- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
البروباغندا الروسية الخفيّة باللغة العربية... بعيدا عن اعين الغرب
باتت حملات الدعاية الروسية التي تصور الحرب في أوكرانيا في الانتشار بشكل متزايد عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي العربية.
بصفتي مؤرخة فكرية ناطقة بالعربية (لغتي الأم) أمضيت سنوات في إجراء الأبحاث في النشاط السياسي الرقمي المؤيد للديمقراطية، يثير ما أراه اليوم على شبكة الإنترنت قلقي. فمنذ عام 2016، أصبحنا كلنا على علمٍ بالتضليل الإعلامي الذي تستهدف به روسيا الناطقين باللغة الإنكليزية، ولكن معظم الغربيين لا يعلمون بشأن الحملة الدعائية الأخرى باللغة العربية التي لا تقلّ خطورة (إن لم تكن أكثر خطورة) وتعمل حاليًا على التلاعب بالنظرة العامة إلى الحرب الروسية في أوكرانيا.
فالأنظمة الاستبدادية، ومن بينها النظام الروسي، تستغل وسائل التواصل الاجتماعي لتصوير الحرب الروسية غير المبررة على أوكرانيا على أنها صراع شبيه بالمواجهة بين داود وجليات، تؤدي فيه القوى الغربية دور العملاق جليات وروسيا دور داود – وهذا أمر لا يصدَّق. وما هذا التشويه الفاضح إلا جزء من حرب دعائية أوسع نطاقًا تستهدف الديمقراطية وتشنّها الأنظمة الاستبدادية في مختلف أنحاء العالم، ونحن في الغرب نخسر هذه الحرب، أقله على ساحة التواصل الاجتماعي بالعربية.
على تويتر مثلاً، يظهر عند كتابة كلمة «أوكرانيا» باللغة العربية عدد كبير جدًا من المنشورات الموالية لروسيا. وعند كتابة هذا المقال مثلًا، صادفت تغريدةً تظهر مقطع فيديو لقصف مستشفى – على غرار ما ارتكبته روسيا مؤخرًا في ماريوبول والذي خلّف عواقب وخيمة على المدنيين. ولكن هذه التغريدة توجّه القارئ إلى الموصل في عام 2016 عندما استهدفت الولايات المتحدة (بطلب من الجيش العراقي) مستشفىً كان يُستخدم كمركز عمليات لتنظيم "داعش". وجاء في التغريدة: "إنسانية أوباما المزعومة في العراق عندما قصف مستشفى في الموصل بأسلحة كيميائية محظورة دوليًا. هكذا دُفن أطفال الموصل".
وقعتُ أيضًا على تغريدة أخرى لإحدى الشخصيات المؤثّرة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر التناقض في تفاعل الغرب مع الأزمة الأوكرانية من جهة وتفاعله مع فلسطين وسوريا وليبيا واليمن وأفغانستان من جهة أخرى. وغرّد مسؤولٌ سعودي سابق أنه يأمل في أن "تكون الحرب الأوكرانية بداية نهاية الهيمنة الأمريكية وتشكيل عالم متعدد الأقطاب، بما يخدم مصلحة الكثير من سكان العالم". وتفترض هذه التغريدة أن العالم الذي يزداد فيه تمكين ديكتاتورية روسيا الوحشية يخدم البشرية - وتتجاهل بشكل فادح معاناة الشعب الأوكراني التي تسببت بها القوة الروسية نفسها.
وبعيدًا عن الأكاذيب الصارخة من مصادر مثل النسخة العربية من "روسيا اليوم"، من الواضح أن السردية الروسية تتسرب إلى التقارير العربية عن الصراع، ولا يمكن اعتبار الأمثلة المذكورة أعلاه غريبة أو غير اعتيادية. فأنا أراقب هذه التغريدات منذ أيام، وأقرأ عادةً التغريدات المئة الأولى تقريبًا. وفي ما خلا بعض الاستثناءات النادرة، تحيد السردية السائدة مشاعر التعاطف بعيدًا عن أوكرانيا وتركّز على الشرور المفترضة للديمقراطيات الليبرالية الغربية، ساعيةً بالدرجة الكبرى إلى دعم السردية الروسية للحرب. ومن دون معرفة المصدر الأصلي لهذه الحسابات، يبدو أن الكثير من التغريدات تأتي من متصيدين خليجيين. فالكثير منهم يضعون أعلامًا سعودية أو إماراتية في صور ملفهم الشخصي، بينما يملك آخرون ملفات شخصية يظهر فيها شخص بالزي العربي الخليجي.
