- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الدروس المستفادة من الانتخابات البلدية التونسية
في 6 أيار/مايو ٢٠١٨، جرت أخيرًا الانتخابات البلدية في تونس - وهي الدولة الوحيدة التي غالبًا ما يشاد بها على أنها قصة النجاح الوحيدة لـ"الربيع العربي" - بعد تأجيل هذه الانتخابات مرات عدة. فمنذ بضعة أشهر فحسب، شكّك عدد كبير من المحللين في إمكانية إجراء مثل هذا الحدث. وعرض المؤيدون دور هذه الانتخابات في إطلاق عملية اللامركزية التي طال انتظارها. أمّا من لديهم حنين الى النظام القديم فزعموا أن البنى السياسية والاجتماعية للبلاد ليست جاهزة بعد لهذا النوع من التغيير الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفكك الدولة. أما على المستوى الشعبي، فإن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي صعب جدًا لدرجة أن الكثير من التونسيين متشائمون للغاية بشأن مستقبل بلادهم، ولا يرون أي مشروع اجتماعي واقتصادي ملموس قادر على معالجة الأزمة الراهنة.
وبالفعل، تُظهر النتائج الانتخابية التي أعلنتها "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" ارتفاع مستوى الامتناع عن التصويت لدى الشعب التونسي، ولا سيّما الشباب، حيث أن نحو ثلثي الناخبين لم يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع. وهذا ما قد توقعه المعلقون السياسيون الذين شددوا على الإحباط الشديد الذي يساور التونسيين جراء ما يواجهونه من صعوبات اقتصادية قاسية وركود سياسي واضطراب اجتماعي بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الإطاحة بالرئيس السابق بن علي. ولكن شكّل هذا العدد الكبير غير المسبوق من الأفراد غير الناخبين صدمةً قويةً للسياسيين المحليين المتهمين من قبل الشعب بالبتعاد عن الواقع وعن مطالب الشعب.
ولم تحصل أي من الأحزاب السياسية على الأكثرية، ما بات حدثًا تقليديًا في تونس منذ عام ٢٠١١. كما أظهرت النتائج هزيمة كبرى لحزب "نداء تونس" الليبرالي الذي كان له الكتلة البرلمانية الأكبر بعد الانتخابات التشريعية لعام ٢٠١٤. إلاّ أنه الآن صُنّف الأول في عدد قليل من المجالس البلدية فقط. وكانت مشاركة مناصري الحزب قليلةً جدًا، بحيث دعا رئيسه التنفيذي - ابن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي - إلى تعبئة مؤيديه قبل أقل من أربع ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع. أمّا حركة "النهضة" المنافسة، التي يحب قادتها الآن أن يطلقوا عليها اسم "حزب مسلم محافظ" بدلاً من حزب إسلامي، فقد أعلنت فوزها من خلال المتحدث الرسمي باسمها الذي أكّد التزامها بـ "سياسة الوفاق" مع شريكها "نداء تونس".
لقد حكمت سياسة الوفاق هذه السياسة التونسية منذ عام ٢٠١٤، وكانت نتيجتها الحوار الوطني الذي عُقد في خريف ٢٠١٣ واللقاء الشهير في باريس بين الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة "النهضة" من جهة، والسبسي رئيس نداء تونس، الذي تم انتخابه في ما بعد رئيسًا لتونس، من جهة أخرى. ولكن سرعان ما نُظر إلى هذا الإجماع المستقر بين أكبر حزبين على أنه عامل هام وراء حالة الركود، لأنه لم يضع أي مبادرات اجتماعية أو اقتصادية. علاوةً على ذلك، تحدّ الخطابات الرسمية لكل من الحكومة والأحزاب السياسية الرئيسية من العملية الانتقالية إلى الديمقراطية بشكل خطير لتضعها في الإطار الرسمي لتنظيم الانتخابات، والتي يتم تقديمها باعتبارها الصيغة الوحيدة المتاحة للممارسات الديمقراطية. وهذا ما سبب بالدرجة الأولى تعاظم المقاطعة في صفوف التونسيين.
