- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الانتخابات التونسية تشير إلى تحرك يتخطى الصراع بين العلمانيين والإسلاميين في تونس
خيّم جو غريب على الانتخابات الرئاسية التونسية التي شهدتها البلاد في 15 أيلول/سبتمبر – جوّ أشار إلى غياب تام للثقة بالحكومة وبالنخبة الحاكمة التي سيطرت على الحياة العامة منذ ثورة العام 2011. وأظهرت النتائج الرسمية التي أعلنت عنها "الهيئة العليا المستقلة للانتخابية" بعد يوميْن من الانتخابات أن مرشحيْن غالبًا ما تشير إليهما وسائل الإعلام المحلية بالدخلاء على السياسة قد تصدّرا السباق الرئاسي.
فقد حصل قيس سعيد، وهو أستاذ محافظ في القانون الدستوري يُعرف باستخدامه المنتظم للغة العربية الكلاسيكية في خطابه الرسمي، على 18.40 في المائة من الأصوات، في حين حصد نبيل القروي، أحد أقطاب الإعلام المثيرين للجدل تمّ اعتقاله في آب/أغسطس للاشتباه بارتكابه جرائم تبييض أموال وتهرب ضريبي، 15.85 في المائة من الأصوات. وتخطى هذا الثنائي جميع مرشحي "السلطة" في البلاد، بمن فيهم كبار رجال السياسة المحليين أمثال عبد الفتاح مورو، مرشح حزب "النهضة" الإسلامي، ويوسف الشاهد، رئيس الوزير بالوكالة، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيسا حكومة سابقان ورئيس سابق، ولائحة طويلة تضمّ 24 مرشحًا كانوا يخوضون جميعهم السباق الرئيسي إلى جانب سعيد والقروي.
وبغية فهم ما الذي يمكن وصفه بهزة سياسية في تونس، لا بدّ من التحقق من الأسباب التي دفعت بالناخبين إلى الابتعاد عن مؤسسات الدولة خلال هذه الانتخابات. إن مقدمة ما يبدو نقطة تحوّل مهمة في العملية الانتقالية الديمقراطية في تونس انطلقت في أيار/مايو 2018، حين فاز مرشحون مستقلون بمقاعد في الانتخابات البلدية أكثر من كافة الأحزاب السياسية مجتمعةً. وعكست هذه النتيجة عدم الثقة وخيبة الأمل التامين وسط الرأي العام إزاء السياسيين المحليين، وقد تُرجم هذا الواقع بمعدل المشاركة المتدني.
وكان استياء الشعب قد تعمّق حين بدا الممثلون المنتخبون في مجالس البلدية المحلية عاجزين تمامًا عن فرض سلطتهم أو إجراء أي تغيير فعلي. وأشار هذا الواقع إلى أن عملية اللامركزية المتوقّعة منذ فترة طويلة لم تدخل فعليًا حيز التنفيذ. وعمومًا، يُثقل كاهل التونسيين واقع أن الكثيرين لا يرون أي تحسن فعلي يطال حياتهم اليومية وأن الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي تمّ الإعلان عنها بعد الإطاحة بالرئيس السابق بن علي لم تطبق على الإطلاق.
وقد أدّت الإدارة الفوضوية للحكومة وانهيار الاقتصاد الوطني إلى تزايد عدد التونسيين – ولاسيما الشباب منهم – الذين يشككون بسبب وجود العملية الديمقراطية. فقد خسر حزب "النهضة" ثلثي ناخبيه مقارنةً بالعام 2011، وقرر الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي شهد على انهيار حزبه "نداء تونس" خلال السنوات الثلاث الماضية في العام 2018 الإعلان رسميًا عن سقوط "سياسة التوافق" بين الإسلاميين والسياسيين العلمانيين. وترافق هذا الإعلان مع إعرابه عن استيائه حيال ما وصفه مساعدوه بـ"بصمة "النهضة" في عملية تفكك ’نداء تونس‘".