ومرة أخرى، لم يتضح ما إذا كانت هذه الحسابات من الخليج فعلاً أو أنها أُنشئت لإعطاء الانطباع بأن الخليج يدعم القضية الروسية. مع ذلك، لن يكون آمر مفاجئًا إذا كانت حقيقية، لأنها ليست بعيدة جدًا عن المواقف الرسمية لهذه الحكومات. وقد يفاجئ هذا الرابط الكثير من المراقبين الغربيين. ففي النهاية، لماذا قد ينحاز الإماراتي إلى روسيا في حربٍ من الواضح أنها غير عادلة وغير مبررة ضد دولة مجاورة؟
ومع ذلك، تتمتع دول الخليج بتاريخ طويل في دعم الأنظمة الاستبدادية داخل المنطقة وخارجها. وفي الآونة الأخيرة، قامت تلك الدول بدعم الرئيس المصري السيسي، واللواء البرهان فى السودان، والرئيس التونسي سعيد. ومؤخرا، يبدو أن العلاقات الامريكية -الخليجية قد وصلت لأدنى مستوياتها، كما هو مفصل في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست". ومن بين التقنيات الأخرى التي أتقنتها دول الخليج هي استخدامهم لنهجَ "مجموعات المتصيّدين وتكتيكات التصيُّد الجماعي" بغية التغلب على الحسابات والروايات الأصيلة وتشويهها. ترتبط تقنية "مجموعات المتصيّدين" سيئة السمعة مباشرة بسعود القحطاني، أحد كبار مستشاري ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي يُزعم تورطه في ملاحقة ومضايقة المعارضين السعوديين وقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
شاهدتُ بقلقٍ التصعيد الثابت والمتنامي للخطاب المعادي للغرب وللديمقراطية في عالم الإنترنت باللغة العربية على مدى العقد الماضي. ولقد كثّفت أيضًا الكثير من الأنظمة الحاكمة في المنطقة هجومها على الناشطين المؤيدين للديمقراطية وحقوق الإنسان. فهذه الدراسة مثلاً التي أجراها كبار علماء الاجتماع من جامعتَي ستانفورد وجورج واشنطن، تتناول بالتفصيل "آليات المراقبة الرقمية والقمع والسيطرة» التي استخدمتها الأنظمة الاستبدادية ضد شعوبها في الشرق الأوسط.
وفي خضم هذا الوابل الدعائي المعادي للغرب والمؤيد لروسيا، تلتزم الأصوات الموالية للغرب الصمت المطبق. ولم يسأل أحدٌ مثلاً عمّا منع دول الخليج العربية الغنية من استقبال اللاجئين السوريين بمستوى من الكرم يضاهي كرم الدول المجاورة لأوكرانيا. في الواقع، أظهرت ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية حسن ضيافة تجاه اللاجئين السوريين أكثر من الدول العربية الغنية التي أغلقت حدودها في وجههم.
ولم يأتِ أحدٌ على ذكر الدور الكبير الذي لعبته الدول العربية الغنية في إثارة أو إدامة الصراعات في اليمن وأفغانستان وأماكن أخرى في المنطقة – مع أنه يتوجب علينا طبعًا في الغرب أن نطرح على أنفسنا الأسئلة الصعبة المتعلقة باستجابتنا لهذه الصراعات أيضًا. والحقيقة بأبسط أشكالها هي أنه لا توجد أصوات كافية لتصحيح الأخطاء، ويفترض المرء أن الأكاذيب المتعمدة تنتشر عبر الإنترنت حول دور الغرب وروسيا في أوكرانيا. وتتوافق هذه الأصوات بدقة مع حملة التضليل المتعمدة التي تقوم بها روسيا، حيث يخسر الغرب حرب الأفكار على الإنترنت.
قد يظن البعض أن أقصى ما يمكننا فعله من أجل أوكرانيا – ومن أجل الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية - يقتصر على العقوبات والإمداد بالسلاح. ولكنني على قناعة، كباحثة، ولكن أيضًا كامرأة من الشرق الأوسط، بأن الحكومات الغربية لا تستطيع تجاهل التغطية العربية للحرب الروسية على أوكرانيا ورسالتها المنتشرة والمعادية للديمقراطية عمومًا.
والأمر الأكثر خطورة الذي قد ينجم عن هذا التجاهل هو انضمام آلاف المقاتلين إلى الحرب الروسية من أجل محاربة "الغرب" في أوكرانيا. فحملات دعائية مماثلة ألهمت عشرات آلاف الشباب المسلمين من حول العالم للهجرة إلى العراق وسوريا من أجل شنّ حربٍ تم تصويرها، على النحو نفسه، على أنها معركة ضد النفوذ الغربي. وبالفعل، بدأ بوتين يعمل على تجنيد مرتزقة سوريين لحربه. وإذا استمرت الديمقراطيات الليبرالية في تجاهل حرب المعلومات التي تشنّها الدول الاستبدادية في جميع أنحاء العالم، قد ينشأ سيناريو مشابه للسيناريو السوري أو الليبي في قلب أوروبا.
علاوةً على هذه التهديدات المباشرة، يشكّل الترويج للقيم الليبرالية على شبكة الإنترنت مصدر قلق سياسي عميق. فالأنظمة الاستبدادية تدرك جيدًا تبعات التعرف على المعايير الديمقراطية الليبرالية، ولهذا السبب تحرص على ألا يرى السكان من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، سوى الجانب الأسوأ للغرب على الإنترنت والتلفزيون. وصحيحٌ أن الديمقراطيات الليبرالية الغربية بعيدة كل البعد عن الكمال، إلا أنها بالتأكيد أكثر تقدمًا في مجال حقوق الإنسان من هذه الأنظمة التي تسعى إلى تقويضها. ولِمَن يشكّ في هذه الحقيقة، يستطيع أن يجد في الأيام الطويلة التي تلت 24 شباط/فبراير أدلة كافية على ذلك. فقد أصبح تعزيز الإيمان بالمعايير الديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان العالمية حاجةً وجودية، ليس بالنسبة إلينا في الداخل فحسب، ولكن أيضًا لبقية العالم.
اليوم، ينهال على الشباب الناطق باللغة العربية فيضٌ من الرسائل المعادية للديمقراطية على مدار الساعة. وهذا أمر لا مفر منه، خصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك فإن الذين يحاولون تثقيف أقرانهم حول المشاركة المدنية على وسائل التواصل الاجتماعي يواجهون تحديات هائلة، كما كتبت بهذا الشأن. وكوني أمريكية من أصل عربي، أتوق إلى أن يتمتع أولئك الذين يتلقون هذه البروباغندا بالحريات التي أتمتع بها في النظام الديمقراطي الليبرالي. وحتى ذلك الحين، تهيمن روسيا على السردية. والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ما قيمة الحقيقة بالنسبة إلينا؟