعد فوز اردوغان، فمن الضروري معرفة موقف كل تحالف من سوريا وهو من شأنه ان يُظهر دور الخطاب التركي المحلي المرتبط بالتحديات السورية في تشكيل وجهات النظر التركية والسورية.
كانت قضية ملايين اللاجئين السوريين في تركيا في هذه الجولة الانتخابية قضية محورية، حيث استغلها المرشحون كمادة رئيسية يقنصون من خلالها أصوات الناخبين، ولجأ بعضهم في سبيل ذلك إلى تبنى خطاب شعبوي عنصري ضد اللاجئين السوريين يحملهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تُعاني منها تركيا حالياً. ولم يبذل تحالف الشعب الحاكم جهداً يُذكر لتفنيد هذه الإدّعاءات ربّما لأنها أنسب له من تحميل مسؤولية هذه الأزمات لسياسات أردوغان.
ورغم اتفاق التحالفين الانتخابيين على ضرورة إيجاد حل لمشكلة اللاجئين عبر إعادتهم إلى داخل سوريا، ولكن كان هناك اختلاف كبير في طريقة الوصول إلى هذا الهدف، فقد تعهّد مُرشح المعارضة كيليشدار أوغلو في البداية بطرد جميع اللاجئين السوريين خلال عامين في حال فوزه في الانتخابات، ثم صعّد لهجته قبل جولة الإعادة مُتعهداً بطردهم بعد عام واحد في محاولة لكسب أصوات القوميين الأتراك.
على النقيض، لم يستخدم أردوغان مُصطلح "طرد اللاجئين" واستعاض عنه بعبارات أكثر ديبلوماسية مثل تسهيل العودة الطوعيّة للاجئين إلى الداخل السوري، وتضمّن برنامجه بناء مدن حديثة في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا في الشمال السوري بتمويل من قطر ومنظمات إغاثية إقليمية ودولية لتوطين مئات آلاف اللاجئين خلال عدة سنوات، رغم أن حكومة حزب العدالة والتنمية اتبعت في الفترة الأخيرة أسلوب التضييق على اللاجئين بهدف دفعهم للعودة بطريقة أو أخرى، وكان منها التغاضي عن نمو وانتشار مشاعر الكراهية ضدّهم في الشارع التركي والذي تظاهر باستهدافهم بعشرات الجرائم وصل بعضها إلى درجة القتل.
وإلى جانب قضية إعادة اللاجئين، هناك أيضا قضية السوريون الذين حصلوا على الجنسية التركية، حيث إدّعى بعض المعارضين أن منح السوريين الجنسية كان بهدف زيادة أصوات حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات ولذلك تعهّدت المعارضة بمراجعة إجراءات منح الجنسية للسوريين بمجرّد فوز كيليشدار في الانتخابات.
وردّاً على ذلك صرّح سليمان صويلو وزير الداخلية التركي أن عدد السوريين الذين حصلوا على الجنسية التركية بلغ قبيل موعد الانتخابات 231 ألفاً منهم 131 ألف لديهم حق الانتخاب، وهو عدد ضئيل من الأصوات ولا يُمكن يُحدث فرقاً في بلد تجاوز عدد الناخبين فيه 64 مليوناً. وكذلك لابدّ من التذكير بأن نسبة غير قليلة من السوريين المجنّسين هم من أصول تركية، كما قال أردوغان خلال مقابلة قبل أيام أن بين اللاجئين أطباء ومهندسين ورجال أعمال وعمال مهرَة وجميع دول العالم المتقدمة تحاول الاستفادة من المهاجرين المتميزين.
أما القضية الثالثة التي أثيرت خلال العملية الانتخابية فهي تتعلق بمصير المناطق الثلاث الخاضعة للسيطرة التركية في شمال سوريا، بين شمال حلب ومنطقة عفرين والشريط الممتد بين تل أبيض ورأس العين وتحتوي هذه المناطق على ألف بلدة صغيرة بينها عدة مدن كبيرة، ولو فازت المعارضة في هذه الانتخابات لكان من غير المُستبعد الانسحاب من هذه المناطق في سبيل الاتفاق مع النظام السوري. كما أن الانسحاب التركي من هذه المناطق كان من شأنه أن يضع ضغطا إضافيا على محافظة إدلب التي تضم أكثر من ثلاثة ملايين مدني نصفهم نازحين أو مهجّرين قسريّاً من الداخل السوري والتي تتحكم فيها هيئة تحرير الشام التي وضعتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب، لأن المنفذ الوحيد لهذه المحافظة مع العالم الخارجي يمر عبر تركيا وبالتالي فإن مصيرها على المدى البعيد يتوقّف على سياسات الحكومة التركية. وفي هذا السياق، يُذكر أن الرئيس أردوغان قبل بضعة أسابيع قد صرح في لقاء مع محطة "سي إن إن" أنه لا توجد لديه نية للانسحاب من الشمال السوري طالما أن هناك "تهديد إرهابي"، وهي عبارة فضفاضة يقصد بها قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات وخلايا داعش في البادية السورية وربما هيئة تحرير الشام في محافظة إدلب. ومن ثم، فإن موقف تحالف الشعب بقيادة الرئيس أردوغان من القضايا الثلاث السابقة دفع أغلب السوريين المعارضين للنظام لدعم هذا التحالف.