ولاحقًا، سعى رئيس "النهضة" راشد الغنوشي إلى تشكيل ائتلاف جديد استنادًا إلى نموذج التوافق نفسه الذي كان قائمًا خلال انتخابات العام 2014. إنه تكتيك مثبت سمح له بتحريك خيوط السياسة المحلية والحكم خلف الكواليس، في حين تلقى شركاؤه العلمانيون اللوم على أداء الحكومة السيئ. وسخر المحللون المحليون التونسيون من إعلانه بأن "حزب "النهضة" يبحث عن شخص استثنائي يدعمه في الانتخابات الرئاسية المقبلة". واعتبر العديد من الناشطين في "نداء تونس" يوسف الشاهد هذا الشخص الاستثنائي والفرصة الأكثر ترجيحًا لكي يفوز "النهضة" بالرئاسة.
لكن رئيس الوزراء يوسف الشاهد، الذي ارتد بشكل كبير عن حزب "نداء تونس" بقيادة الباجي قائد السبسي، انتُقد بدوره بسبب النتائج الاقتصادية السيئة التي سجلتها حكومته، وكذلك استخدامه المزعوم لمؤسسات الدولة من أجل دفع أجندته الشخصية قدمًا. ففي أيار/مايو 2017، وتحت شعارات مناهضة الفساد، أرسل أبرز مؤسسي "نداء تونس" – رجل الأعمال المثير للجدل شفيق الجراية – إلى السجن حيث واجه محكمة عسكرية رغم كونه مدنيًا إلى جانب مدير الاستخبارات الوطنية ورئيس قسم محاربة الإرهاب بتهمة "تبادل معلومات استخباراتية مع جيش أجنبي". وفي حزيران/يونيو 2019، قدّمت حكومة الشاهد إصلاحًا للقانون الانتخابي – رفضه الباجي قائد السبسي – مع مفعول استدلالي. وكان الهدف الرئيسي من ذلك الإصلاح القطب الإعلامي نبيل القروي الذي كان أيضًا عضوًا بارزًا في حزب "نداء تونس" الذي حوّل قناته التلفزيونية ("نسمة") إلى منصة شبه رسمية للعلمانيين التونسيين.
هذا وشكّلت وفاة الباجي قائد السبسي في 25 تموز/يوليو حدثًا معرقلًا أمام ائتلاف "النهضة" وحلفائه من المنشقين من "نداء تونس". ويدافع خصومهم الذين يُطلقون على أنفسهم اسم السياديين، ولكن غالبًا ما يُشار إليهم من قبل الائتلاف الحاكم ووسائل الإعلام الحزبية بالشعبويين، عن رؤية قومية للعلاقة مع الشركاء الاقتصاديين الأجانب، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. وتستهدف سرديات السياديين الأغلبية المهمشة من التونسيين والناخبين المسجلين حديثًا والبالغ عددهم 1.5 مليون والذي سيحدّد قرارهم معالم نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 2019.
وكان فشل الحكومات المتعاقبة في معالجة طموحات الشباب المستاء والعاطل عن العمل بشكل خاص قد أدى إلى تدهور الظروف السياسية والاجتماعية في تونس. وكما حصل في العام 2011، انتقل الجدل السياسي من البرلمان مرة جديدة إلى الشوارع، حيث أن أعدادًا كبيرة من الشعب لم تعتبر أن السياسيين المنتخبين سواء كانوا من العلمانيين أو الإسلاميين يمثلونها.
تجدر الملاحظة أن تصريحات قيس سعيد بأن هذا الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والعلمانيين يشكّل "صراعًا مصطنعًا يحيد عن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الفعلية" هي التي جعلت منه مرشحًا شعبيًا ضد النظام. وبدلًا من ذلك، استندت رؤيته إلى إصلاح دستوري يتضمن عملية لامركزية ووضع حد لنظام الأحزاب التي تحكم البلاد منذ العام 2011. يُذكر أن مدير حملته هو رضا المكي، قائد يساري في الجامعة خلال ثمانينيات القرن الماضي من حزب "وطنيون ديمقراطيون". وتتسم رؤية هذا السياسي بالمصالحة بين اليسار والدين وبموقف متأصل مناهض للعولمة مستلهم من التطورات الحديثة نسبيًا التي شهدتها بريطانيا والولايات المتحدة والبرازيل.