ونتيجةً لهذا الاستياء الشعبي من كلا الحزبين الرئيسيين، كان فوز مرشحين مستقلين إحدى مفاجآت هذه الانتخابات. فقد حصدوا مجموع نقاط أعلى من أي حزب سياسي. ففي الواقع، كان الكثير منهم ينتمي سابقًا إلى أحزاب سياسية مختلفة، إنما استقالوا بعد خلافات أيديولوجية أو شخصية؛ ويتوقع عدد كبير من المعلقين المحليين أن هذه "الإلكترونات الحرة" لا تزال تحتفظ بعلاقات وثيقة مع أحزابها السابقة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى ظهور حزب جديد تحت اسم "التيار" برئاسة محمد عبو، وقد قدّم الحزب لوائح مرشّحيه في خِمس إجمالي عدد البلديات فقط - ولكنه احتل المرتبة الثانية في ثلثي الدوائر الانتخابية التي تنافس فيها على الأقل.
ويشكّل الانشقاق السائد بين مختلف الأجيال ميزة رئيسية أخرى للديمقراطية المناضِلة في تونس. فقد قام الجيل القديم من السياسيين، ولا سيّما أولئك القادمين من المناطق والأسر المتميزة، باحتكار الأوساط العامة في كل من الحكومة والمعارضة على مدى أكثر من خمسة عقود. لذا فإن الشباب التونسي، ليس في المناطق المهمشة فحسب، بل في جميع أنحاء البلاد، أي أكثر من نصف السكان، يشعر بأنه مستبعد من عملية صنع القرار ومحروم من الفرص المالية ووسائل الإعلام الرئيسية وحتى التعليم العالي. وبما أن البلديات ستشارك في الاستثمارات المحلية بموجب قانون جديد، يراقب أصحاب الأعمال الشباب التونسيين عن كثب التطورات التي تلي الانتخابات. وفي نيسان/أبريل الماضي، دفعوا البرلمان إلى تبني "قانون المشاريع الناشئة" الذي يفترض أن عملية اللامركزية هي شرط لا غنى عنه لنجاح إطلاق الشركات الجديدة – خلافًا للنظام المصرفي والإداري الفاسد الذي يتسم بمركزية شديدة.
وتجدر الإشارة إلى أن الإحباط نفسه تجاه السياسيين القدماء موجود أيضًا لدى الجيل القديم الذي تلقى علمه خلال فترة حكم الرئيس بورقيبة، بدءًا من الاستقلال في عام ١٩٥٦، حيث كان هذا الجيل معاصرًا لأول "افتتاحية ديمقراطية" في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم. ففي ذلك الوقت، انقسمت البرجوازية التونسية عن حزب "الدستور" الحاكم لتأسس "حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، وفرضت تنظيم أول انتخابات متعددة الأحزاب. كما وأن التصريح العلني الذي أدلى به الرئيس الحالي السبسي قبل عدة سنوات، حيث اعترف بمشاركته الشخصية في تزوير نتائج انتخابات عام ١٩٨٠، لم يساعد على بناء الثقة. فهذا الجيل من "كبار المحنكين" يؤكد حقيقة أن الأشخاص نفسهم المشاركين في هذا الربيع التونسي الأول، أي في أوائل الثمانينيات، ما زالوا يشرفون على التحول الديمقراطي في عام ٢٠١٨. وهؤلاء هم الأشخاص نفسهم الذين كانوا مسؤولين عن الأزمة السياسية والاقتصادية خلال منتصف الثمانينيات التي أدت إلى ديكتاتورية بن علي ابتداءً من عام ١٩٨٧.
