- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الاستنتاجات من زيارة وليام بيرنز المفاجئة إلى ليبيا
كان الغرض من لقاء بيرنز بالدبيبة وحفتر على الأرجح، هو مناقشة مخاوف الولايات المتحدة الرئيسية بما في ذلك قضية لوكربي وأمن الطاقة والإرهاب.
في 12 كانون الثاني/يناير، قام مدير "وكالة المخابرات المركزية الأمريكية" وليام بيرنز بزيارة مفاجئة مدتها يوم واحد إلى ليبيا، حيث التقى قائد "الجيش الوطني الليبي" خليفة حفتر في بنغازي ورئيس "حكومة الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة في طرابلس. وأثارت زيارة بيرنز الكثير من التكهنات حول الغرض من الزيارة وحول المسائل التي أُثيرت بينه وبين محاورَيه الليبيَين.
في ما يتعلق بالسياق، تتمحور سياسة الولايات المتحدة في ليبيا حول ثلاث قضايا أساسية. فأولًا، تشعر واشنطن بقلق شديد من نفوذ روسيا ووجودها في ليبيا عبر "مجموعة فاغنر." وتسعى الولايات المتحدة إلى تقليص قدرات هذه الشركة العسكرية الخاصة، خاصةً الآن بعد أن أصبحت عمليات المجموعة في كلٍ من الدول الأفريقية وأوكرانيا موثّقة جيدًا.
ثانيًا، تُركّز الولايات المتحدة على وضع الطاقة في ليبيا بسبب الصراع الجيوسياسي الحالي بين الغرب وروسيا الغنية بالطاقة. وعلى هذا النحو، تريد الولايات المتحدة ضمان بقاء قطاع الطاقة في ليبيا محصنًا ضد أي اضطرابات كبيرة قد تنجم عن الاقتتال السياسي الجاري أو الانقسامات المؤسسية أو عدم الاستقرار العام في ليبيا.
ثالثًا، استندت واشنطن باستمرار إلى محاربة الإرهاب كأساس لكيفية تعاملها مع المنطقة، ويزداد التخوف من عودة ظهور التهديدات الإرهابية في المناطق الجنوبية والغربية من ليبيا. فقد رُصدت مجموعات وعناصر جهادية، ووقعت اشتباكات في بعض الأحيان في خلال الأشهر الأخيرة. وشهدت مناطق غرب طرابلس ازديادًا في تواجد الجماعات المتطرفة، لا سيما في منطقة جنزور ومدينتَي الزاوية وصبراتة، التي تقع كلها غرب طرابلس. ويزداد الوضع سوءًا بسبب تركيا ووكلائها الإسلاميين في غرب ليبيا، الذين يسعون إلى إعادة تحديد المشهد الأمني بطرقٍ يمكن أن ترسّخ الوجود العسكري التركي في ليبيا.
تقدم على صعيد ملف لوكربي
مع أن المحاولات الجارية لتحريك الدعوى في قضية لوكربي ليست أساسية بالنسبة إلى سياسة واشنطن تجاه ليبيا مثل القضايا الثلاث المذكورة أعلاه، لكنها عامل مهم آخر في العلاقات الأمريكية الليبية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2022، نسّقت الحكومة الأمريكية مع جماعات مسلحة موالية لرئيس "حكومة الوحدة الوطنية" الدبيبة في مسألة اختطاف أبو عجيلة مسعود المريمي وتسليمه، وهو مشتبه به في قضية تفجير لوكربي وقد وجّه المدعي العام الأمريكي اتهامات ضده في عام 2020. وتشير تقارير مختلفة إلى أن الولايات المتحدة تسعى أيضًا إلى تسليم مواطنين ليبيين آخرين على صلة بتفجير لوكربي، من بينهم الرئيس السابق للمخابرات الليبية في ظل نظام القذافي عبد الله السنوسي.
