- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الضرر والضرار في أزمة الخليج
هل يصحّ اتهام قطر بتمويل الإرهاب؟ نعم، بالتأكيد. ولكن مع التنبيه إلى أن المعيار الذي يجيز تثبيت التهمة هنا يتيح كذلك توجيهها إلى المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، وبالطبع إلى إيران، وتركيا، وروسيا، وكذلك إلى الولايات المتحدة. إذ بما أن تعريف الإرهاب ما يزال مسألة خلافية، فإن أية حكومة تقدم دعماً ما لجهة غير حكومية خارج بلادها عرضة لأن تتهم بتمويل الإرهاب وتمكينه. ولكن ذلك لا يعني أن جميع الاتهامات متكافئة. والاتهام الموجه إلى قطر ليس مبنياً على العدم. ثمة خلاف عميق بين قطر من جهة وكل من السعودية والإمارات من جهة أخرى بشأن الإرهاب، وذلك من ثلاثة أوجه: تعريفه، وكيفية معالجته والتعاطي معه، والتواصل مع إيران.
ليس ثمة إجماع بين دول مجلس التعاون حول المعطيات التي من شأنها تعريف الإرهاب وتحديده. فقطر أكثر ليونة في درء التهمة عن التشكيلات والتوجهات الإسلامية فيما السعودية والإمارات أكثر تشدداً في توجيهها إليها. بل إن قطر قد اعتمدت بالفعل التمييز بين الطروحات الإسلامية السياسية، أي الصيغ التوفيقية التي تقرن ما بين إشهار القبول بالنظم القائمة وبين الدعوة إلى ترتيب سياسي اجتماعي قائم على مفهومها للدين من جهة، وبين التوجهات الإسلامية القطعية الرافضة للنظام السياسي القائم برمّته، سواء بشكله المحلي أو بامتداداته العالمية، والساعية إلى استبداله بآخر صارم أو قسري أساسه الانصياع والطاعة باسم الدين، من جهة أخرى. والتمييز بين الفئتين له ما يبرّره من حيث اختلافهما في المنهج، غير أنه للجمع بينهما ما يسنده كذلك، لاتفاقهما من حيث الهدف وللتكامل الضمني بينهما رغم حدة التشاحن. بل يمكن اتهام الطروحات الإسلامية السياسية بأنها معبر نظري وعملي وحسب للتدرج إلى الطروحات القطعية. وقد كانت الأمارات دوماً على ريبة إزاء أي تمييز بين الفئتين، فيما كان موقف السعودية غير حاسم في البدء، قبل أن يتجه إلى الانسجام مع موقف الإمارات.
ولم يعد الاختلاف في وجهات النظر أزاء الطروحات السياسية الإسلامية مجرد أمر نظري مع اندلاع «الربيع العربي»، والحراكات المتوالية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، بل أصبح شأناً ذا تداعيات عملية. ذلك أن قطر ارتأت أن الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين في العديد من دول «الربيع» تشكل البديل الأفضل والذي من وسعه تحقيق الاستقرار ومنع التطرف من استقطاب الجمهور المنتفض، فعمدت بالتالي إلى تقديم الدعم لها واحتضانها. في المقابل فإن كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، للوقاية من خطر الشعبوية التي يتسم بها خطاب الإخوان المسلمين والمثيرة للقلاقل محلياً وعلى مستوى المنطقة، توجهت بالدعم المادي والعيني لمجموعات محافظة ولائية إزاء الحكم في نهجهها السلفي، أي أقرب إلى الخط الذي تلتزمه المؤسسة الدينية في السعودية. وجهد كلتا الدولتين انصب في اتجاه إعادة تشكيل النظام السلطوي والذي سعت الحراكات إلى إسقاطه، ضمن إطار أكثر عقلانية . بل ثمة من فاخر بأن أبو ظبي هي «عاصمة الثورة المضادة». فكان أن الجهود المتضاربة للشركاء الخليجيين الثلاثة، مع انضمام تركيا في نهجها وجهدها إلى الخط الذي التزمته قطر، ساهمت في تراجع الإشكالية المطروحة ضمن الربيع العربي إلى مواجهة بين السلطويين والإسلامويين، وإلى إخراج الأصوات الإصلاحية المدنية، والتي كانت قد أشعلت الحراك، من الساحة. أما التقييم السائد في العواصم الغربية للحركات الإسلامية فقد تأرجح بين مواقف القطبين القطري التركي من جهة، والإماراتي السعودي من جهة أخرى. وقد كانت حكومة الرئيس السابق أوباما أقرب للتصور القطري التركي، فيما حكومة الرئيس ترامب تجنح بوضوح نحو الموقف الإماراتي السعودي.