وتظهر الاختلافات بين الأجيال أيضًا في البعد الإعلامي للحياة السياسية الناشئة في تونس. فقد قدمت وسائل الإعلام التقليدية تغطيةً محدودة لانتخابات ٦ أيار/مايو، ربما بسبب القواعد المعقدة التي فرضتها "الهيئة العليا المستقلة" على الاتصالات السمعية البصرية. وتركز هذه الهيئة، التي تشرف على القنوات التلفزيونية والإذاعية، على المحافظة على حياد وسائل الإعلام خلال الحملة الانتخابية. وقد أجازت عقوبات صارمة على التحيز، لذلك فضّل معظم وسائل الإعلام تجنب أي مشكلة وعدم تقديم تغطية شاملة. ولكن تم ملء هذا الفراغ الإعلامي من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، التي لفتت الكثير من الأنظار قبل بضعة أشهر من خلال تشجيع المرشح السياسي الجديد ياسين العياري من أجل انتخابه نائبًا يمثل الجالية التونسية التي تعيش في ألمانيا. ومع ذلك، شملت التغطية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي قدرًا هائلاً من المعلومات المضللة والأخبار المزيفة، ما أرغم مثلاً "مكتب المعهد الديمقراطي الوطني" في تونس على نفي وجود عمليات الاقتراع الشكلية المزعومة بشكل علني.
واستشرافًا للمستقبل، يُنظر إلى الانتخابات البلدية التي جرت في ٦ أيار/مايو على أنها تمهيد للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة لعام ٢٠١٩. وستكون نوعية إدارة البلديات معيارًا حاسمًا سيؤثر على قرارات الناخبين. وسيخضع حزب "النهضة" لحملة من التمحيص الدقيق من قبل معارضيه. وقد دعا أحدهم، وهو ضابط أمن رفيع المستوى متقاعد حديثًا، إلى إلغاء نتائج الانتخابات البلدية، زاعمًا أنها مزيفة! ففي الواقع، يخشى الكثير من العلمانيين أن يقوم النواب المحليون المنتسبون لحزب "النهضة" بتعزيز البروباغندا الإسلامية في المجال العام لمناطقهم. فقد كان ذلك السبب في اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر المجاورة خلال تسعينيات القرن المنصرم. ومن جهة أخرى، يمكن أن تكون هزيمة "نداء تونس" في الانتخابات البلدية فرصةً لتحرير الحزب من التأثير القوي لمجموعات الضغط التجارية القوية والفساد المستفحل بالمصالح الخاصة. كما يمكن لمنظمات المجتمع المدني، المستقلة عنها، أن تساعد في عكس مسار هذا الاتجاه السلبي.
وعمومًا، يكمن أحد الدروس الرئيسية لهذه الانتخابات في أن الخطاب الكلاسيكي لمناهضة الإسلاميين لم يعد فعالًا في السياسة المحلية التونسية. فقد ضاعف حزب "النهضة" لفتاته الرمزية لدحض تلك التصريحات. فعلى سبيل المثال، تطمح إحدى مرشحاته لتكون أول امرأة تشغل منصب محافظ للعاصمة تونس. كما من اللافت أن قائمة الحزب في مدينة المنستير ذات الرمزية الدينية تضم شخصًا يهوديًا تونسيًا. وفي المقابل، فشلت الأحزاب العلمانية في بناء رؤية سياسية واجتماعية جديدة، وما زال المنتسبون لتلك الأحزاب سجناء أيديولوجيتهم القديمة. ويُعد دعم حزب "نداء تونس" العلني لنظام الأسد في سوريا، والاجتماعات الرسمية مع قادة الحزب الشيوعي الصيني مثالين فقط من الأمثلة الكثيرة التي تبيّن الارتباك الذي يسود قيادة الحزب.
ونتيجةً لذلك، وفي الفترة التي تسبق الانتخابات الوطنية التي ستجرى في العام القادم، سيقوم كل من حزب "النهضة" و"نداء تونس" بالتواصل مع المرشحين المستقلين المنتخَبين في المجالس البلدية. أو يمكن أن يشكّل هؤلاء المستقلين، بالإضافة إلى حزب "التيار" الجديد، بديلاً لحزب "نداء تونس" من أجل بناء توازن سياسي جديد ثنائي القطبية للانتخابات المقبلة على المستوى الوطني. وفي كلتي الحالتين، سيكون أمام الأحزاب والمرشحين غير الإسلاميين عام كامل إما يتضافرون خلالها، في إطار أجندة تنعش البلاد، ويستقطبون الرأي العام مجددًا، وإما يواصلون انشقاقاتهم وتشرذمهم ويشاهدون عودة الإسلاميين "المصلَّحين" التابعين لحزب "النهضة" إلى الواجهة.