إلا أن تسليم المريمي عرّض "حكومة الوحدة الوطنية" ورئيس وزرائها لخطر كبير، خاصة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وأدى إلى انقلاب أصحاب المصلحة في الأوساط العامة والسياسية ضدها.وينتج جزء من رد الفعل العنيف عن واقع أن "حكومة الوحدة الوطنية" تواطأت مع ميليشيات متهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة في مجال حقوق الإنسان، كما ساد القلق في ليبيا حيث اعتُقد على نطاق واسع أن الولايات المتحدة كانت سعيدة للغاية بعقد صفقة مع "حكومة الوحدة الوطنية"، فوافقت على مساعدتها في البقاء في السلطة لفترة أطول، وسط الجهود السياسية الجارية التي ترمي إلى استبدال "حكومة الوحدة الوطنية"، والبدء في المرحلة التالية من العملية السياسة الليبية.
مع ذلك، راهن رئيس الوزراء الدبيبة ووزيرة خارجيته نجلاء المنقوش على أساس أن الحصول على الاعتراف والدعم من حكومة الولايات المتحدة سيحقق نجاحًا كبيرًا في استقرار وضع "حكومة الوحدة الوطنية" على الرغم من رد الفعل العنيف. فذَكَرتْ لي مصادر من "حكومة الوحدة الوطنية" أن بعض الجهات المقرّبة من رئيس الوزراء، مثل ابن عمه ومستشاره إبراهيم الدبيبة ووزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، كانت تتدافع للحصول على دعم الولايات المتحدة بعد التعاون المباشر في قضية لوكربي. وكنتيجة لذلك، ربما وضعت حادثة المريمي الدبلوماسيين الأمريكيين في موقف أصعب مما كان عليه قبل عملية التسليم، ما جعل دورهم كوسطاء بين أصحاب المصلحة الليبيين أكثر تعقيدًا، وأدى إلى الحد من فرص إحراز التقدم في العملية السياسية.
بالتالي، سافر بيرنز إلى بنغازي، أي القاعدة الأساسية لخصم "حكومة الوحدة الوطنية" خليفة حفتر، وذلك في إطار أول زيارة دبلوماسية مشابهة تقوم بها الولايات المتحدة منذ عقدٍ من الزمن. وربما كان تنظيم هذه الزيارة وإجراؤها أصعب في ظل تسليم أبو عجيلة بسبب التصورات العامة، ونتيجة انتقادات حفتر العلنية لعملية التسليم. ومن الجدير بالذكر أنه، على الرغم من الطابع العلني جدًا الذي اتسمت به زيارة بيرنز لطرابلس، بهدف إعطاء الانطباع مرة أخرى بأن الولايات المتحدة تُقدّم دعمًا رفيع المستوى لـ"حكومة الوحدة الوطنية"، لم تَظهر أي صور منشورة عن لقاء بيرنز مع خليفة حفتر. وبمعنى من المعاني، قد يُعتبر ظهور بيرنز علنًا في طرابلس بمثابة خدمة مقدَّمة لـ"حكومة الوحدة الوطنية" مقابل تعاونها في ملف لوكربي وتسليم المريمي. وقد يكون هذا الظهور أيضًا أحد الشروط المسبقة التي فرضها الدبيبة من أجل تأمين التعاون المستقبلي في قضية لوكربي، ما يشمل تسليم مطلوبين ليبيين آخرين مشتبه بهم.
القضايا الملحة بالنسبة إلى الولايات المتحدة
مع ذلك، كان لزيارة بيرنز إلى ليبيا على الأرجح أبعاد مهمة على صعيد السياسات أيضًا، لا سيما في ما يتعلق بالمخاوف الأمريكية من النفوذ الروسي. فبينما تزيد موسكو اعتمادها على "مجموعة فاغنر" في أوكرانيا، تبذل الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى المزيد من الجهود وتُكرّس المزيد من الموارد لفرض عقوبات على هذه المجموعة والحد من عملها، وذلك لحرمانها من الوصول إلى الأسلحة والتمويل. وقد سعت "مجموعة فاغنر" إلى استخدام ليبيا كقاعدة أمامية لممارسة أنشطتها في منطقة الساحل الأفريقي، لا سيما في تشاد والنيجر، بعد وصولها إلى ليبيا لدعم حملة حفتر في عام 2019 من أجل الاستيلاء على الأراضي في غرب ليبيا. وسعت المجموعة أيضًا إلى تأمين بعض العقود الشرعية مع السلطات الشرقية الليبية على مدى السنوات القليلة الماضية، وذلك في إطار تعدين الذهب وتوفير الخدمات الأمنية لشركات النفط والغاز العاملة في المنطقة الجنوبية من ليبيا.