وكذلك هناك موضوع آخر لا يقل أهمية وهو موقف التحالفين الانتخابيين من المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا والتي تتمتّع بالحماية الأمريكية، إذ رغم أن القضية الكردية بالغة الحساسية عند أغلب الأحزاب التركية لكن تحالف المعارضة أجرى مفاوضات مع حزب الشعوب الديمقراطي التركي ذو الخلفية الكردية ونجم عن ذلك اتفاق غير واضح المعالم، ولكنه أدّى إلى حصول المعارضة على نسبة كبيرة من أصوات الأكراد.
في حين يعتبر أردوغان منطقة الإدارة الذاتية خطراً إستراتيجياً على تركيا لأنها تقدّم مع إقليم كردستان العراق المتمتّع بالحكم الذاتي نموذجاً ملهماً لحل القضية الكردية داخل تركيا نفسها عبر إقامة شكل مماثل من الحكم الذاتي، ولذلك بذل أردوغان جهوداً كبيرة لإيقاف الدعم والحماية الأمريكية للإدارة الذاتية في شرق سوريا دون نتيجة، وهو يستخدم هذه القضية اليوم كمبرّر رئيسي للتقارُب مع النظام السوري الذي يتّفق معه في ضرورة إنهاء الإدارة الذاتية الكردية. ونتيجة لذلك، اقترح أردوغان في سبيل تحقيق ذلك قيام "تعاون وثيق وتضامن" مع الاسد، ولمجمل هذه المواقف وقف قسم كبير من أكراد سوريا مع تحالف المعارضة.
واستنادا إلى القضايا سالفة الذكر، احتفل القسم الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا بفوز أردوغان وعبّرت وسائل إعلام عن ذلك بالقول "اللاجئون السوريون يتنفسون الصعداء بفوز أردوغان". كانت احتفالات السوريين في مناطق شمال سوريا الخاضعة للسيطرة التركية كانت أكثر صخبا ً وضوحاً واستخدمت فيها الألعاب النارية. ومن ناحية أخرى، بينما ارتفع منسوب القلق عند الأكراد السوريين وربما أكثر من إخوتهم الأكراد الأتراك وذلك نتيجة المخاوف من عملية عسكرية تركية جديدة تستهدف مناطقهم نتيجة الانطباع السائد عند قسم كبير منهم بأنهم سيدفعون ثمن أي تسوية تتم بين النظام السوري وأردوغان.
كما أصيب النظام السوري والموالون له بخيبة أمل من فوز أردوغان خصوصاً أنه أصبح بعد هذه الانتخابات أكثر قوة نتيجة حصوله مع حلفائه على أغلبية برلمانية. كما لم يعد مضطراً لتقديم تنازلات لأسباب انتخابية ولم يعد بإمكان النظام السوري فرض شروط مُسبقة عليه قبل أي تفاوض مثل انسحاب القوات التركية من شمال سوريا، ومن المتوقع أن تنضم تركيا إلى لبنان والأردن وجامعة الدول العربية في جهد مشترك لتأمين عودة آمنة للاجئين إلى الداخل السوري وهو طرح قد لا يجد حماساً من النظام السوري.
ولكن رغم كل ما سبق فإن تجارب العقد الأخير أكّدت على أنه من الصعب الوثوق بالرئيس أردوغان بعد التقلّبات الكثيرة التي حدثت في مواقفه وسياساته، خصوصاً في حال إصراره على التوجه شرقا وتمتين تحالفاته مع روسيا والصين مع الاستمرار في افتعال الأزمات مع أوروبا والولايات المتحدة مما قد يجعله أقرب موضوعياً إلى النظام السوري.
ولذلك من الأفضل للسوريين التحلّي بالصبر والحكمة خلال المرحلة الحساسّة المقبلة، وأن يعملوا على التواصل مع كافة القوى السياسية التركية بدل المراهنة على طرف واحد، فهذه هي فترة الحكم الأخيرة لأردوغان. وفي هذا السياق، ليس من المُستغرب أن يعقب فترة حكم أردوغان الطويلة ردّة فعل عند أغلبية الشعب التركي تتجلّى برفض الكثير من طروحاته وسياساته كما يحدث عند الانتهاء من الحكام الذين قضوا في السلطة وقتاً أطول مما يجب. بالنظر إلى هذا المشهد السياسي المتغير باستمرار في تركيا، ينبغي على السوريين التحوط من رهاناتهم عوضاً عن اعتبار انتصار أردوغان نتيجة حاسمة.