وبالإضافة إلى الخلاف في تعريف الإرهاب، فإن قطر قد تمايزت عن شركائها في مجلس التعاون في اعتمادها توجهاً «انفتاحياً» في التعامل مع المنظمات الإرهابية. فسواء كان الهدف الوصول إلى تسوية محلية في ساحات النزاع، أو إطلاق سراح محتجزين ومخطوفين، دخلت قطر في تسويات مالية مع منظمات إرهابية لا خلاف على تصنيفها. وإحسان الظن يدفع إلى القول بأن الهدف من هذه الإجراءات كانت التوصل إلى الحلول الفورية المطلوبة، بل وإدخال المنظمات الإرهابية في علاقة تبعية تسمح بقدر من الضبط لها، أو حتى التوصل إلى فك عقد الشبكات الإرهابية. أما القراءة الأقل تحسيناً للظن فبوسعها أن ترى في هذا السلوك وحسب تمويلاً مموهاً للإرهاب. ولا شك أن قطر قد نالت الثناء والتقدير الموضعيين بعد نجاح المفاوضات التي حققت بعض النتائج، مثل تخفيف حدة القتال في سوريا أو إنقاذ أشخاص اختطفتهم منظمات إرهابية. إلا أن الحصيلة الصافية لهذه الخطوات كان بالفعل المزيد من التمكين للإرهاب. والموقف الحالي للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة هو أن هذه النتيجة، أي تمكين الإرهاب، لم تكن عرضية، بل كانت هدفاً متعمداً وإن مستتراً لغرض زعزعة أمن المنطقة.
وقد اعتمدت قطر كذلك المنحى «الانفتاحي» في مقاربتها للعلاقة مع إيران وأدواتها في المنطقة، لبنان واليمن وربما كذلك البحرين. وتصف قطر مقاربتها هذه بالسيادية. والواقع أن الرياض والتي تلزم حلفاءها في العديد من الدول الإسلامية المستفيدة من الدعم السعودي بمواقف قد تكون أكثر تشدداً إزاء إيران من تلك التي تعتمدها هي نفسها، فإنها تبدي قبولاً ضمنياً بالتمايز الذي تلتزمه كل من الكويت وسلطنة عُمان، بل حتى الإمارات العربية المتحدة، في العلاقة مع طهران، لاعتبارات التجارة والجوار. غير أنه نتيجة لتآكل الثقة بين الرياض والدوحة، فإن المطلب السعودي إزاء قطر هو أن تلتزم هذه الأخيرة بصيغة الموقف من إيران المتّبعة في الدول التي تربطها بالسعودية علاقات زبائنية غير ندية، وليس بما يماثل الصيغ الخليجية. والمقولة التي تتكرر في الإعلام المموّل سعودياً هي أنه لا يجوز لـ «دويلة» من ثلاثمئة ألف نسمة أن تتحدى الإرادة الجماعية (للقوة العظمى على مستوى المنطقة والدول الموالية لها).
والمنطق الذي سار بقطر إلى هذا التمايز بالسياسات قد يكون صعب التوثيق، إلا أن استقراء خطوطه العريضة ممكن. فهذا التمايز يعود إلى الانقلاب القصر عام ١٩٩٦، إذ اجتمعت حول الأمير حمد، أمير قطر الجديد، شخصيات داعية إلى نسخة معدّلة من العروبة اللينة ذات النكهة الإسلامية، مع الإقرار الضمني بأن العقائديات لم تفلح، ومع التركيز على الثقافة والاقتصاد كوسائل للاستنهاض المحتم. وبدا أن الأمير حمد يجتهد بمشروع تحديثي لقطر يضعها في صدارة النهضة العربية الإسلامية العتيدة. إلا أن الليونة في التأطير قد استقطبت كذلك التوجهات المتعارضة. فقطر أضحت عامل تطبيع مع إسرائيل، فيما هي تحتضن أصواتاً معادية لها، وقطر سعت إلى شراكة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة فيما هي تمدّ اليد لإيران. وتضافرت التفسيرات التي تضع الإخوان المسلمين أو حتى عزمي بشارة عضو الكنيست الإسرائيلي سابقاً في صلب عملية تشكيل الرؤية القطرية الجديدة. ولا يمكن استبعاد أية من الفرضيتين، ولكن دون الجنوح إلى المبالغات الاختزالية. فقد استمر الأمير حمد بالإمساك بزمام التفاصيل في جهده لجعل قطر قوة مؤثرة اقتصادية ومعنوية على مستوى العالم. وبدا للوهلة الأولى وكأن الربيع العربي جاء تصديقاً للرؤية القطرية. ولكن سرعان ما تبين أن الأمر كان واهماً. فقد كان توقع قطر أن يشكل الإخوان المسلمين عامل التحول المطلوب، إلا أن هذا التوقع خاب وانهار، فلجأت الدوحة إلى المنحى الدفاعي للاحتفاظ بمواقعها ومكاسبها في مختلف الساحات، ولمواجهة جهود شركائها في مجلس التعاون والساعية إلى إلزامها بوضع ودور موازيين فعلياً لما لجارتها البحرين.