بالإضافة إلى ذلك، تمكّنتْ "مجموعة فاغنر" من بناء مجالات نفوذ مع المجتمعات المحلية وشبكات التهريب في المناطق الحدودية الجنوبية من ليبيا، حيث ساعدت المجموعة على توفير الأسلحة وفي بعض الأحيان تقنيات استخراج الذهب أو المعادن الثمينة الأخرى. وأحد المخاطر الرئيسية المرتبطة بوجود "مجموعة فاغنر" في البلاد هو أنها تتركز بشكل أساسي في المناطق الغنية بالنفط في وسط ليبيا وجنوبها. فثمة خطر دائم يتمثل في اتخاذ الجيش الروسي الخاص أو أي مجموعة تابعة له قرارًا باستهداف إنتاج الطاقة وبنيتها التحتية في ليبيا، وذلك من أجل الرد على الضغوط الغربية المتزايدة على موسكو، ما يُعرّض أمن الطاقة في أوروبا لخطر أكبر.
وردا على هذا الوضع، أفادت مصادر داخل "الجيش الوطني الليبي" بأن بيرنز أوصلَ رسالة واضحة إلى حفتر، مفادها أن أي نوع من التعاون مع "مجموعة فاغنر" في ليبيا لن يتم التسامح معه بعد الآن وسيؤدي إلى عواقب، وهي رسالة تمت مشاركتها أيضًا مع حكومات إقليمية أخرى حسب التقارير. وساهم قيام الولايات المتحدة في 26 كانون الثاني/يناير بتصنيف "مجموعة فاغنر" كـ"منظمة إجرامية كبيرة عابرة للحدود" في مواصلة ترسيخ الرسالة التي تفيد بأن الولايات المتحدة ستُكثّف الضغط على المجموعة.
نظرًا إلى المخاوف بشأن احتمال تنفيذ عملية تخريب روسية لأحد مصادر الطاقة الرئيسية لأوروبا الغربية، ركّزت زيارة بيرنز إلى ليبيا أيضًا على الاستمرار في تأمين إمدادات ليبيا. فأكدت مصادر من "المؤسسة الوطنية للنفط" أنها تلقت رسائل تطمينيه من مسؤولين أمريكيين مفادها أن الولايات المتحدة لن تتساهل مع أي استخدام لهذه المؤسسة ولقطاع النفط والغاز بشكل عام كسلاح. كما تم إيصال رسائل واضحة إلى بنغازي وطرابلس تشير إلى ضرورة الحفاظ على إنتاج النفط والغاز، وضمان أمن البنية التحتية.
منذ عام 2011، عانى قطاع النفط والغاز الليبي إلى حد كبير من الحصار المدمر والأضرار الناجمة عن الصراع، وبالكاد يمكن الحفاظ على مستويات الإنتاج الحالية البالغة 1.2 مليون برميل في اليوم في ظل الظروف الراهنة. وكانت الولايات المتحدة، إلى جانب بعض شركائها الدوليين، يحفزون فكرة تشكيل قوة عسكرية مشتركة في إطار "اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)"، من أجل الإشراف على الأمن في مواقع البنية التحتية الحساسة والحيوية، وذلك كتدبير يهدف إلى بناء الثقة وتوطيد وقف إطلاق النار. ومنذ أن تولى الدبيبة السلطة في عام 2021، لم يُظهر أي دعم لعمل "اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)" التي تصبوا لتوحيد الجيش الليبي وطرد المقاتلين الأجانب.
تجدر الإشارة إلى أن زيارة بيرنز تلاها وصول رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان إلى طرابلس لاحقًا. وأكدت مصادر من "حكومة الوحدة الوطنية" في طرابلس أن فيدان أراد الحصول على موجز عن زيارة بيرنز، وحذّر الدبيبة في أثناء ذلك من أخذ كل النصائح الأمريكية على محمل الجد. وبشكل خاص، أراد فيدان معرفة المزيد عن الهاجس الذي أعربت عنه الولايات المتحدة بشأن التقارب المحتملَ بين "حكومة الوحدة الوطنية" وروسيا، وكيف سيوجّه ذلك نهج واشنطن تجاه ليبيا. إن موسكو هي بصدد إعادة فتح سفارتها في طرابلس، وقد عيّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سفيرًا مفوضًا فوق العادة للاتحاد الروسي لدى دولة ليبيا هو أيدار رشيدوفيتش أغانين. ربما اثارت مثل هذه التحركات، إلى جانب التسليم بأن هناك اجتماعان تمت بالفعل بين الطرفين، مخاوف واشنطن.
