- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
البعد الاقتصادي للسلام في تركيا
في خطته الرامية لضمان ولاء الأكراد، اتبع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منهجاً ذا أشكال متعددة تراوحت ما بين منح هؤلاء الأكراد حقوقهم المدنية، وبين مد غصن الزيتون للمتمردين من عناصر «حزب العمال الكردستاني»، وكذلك السماح لأول حزب موال للأكراد بالحصول على مقاعد في البرلمان في دولة تسير فيها التنظيمات السياسية خارج مسار الإدارة الحاكمة، حيث تتم إزاحة تلك التنظيمات من السلطة بسرعة متناهية. إلا أن أي من تلك السياسات لم تؤد إلى سلام آمن. فبالرغم من زيادة التمثيل السياسي الحالي، وإقرار وقف إطلاق النار بين الحكومة و «حزب العمال الكردستاني»، فقد انفجر الجنوب الشرقي الكردي - الصيف الماضي - في صراع حاد، أدى إلى مقتل نحو ثلاثمائة جندي تركي وخمسة آلاف مقاتل من «حزب العمال الكردستاني» منذ اندلاع أعمال العنف في تموز/يوليو 2015. وفى الوقت نفسه، انتشر الإرهاب، وأصبح يمثل مشكلة قومية كبيرة، خاصة بعدما قامت عناصر انتحارية تابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» و «حزب العمال الكردستاني» بتفجيرات في أنقرة وإسطنبول خلال الشهرين الماضيين.
ومثل العديد من أسلافه، عقد أردوغان العزم على تسوية النزاع مستخدماً القوة العسكرية، دون أن يأتي ذلك بنتيجة تذكر. وقد غفل أردوغان عن طريقة مثلى، بإمكانها هزم «حزب العمال الكردستاني»، تكمن في تحفيز ودفع النمو الاقتصادي في جنوب شرق البلاد. ومن ثم، يجب على اردوغان أن يعمل على وضع تواجد أمنى في ذلك الإقليم - لكن ينبغي على تلك القوات أن تكون ذات وجهة دفاعية وأن تقوم بدورها كقوات أمنية وليست عسكرية. فللأسف تعمل القوات الموجودة حالياً هناك على تدمير الإقليم وليس بنائه. وبدلاً من ذلك، يمكن لتلك القوات أن تعمل على تأمين مشروعات البنية التحتية، كما يمكنها العمل على منع عناصر «حزب العمال الكردستاني» من مهاجمة سدود مثل اليسو وسيلفان، والتي كانت مخطط لها أن توفر وظائف لما يقرب من 300,000 شخص. وعوضاً عن ذلك، قامت تلك القوات بهدم المتاجر وإزالة مناطق تجارية بأكملها وشن هجمات كبرى لتطهير المدن من مقاتلي «حزب العمال الكردستاني».
ورغم أن الأكراد فازوا في تركيا بالعديد من الحقوق المدنية والسياسية التي طال انتظارها منذ أن بدأ «حزب العمال الكردستاني» كفاحه المسلح ضد الدولة في عام 1984، إلا أن هناك فجوة اقتصادية كبيرة بين الجنوب الشرقي الكردي وبقية تركيا، الشيء الذي أدى إلى تحريك استقطاب سياسي قوي سعياً إلى التوصل لحلول سياسية فعالة .فالفقر ما يزال منتشراً بين المجتمعات الكردية في الجنوب الشرقي، إذ أضحى غير قابل للانهزام، بل إنه أصبح قوة دافعة ومحركة للتيارات التي تقف خلف حالة عدم الاستقرار التي تشهدها كل من تركيا وسوريا والعراق. وقد أدت العقود الثلاثة الأخيرة من القتال المتقطع إلى زعزعة البنية التحتية، وقهقرة الاستثمار في جنوب شرق تركيا - التي هي معقل «حزب العمال الكردستاني» - وإضعاف الاقتصاد المحلي حتى أصبح في حالة يرثى لها. ونتيجة لموجات العنف الأخيرة، أعلنت بعض المتاجر في "ديار بكر" - التي تعتبر مركزاً تجارياً إقليمياً رئيسياً - عن خسائر في الإيرادات وصلت إلى 80 في المائة، وأصبحت الفنادق تناضل من أجل ملء الغرف. ووفقاً لبيانات "معهد الإحصاء التركي"، فإن حوالي ثلث السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في تركيا يقيمون حالياً في المحافظات الجنوبية الشرقية.
