- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الذاكرة الجماعية لثورة عام 2011 في مصر: دراسة استقصائية تشمل المصريّين بعد مرور عقد من الزمن
استطلاع جديد للرأي العام يقيس الانطباعات الدائمة لدى المصريين حول الربيع العربي.
في غضون 18 يومًا فقط، من 25 كانون الثاني/يناير إلى 11 شباط/فبراير من عام 2011، أطاح الشعب المصري بديكتاتورية حسني مبارك التي استمرّت على مدى 30 عامًا. وبعد مرور عقد من الزمان، دعونا المصريّين إلى التفكير في الذاكرة الجماعية الخاصة بتلك الأيام. ما الذي أدّى إلى اندلاع الثورة؟ هل كانت ناجحة؟ هل ضلّت طريقها؟ تشير محاولات تفسير الثورة في الخطاب العام إلى انعدام المساواة والركود الاقتصادي والفقر والبطالة والفساد. درسنا هذه المؤشّرات وقارنا بينها وبين ذكريات المصريّين من خلال تحليل استطلاع استقصائي أجريناه في تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
عدم كفاية التفسيرات الاقتصادية
يشمل مصطلح "عدم المساواة" في الخطاب العام المصري أبعادًا متعدّدة، مثل الوضع الاقتصادي والاجتماعي، والفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، وتوزيع الموارد والخدمات، وإمكانية الوصول إلى الفرص بشكل عام. على سبيل المثال، أشار المركز المصري للدراسات الاقتصادية إلى أنّ "انعدام المساواة الاجتماعية وعدم كفاية التنمية البشرية إلى جانب الافتقار إلى الإصلاحات السياسية كانت من بين العوامل الرئيسة التي أدّت إلى اندلاع الثورة". فمنذ عام 2011، نفّذت حكومات ما بعد الثورة برامج مختلفة تهدف إلى معالجة أوجه انعدام المساواة، على غرار خطّة تنمية البنية التحتية في 1000 قرية من الأشد فقرًا التي نُفّذت في عام 2016.
واعتُبر أيضًا الركود الاقتصادي من أحد العوامل. بالنظر إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر كمقياس معياري للأداء الاقتصادي في السنوات التي سبقت الثورة وبعدها، شهد معدّل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي ركودًا وبلغ 5% كحدّ أقصى اعتبارًا من عام 2012، بعدما سجّل معدّلًا ثابتًا بلغ 7% بين عاميْ 2001 و2011. وتشير هذه الأرقام إلى توقّعات اقتصادية أفضل قبل الثورة وليس بعدها.
مرّة أخرى، يبدو أنّ أثر الفقر قد انخفض بدلًا من أن يزداد في الفترة التي سبقت الثورة. ويحدّد البنك الدولي دخلًا يوميًا قدره 5.50 دولارات في اليوم كخط أساس للفقر في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، بناءً على سلّة سلع مسعّرة دوليًا. وفي عام 2008، بلغت نسبة السكّان الذين يعيشون تحت خط الفقر هذا في مصر 75%. وفي عام 2010، قبل الثورة بفترة وجيزة، انخفضت هذه النسبة إلى 68%، وبحلول عام 2017، ارتفعت مرّة أخرى إلى أكثر من 70%.
وعلى نحو مماثل، ارتفعت معدّلات البطالة أيضًا منذ الثورة. وفي عام 2010، بلغ معدّل البطالة في مصر حوالى %8.75. وبحلول عام 2013، تجاوز نسبة 13% مع استمرار الصراع الأهلي وعدم الاستقرار السياسي، بما في ذلك الاحتجاجات الجماهيرية في حزيران/يونيو 2013 وعزل الرئيس محمد مرسي الذي أعقبها. وفي أواخر عام 2020، ارتفع مجدّدًا إلى أكثر من 10% في ظل وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) المستمر.
ويشكّل الفساد القضيّة الأخيرة التي غالبًا ما يُعزى إليها اندلاع الثورة. فمن المعروف أنّه يصعب تقييم الفساد في مصر على وجه التحديد بسبب نقص الشفافية الحكومية، وذلك قبل الثورة وبعدها. وتعود البيانات المتاحة إلى مؤشّر عالمي لتصوّرات الفساد نشرته منظّمة الشفافية الدولية غير الحكومية في خلال الفترة ما بين عاميْ 2015 و2018. واعتُمد هذا المؤشّر كمقياس معياري من 0 إلى 100، يشير فيه رقم 0 إلى أعلى مستوى للفساد المتصوّر ورقم 100 إلى أدنى مستوى. وفي خلال الفترة ما بين عاميْ 2015 و2018، حقّقت مصر نتيجة 35، أي أقلّ من المتوسط العالمي. وبالتالي، لا يخوّلنا مصدر البيانات هذا معرفة الأسباب الكامنة وراء الثورة. ومع ذلك، فهو يكشف بالتالي عن أداء دون المستوى في معالجة الفساد، على الأقلّ الفساد المتصوّر.