في المقابل، يتولى منذر ثابت دور الإيديولوجي في حملة القروي، وهو يساري آخر من جيل المكي. وإذ هو مؤسس الحزب الليبرالي في ظل النظام السابق، اعتمد سردية سيادية منذ 2011. ومثّلت حملة القروي رؤية اقتصادية أكثر تطورًا أعدّها عياض اللومي، وهو خبير محاسبة قانوني بارز طرح الحاجة إلى تغيير نموذج التطوير وشكّك في الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تُعرف باسم "مشروع اتفاقية التجارة الحرة الشاملة – أليكا". ويعزو أخصائيون محليون و"الاتحاد العام التونسي للشغل" وخبراء اقتصاد سبب انحسار القدرة التصنيعية في تونس وانهيار اقتصادها إلى اتفاق الشراكة الأورومتوسطية. وهو موقف لا يؤيده الائتلاف الحاكم.
كما يعكس التركيز على السياسة باعتباره سمة متميزة لهذه الانتخابات عدم رضا الشعب التونسي عن واقع أن عملية إرساء الديمقراطية في تونس مبنية بشكل شبه حصري على تنظيم انتخابات مع غياب خطير للمؤسسات المشاركة والآليات الشاملة التي تضمن الشفافية والمساءلة. وقد عالج سعيد على الفور هذا الاستياء من خلال اقتراح مساءلة المسؤولين المنتخبين عبر التمتع بالقدرة على إزالتهم من منصبهم حتى خلال ولايتهم.
ويجب ألا يغيب عن بالنا أن السياق الاجتماعي والروابط الشخصية تؤثر على السياسة في تونس. لكن ما هو على المحك في انتخابات العام 2019 سيكون مختلفًا بشكل خاص عن الانتخابات السابقة. على سبيل المثال، يبدو أن أغلبية من التونسيين تدعم موقفًا محافظًا إزاء قانون الإرث في البلاد، مقابل المساعي المبذولة في الآونة الأخيرة لتغييره. وكان انعدام الثقة المتنامي الذي يتمّ التعبير عنه عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد جعل التواصل المباشر مع الناخبين ووسائل الإعلام التقليدية أكثر تأثيرًا. في المقابل، لم يبد أن للمناظرات الرئاسية العلنية تأثيرًا ملحوظًا على الرأي العام وقد انتقدت فعليًا باعتبارها صيغة حالت دون أي نقاش فعلي.
ومن المرجح أن يواصل حزب "النهضة"، الذي غالبًا ما اعتُبر الحزب السياسي المنظم الأكبر في تونس، سقوطه خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة. واعتُبرت أفعال قيادة الحزب سواء لجهة التطبيق البطيء للإصلاحات واعتماد ما يُسمى بقانون المصالحة الاقتصادية والموقف الأولي المبهم حيال قانون الإرث تراجعًا عن الموجبات التي تعهّد بها في إطار حركة ثورة 2011 ويبدو أنها كلّفته مركزه في الحكومة.
للمفارقة، ساهمت وفاة الباجي قائد السبسي في تحقيق هدفه المتمثل بتنظيم انتخابات رئاسية قبل الانتخابات التشريعية في تشرين الأول/أكتوبر – وهو ما رفضه قطعًا حزب "النهضة" وحلفاؤه – في انتخابات ستؤثر على تشكيل البرلمان المقبل. ويجعل هذا التغيير في الرزنامة الانتخابية من الانتخابات الرئاسية مقدمة لتلك التشريعية، ونظرًا إلى النتيجة الكارثية التي حققتها الأحزاب السياسية الرئيسية في الانتخابات الرئاسية، من المرجح أن يكون البرلمان المقبل مختلفًا تمامًا عن الحالي. ويجب أن يستقي المرشحون المستقلون والأحزاب السياسية العبر من هذه الانتخابات من أجل تشكيل مجموعة برلمانية تنتهج سياسة سيادية وإيديولوجيا محافظة.