وإذا ما أردنا دراسة الوضع ميدانياً، فإنه يسهل علينا تحديد الأشخاص الذين يقوم «حزب العمال الكردستاني» بتجنيدهم للقتال، فهم يتواجدون أينما انعدم المال أو قل. وقد خَلُصَتْ دراسة أجراها "مركز أبحاث الجريمة عبر الوطنية والإرهاب الدولي" - بغرض الكشف عن الأسباب التي تدفع الشباب إلى الانضمام إلى هذا الحزب الكردي - إلى نتائج مهمة، حيث أظهرت أن أربعة من أصل خمسة إرهابيين من «حزب العمال الكردستاني» كانوا عاطلين عن العمل قبل انضمامهم إليه. وأن جميع المدن الثلاثة التي تعاني من أعلى معدل للبطالة في عام 2015، تقع في الجنوب الشرقي الذي يضم السكان الأكراد. فالعدد الهائل من الشباب الأكراد الذين يحتاجون إلى مصدر دخل في ظل محدودية فرص العمل، أصبح المصدر الأساسي الذي يعتمد عليه الحزب المذكور في تجنيد الأفراد مقابل المال.
وقد أعلن أردوغان - عندما كان يعلق على أثر اختتام المفاوضات لوقف إطلاق النار مع «حزب العمال الكردستاني» - أنه "إذا تمكن من حل تلك المشكلة، فبإمكان الاستثمار أن يحقق ازدهاراً". ومع ذلك، ففي نيسان/أبريل 2015 قال مقاول بناء لرويترز "لقد قضَتْ عليّ البنوك ومؤسسات الإقراض. لا يوجد اقتصاد، ولا مصانع. الآن أنا فقط أقتل الوقت هنا مثل أي شخص آخر". وتعاني المنطقة من شح في فرص العمل، إذ يتأرجح معدل البطالة ما بين 15 في المائة، وفقاً للتقارير الحكومية، وبين 40 في المائة، وفقاً لرجال الأعمال المحليين في الإقليم في منتصف عام 2015، ورغم ما كان يأمله أردوغان من إنجاز طفرة مالية في المنطقة لتشجيع الأكراد على وقف إطلاق النار، إلا أن أمله قد خاب. ويعود ذلك جزئياً إلى سوء إدارته للاستثمار في جنوب شرق البلاد، إذ أسفر تعهد «حزب العدالة والتنمية» بإعادة تمويل مشروع جنوب شرق الأناضول - سلسلة من السدود والمشاريع الزراعية إلى جانب محطة لتوليد الكهرباء لدعم التنمية في المنطقة - أسفر عن مزيد من التشكيك في مصداقية نتائجه. فقد صرح بيرك بيزال رئيس "جمعية الصناعيين ورجال الأعمال" في ديار بكر لتلفزيون بلومبرغ، في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، بأن "نحو 80 في المائة من مشروع جنوب شرق الأناضول قد اكتمل، من حيث إمدادات الطاقة، وأنه قد تم الانتهاء من [بناء] 12 في المائة فقط من قنوات الري. وأن ما نحتاجه حالياً هو تحسين طرق الزراعة في المناطق القاحلة، وتحسين معيشة الناس هناك". فمشروع جنوب شرق الأناضول الذي يضمن توفير المكاسب لأنقرة وغرب تركيا، يجب أن يوفر السكن للمجتمعات هناك أيضاً، ويجب أن تكون له الأولوية في أجندة أردوغان.
وباعتراف الجميع، فإن مضاعفة جهود التنمية الاقتصادية لا يمكنها شراء ولاء جميع أعضاء «حزب العمال الكردستاني» الحاليين والمحتملين. فعلى الرغم من أن العلاقة بين التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي هي علاقة تكاملية هامة للغاية، إلا أنها بقيت تعاني من عدم التوازن لفترة طويلة في تركيا. وسبب ذلك لأنه لا يمكن للتنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي أن يتحققا دون الاهتمام بالجانب الاجتماعي. فالتخفيف من وطأة الحرمان التي يعاني منها الأكراد هو العنصر الرئيسي المفقود في عملية السلام المتراجعة مع «حزب العمال الكردستاني»، وفى تحقيق الاستقرار في المنطقة. وأخيراً، يمكن القول أنه دون تلبية الاحتياجات الاقتصادية للأكراد الذين يعيشون في جنوب شرق البلاد، لن تكون المناورات العسكرية والسياسية كافية لمنع تركيا من الانزلاق في دوامة العنف.
بن سولينبرجر، كاتب ومحرر مقيم في واشنطن العاصمة. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"