الذكريات الشخصية
في أواخر عام 2020، أجرى صاحب الدراسة الأوّل استطلاعًا لدراسة ذكريات المصريّين عن ثورة عام 2011. وتمثّل الدافع في دراسة نظرة المواطنين المصريّين اليوم إلى أسباب الثورة ونتائجها، وفي التفكير في كيفية انعكاس التجارب الشخصية على الخطاب العام الدولي المحيط بالثورة المصرية أو مناقضتها لهذا الأخير. واعتمدنا الطريقة الاستكشافية في عَملنا، بهدف الحصول على معلومات من مجموعة من الأفراد مختارة عمدًا بدلًا من عيّنة تمثّل مجموع السكّان. وجمع صاحب الدراسة الأوّل عن طريق أخذ العيّنات المتضاعفة 32 بالغًا يعيشون في القاهرة. وتُرجِمت الأسئلة إلى اللغة العربية وأُجري الاستطلاع شخصيًا وعبر الهاتف وعبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ويشكّل المستطلَعون مجموعة غير متجانسة من حيث الدين والنظرة إلى العالم والمواقف السياسية والجنس والعمر والخلفية التعليمية والوضع الوظيفي والدخل. وبالتفصيل، وصف 21 مستطلَعًا أنفسهم على أنّهم مسلمون و11 على أنّهم مسيحيّون. وبالنظر إلى حملة القمع التي يتعرّض لها الإخوان المسلمون منذ عام 2013، لا يأتي الاستطلاع على ذكر هذه الجماعة، حفاظًا على أخلاقيّات البحث (فقد يشعر المستطلَعون بعدم الأمان أو عدم الارتياح إزاء ذلك الموضوع) وكذلك لصون مصداقية الاستطلاع (سوء تقدير الولاء مثلًا). بدلًا من ذلك، سُئل المستطلَعون عمّا إذا كانوا يعتبرون أنفسهم علمانيّين (وعددهم 19) أم متديّنين (وعددهم 13).
ونظرًا إلى عدم استقرار الأنظمة الحزبية في الدول الثورية ودول ما بعد الثورة، فقد شمل الاستطلاع سؤالًا عن الأيديولوجية السياسية، التي يُفترض أنّها ثابتة، بدلًا من تحديد حزبٍ معيّن قد يتغيّر. ووفقًا لهذا المقياس، أجاب 16 مستطلَعًا بأنّهم ليبراليّون و12 مستطلَعًا بأنّهم محافظون. أمّا في ما يتعلق بالأبعاد الاجتماعية والديموغرافية، وصف 19 مستطلَعًا أنفسهم على أنّهم رجال و13 مستطلَعًا على أنّهم نساء. وفي زمن الثورة، كان 6 منهم دون 18 عامًا، وتراوحت أعمار 11 مستطلَعًا بين 18 و34 عامًا، وتراوحت أعمار 12 مستطلَعًا بين 35 و54 عامًا، وتجاوز 2 سن الـ 55. وأكمل 9 من المستطلَعين تعليمهم الثانوي، واستحصل 13 مستطلَعًا على شهادات جامعية، و10 على شهادات دراسات عليا. وكان 17 شخصًا يعملون في أثناء الثورة، و10 عاطلين عن العمل، و5 كانوا في المدرسة. واعتبر 3 منهم أنّ أسرهم فقيرة، و9 أنّها منخفضة الدخل، و11 أنّها متوسّطة الدخل، و9 أنّها مرتفعة الدخل.
بشكل عام، صرّح 21 مستطلَعًا بأنّهم شاركوا في ثورة عام 2011، بينما لم يشارك فيها 11 مستطلَعًا. وشملت المشاركة في الثورة الطيف السياسي بأكمله إذ شارك 6 محافظين من أصل 12 و13 ليبراليًّا من أصل 16، وشملت أيضًا المواقف حول دور الدين في الحياة العامة، فشارك 8 متديّنين من أصل 13 و14 علمانيًّا من أصل 19. ومن المثير للاهتمام أنّ 9 أشخاص من أصل 11 من غير المشاركين شعروا أنّ الثورة كانت مدعومة من جهات أجنبية، مقارنةً بـ 5 أشخاص من أصل 21 من المشاركين. ويكشف ذلك عن مبرّر لرفض الثورة ألا وهو اعتبارها مختلفة كونها أجنبية.