والواقع أنه يمكن بالفعل الحكم على سياسات قطر بالفشل. فدعمها للإسلاميين التوفيقيين قد بالغ من حجمهم وساهم في تشتيت حراكات الربيع العربي. وتعاطي قطر مع المنظمات الإرهابية لم يؤدّ إلى تفكيك الشبكات بل العكس قد يكون الصحيح. أما خط الدوحة المفتوح باتجاه طهران، فقد ساهم وحسب في تبديد جهود احتواء المشروع التوسعي الإيراني.
غير أن هذا التقييم وما يبرزه به من وقائع بينة لا يبرر على الإطلاق الهجوم الصاعق على المؤسسات والقيم المفترضة من جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومن معهما، تحت مسمّى مقاطعة قطر. فمؤتمر القمة العربي الإسلامي الأميركي المنعقد الشهر الماضي في الرياض حقق كسباً ظاهراً للموقف السعودي، وأنشأ أداة فاعلة جديدة لمطالبة قطر بالسير مع الجماعة. وسواءاً كان خبر التصريحات المنيبة والمنسوبة إلى أمير قطر صادقاً، أو كان نتيجة تزوير على الشبكة المعلوماتية، فإن السعودية وحلفائها لم تستنفد بالتأكيد الوسائل المتاحة للحصول على التصحيح المطلوب، قبل الشروع بفعل ملحمي الطابع في استنزافه لمجلس التعاون ومطالبته قيادة قطر بالخضوع والاستسلام، فيما يحقق الضرار الواضح بالمجتمع وحقوق الأفراد والمؤسسات المشتركة وسمعة المجلس والمنطقة. فمجلس التعاون لدول الخليج العربية كان قد برز كتجربة رائدة سبّاقة باتجاه تحقيق الرخاء والتقدم والاستقرار. وإذ برداء التعقل والحداثة يسقط لتحلّ محلّه من كل جانب لغة سجالات وتحديات من وحي الجاهلية (أو على خطى جمال عبد الناصر ومعمّر القذافي وصدّام حسين).
والمطالبة بالحد الأقصى، كما هو لسان حال الصف المعادي لقطر اليوم، يفترق عن المقاربة المتسمة بالحكمة والتدرج والهدوء والتي كانت دوماً أسلوب القيادة في الممكلة العربية السعودية. وليس من شأن الإصرار على الحد الأقصى أن يحقق النتيجة المرجوة، بل بوسعه أن يستجلب النتائج العكسية. والسعادة والشماتة لا تخفى في صفوف الخصوم والأعداء. فاللهجة الإطلاقية العادية لقطر قد شكلت دعوة مباشرة لطهران لتعميق التواصل مع الدوحة. وتوالي القوائم التي تصنف الأشخاص والمؤسسات إرهابية، وتسعى إلى إلزام قطر تنفيذ المقتضى، تمزج ما بين الإرهابي الحقيقي والمعارض السياسي وتتوقع من قطر مستوى من الدقة في تصفية الإرهاب غير متوفر في الدول المطالبة به. هذا فيما الإعلام المؤيد لتنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من المنظمات الإرهابية لا يخفي غبطته بالمجريات، ويعتبر الصراع في صف خصومه وسيلة إضافية له للاستقطاب من خلال التركيز على الطبيعة الاعتباطية والهشة لمنظومة الدول الخليجية.
مثالية قطر في المرحلة السابقة، لمن يرى إحسان الظن، لم تحقق المبتغى، بل وفّرت لإيران متنفساً، وضخّمت من دور الإخوان المسلمين، بل أحياناً منحت المتشددين والإرهابيين حبل نجاة. فالمطلوب بالتأكيد السعي الحثيث إلى قلب هذه التوجهات، دون التفريط بالنتائج الإيجابية للسياسة القطرية فيما يتعدى هذه الأوجه. غير أن هذه المراجعة وإعادة الصياغة لا يجوز أن تستعمل كمبرر لتعميق السلطوية التي يعاد تأسيسها في دول الربيع. قد تكون سردية التحولات والتي اعتمدتها قطر على مدى عقدين من الزمن ساذجة بالفعل. إلا أن نقضها لا يعني تأصيل العودة إلى السلطوية والطغيان بما يحاكي حال المجتمعات العربي قبل ذلك بثلاثة عقود. وفيما الحكومة الجديدة في الولايات المتحدة منشغلة بالآني والطارئ، فإنه من المفيد الإقرار بحقيقة عوامل الضغط على مستوى المنطقة، والتي سعت قطر إلى التعاطي البناء معها.
لا المنطقة ولا العالم في وضع يسمح بتحمل انهيار إحدى التجارب الناجحة النادرة في العالم العربي، أي التعاضد والتكامل والاندماج كما تحقق في إطار مجلس التعاون لدول الخليج. ومصلحة واشنطن، الآنية كما على المدى البعيد، تقتضي أن يتحفظ المسؤولون فيها عن إصدار المواقف النارية، وأن يسعوا إلى احتواء التصعيدات العبثية وإلى المساهمة في تشكيل سياسة واحدة ومنسجمة على مستوى دول مجلس التعاون. والأذى الدائم قد وقع، إلا أن فرصة إنقاذ ما تبقى من فخ الضر والضرار لا تزال قائمة، وإن إلى حين.