من الناحية الأمنية أيضًا، ربما تقع بعض التوجهات الأخيرة في طرابلس ومدينة الزاوية ضمن اهتمامات الولايات المتحدة. فعلى أرض الواقع، تشهد منطقة جنزور في طرابلس ومدينتا الزاوية وصبراتة تزايدًا في نفوذ الجماعات المتطرفة بقيادة شعبان هدية ومحمود بن رجب، وكلاهما حليفان لتركيا ومقربان منها. وقد تَمكّنَ بن رجب مؤخرًا من التفاوض بشأن عملية لتبادل الأسرى، إذ نجح في إقناع "الجيش الوطني الليبي" بالإفراج عن خمسة عشر عضوًا من "مجالس شورى المجاهدين" التي كانت قائمة سابقًا في بنغازي ودرنة وإجدابيا، مقابل الطيار المقاتل من "الجيش الوطني الليبي" عامر الجقم.
تراجع تهديد المجموعات الجهادية في ليبيا بشكل كبير بعد عام 2017، لكنه بدأ يعاود الظهور في خلال حرب طرابلس في عام 2019 وبعدها، ما أدى إلى تثبيت التواجد العسكري التركي في ليبيا وتعزيزه. وشمل هذا التواجد في الوقت نفسه وجودًا رسميًا للقوات التركية، وتحالفًا غير رسمي مؤلفًا من المرتزقة السوريين والقادة الليبيين المسلحين ذوي الأيديولوجيات المتطرفة الذين رأوا فرصةً للحفاظ على وجودهم في ليبيا من خلال تقديم خدماتهم إلى أنقرة.
علاوة على ذلك، تزايدَ نفوذ الشخصيات والجماعات المتطرفة مثل المفتي العام الصادق الغرياني الذي دعم في الماضي "أنصار الشريعة" و"مجلس شورى مجاهدي درنة"، وكذلك نائب الغرياني والزعيم الديني السابق في "الجماعة الليبية المقاتلة" وأمين عام مجلس البحوث في "دار الإفتاء الليبية" في طرابلس سامي الساعدي. ومن بين أصدقاء هذا الأخير شخصيات مثيرة للجدل مثل سراج الدين حقاني، أي وزير الداخلية في حركة "طالبان" الذي التقى به الساعدي في كابل الشهر الماضي، ويعرفه منذ أن كان الجهاديون العرب يقاتلون في أفغانستان ضد "الاتحاد السوفيتي" ولاحقًا ضد الجماعات المسلحة الأفغانية الأخرى. وفي آب/أغسطس 2021، احتفل الساعدي على صفحته على "فيسبوك" باستيلاء "طالبان" على كابل في أفغانستان.
قد تفتقر الولايات المتحدة إلى الالتزام أو الإرادة اللازمَين للمساعدة في حل النزاع الليبي الطويل الأمد. وفي ظل وجود هذا القدر من التجزئة والانقسام الذي تشهده ليبيا اليوم، يُحتمَل أن تحافظ الولايات المتحدة على نهج عملي يهدف إلى احتواء الصراع وإدارته. ومن أجل القيام بذلك، تعتقد أنه عليها إعطاء الأولوية للقضايا الثلاث المذكورة أعلاه بهدف تأمين مصالحها المباشرة في ليبيا. وتؤكد زيارة بيرنز الأخيرة أن واشنطن ستستمر على الأرجح في التعامل بواسطة الصفقات مع المحاورين الرئيسيين، مثل قائد "الجيش الوطني الليبي" خليفة حفتر ورئيس "حكومة الوحدة الوطنية" عبد الحميد الدبيبة، من أجل معالجة الهواجس الأمريكية المتعلقة بالأمن القومي والسياسات، حتى لو كان ذلك يعني تمكين الجهات الفاعلة ذاتها التي احتجزت ليبيا وشعبها رهينة مصالحها وطموحاتها السياسية الضيقة.