وأتى جميع المستطلَعين على ذكر "العدالة الاقتصادية" و"العدالة الاجتماعية" كسَببَين لانخراطهم في الثورة، وأشار 19 (أي الكلّ باستثناء مستطلَعيْن اثنيْن) أيضًا إلى "الفساد" و"الديمقراطية". وتذكّر هذه الدوافع الشخصية بالدوافع المذكورة في الخطاب العام. وفي ما يخصّ أشكال المشاركة، شارك جميع المستطلَعين، باستثناء مستطلَع واحد، في مظاهرة أو مسيرة. أمّا في ما يخصّ الأماكن، فشارك 16 منهم شخصيًّا و16 مستخدمين الوسائط الرقمية. ومن باب إيضاح السياق، بلغ في عام 2010 عدد مستخدمي الهاتف المحمول الفرديين 70.66 مليون مستخدم من إجمالي عدد السكّان البالغ 82.76 مليون نسمة، وقد جرى توثيق دور الوسائط الرقمية في الثورة المصرية لعام 2011 وفي الربيع العربي بشكل عام على نطاق واسع.
ويرى 8 مستطلَعين أنّ الثورة حقّقت أهدافها، ويظن 12 أنّها حقّقت بعض الأهداف، ويعتقد 12 أنّها لم تحقّق أي أهداف. وعلى المستوى الشخصي، أفاد نصف المستطلَعين (وعددهم 17) أنّ حياتهم بقيت على ما كانت عليه؛ أي بعبارات أخرى، لم تؤثّر الثورة في مستوى معيشتهم. وانقسم النصف الآخر بالتساوي حول مسألة ما إذا كانت حياتهم أفضل قبل الثورة (وعددهم 7)، أم ما إذا أمست أفضل بعدها (وعددهم 8). ومع ذلك، فإنّ ربع المستطلَعين فقط أفادوا عن تحسّن مستويات المعيشة، بينما رأى ثلاثة أرباعهم أنّ المشاكل التي أدّت إلى الثورة مستمرّة.
وأخيرًا، دُعي المستطلَعون إلى المشاركة في تجربة فكرية: إذا كان بإمكانهم العودة بالزمن، فهل يؤيّدون ثورة عام 2011؟ أجاب 10 بـ "نعم"، و8 بـ "ربما"، و14 بـ "لا" مدوية. وتجدر الإشارة أيضًا إلى ازدياد الخيبة مع ارتفاع الدخل. في حين أنّ جميع المستطلَعين الفقراء يقولون إنّهم سيظّلون يدعمونها، أفاد 2 من أصل 9 مستطلَعين من ذوي الدخل المنخفض، و5 من أصل 11 مستطلَعًا من ذوي الدخل المتوسط، و7 من أصل 9 مستطلَعين من ذوي الدخل المرتفع، إنّهم لن يدعموها، الآن بعد أن عرفوا ما كانت نتائجها.
الاستنتاج
بطبيعة الحال، إن الاستطلاع الاستقصائي لذكريات 32 من سكّان القاهرة عن ثورة عام 2011 ليس حاسمًا ولا قابلًا للتعميم. ومع ذلك، فإنّ التحليل الذي تضمّنه ينتج عنه مخرجان، وأثران محتملان للنظرية والسياسات. أوّلًا، تعكس الذكريات الشخصية التي قمنا بدراستها على نطاق واسع مصادر الآراء المخالِفة المحدّدة في الخطاب العام والمدعومة بالأدلّة الواضحة: انعدام المساواة والركود الاقتصادي والفقر والبطالة والفساد. ثانيًا، إنّ المظالم ذاتها التي أجّجت السخط في المقام الأول استمرّت حتى يومنا هذا.
للمفارقة، أظهرت العيّنة التي شملها الاستطلاع أنّ الأشخاص الميسورين اقتصاديًا هم الذين يشعرون بالخيبة الأكبر حيال الثورة بعد مرور عقد من الزمن. ومن الناحية النظرية، يدعو ذلك إلى توضيح العمليات الهيكلية، وبخاصةً قضايا انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية الفعلية والمتصوّرة، التي تؤدّي إلى ظهور سلوكيات ثورية. أمّا من الناحية العملية، فيؤكّد ذلك على أنّ التغيير السياسي المفاجئ في مصر لم يأتِ بتغيير اجتماعي كاسح، ما أدّى إلى إحباط تطلّعات المواطنين. ومن ثم، في ظلّ غياب أي محاولة جذرية لمعالجة الأسباب الجوهرية لمحرّكات التنمية الاجتماعية، فمِن المرجّح أن يستمر الصراع الأهلي وانعدام الاستقرار السياسي.
علاوةً على ذلك، قد تترسّخ ثورة عام 2011 في الذاكرة الجماعية المصرية على أنّها نقطة انطلاق دوّامة الآمال التي جرى تحطيمها والأحلام التي جرى تأجيلها، وليس على أنّها اللحظة الديمقراطية الحاسمة التي تصوّرها الثوار. ومن الآن فصاعدًا، من المرجح أن يكون الشعور الجماعي بالخيبة واللامبالاة هو المنظور المشترك لهذه اللحظة في التاريخ المصري، متجاوزًا الآراء المتضاربة حول ما مثّلته ثورة عام 2011 وحول الذين انخرطوا فيها.