- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الدروس التي لا بدّ أن تستخلصها الأنظمة الملكية العربية من عدم الاستقرار في البلدان المجاورة
في أعقاب الانتفاضات المتعددة التي شهدها العالم العربي منذ العمل البطولي الذي قام به بائع الفواكه التونسي محمد البوعزيزي عندما أضرم النار في نفسه، لم تتجلَّ أمثلة تُذكر عن الديمقراطية. ومنذ عام 2011، حنّ الكثيرون من العرب إلى "الأيام الخوالي" في عهد الدكتاتوريات التي سبقت الربيع العربي، إلى حقبة كان فيها رزق الناس والسلامة والاستقرار مضمونًا.
ومع ذلك، لا بدّ أن يختار العالم العربي الديمقراطية التامة في حال أراد أن تفضي حلقة الثورات هذه إلى الاستقرار نوعًا ما. ونظرًا إلى التركيبة الديمغرافية التي يطغى عليها عنصر الشباب في العالم العربي، يتعيّن على قادته توقّع موجة انتفاضات جديدة يقودها الشباب والمحرومون والنساء والأقليات العرقية. ومن دون التفكير بجدية في طرق شاملة وديمقراطية تقنع هذه الفئات من السكان بمصلحتهم الحقيقية في مستقبل بلدهم، قد تلحق الانتفاضات الجديدة ضررًا يفوق ذلك الذي خلّفه الربيع العربي.
أنظمة جمهورية غير مستقرة
ولسوء الحظ، تشهد حاليًا دول عربية متعددة وضعًا مزريًا. ومن الضروري جدًا إدراك حدّة العواقب الناجمة عن الحفاظ على الوضع الراهن. فعلى سبيل المثال، كانت مصر فيما مضى أهم وأقوى بلد في المنطقة وشاركت كجهة فاعلة رئيسية في الربيع العربي. أما اليوم فباتت شوارع القاهرة غير آمنة وفقدت الإسكندرية التي تعايشت فيها الأديان بسلام على مرّ التاريخ التسامح الذي ميّزها. وأوصد سكّان الأرياف أبوابهم عند حلول المساء توخيًا الأمان فيما نشرت المجموعات الإسلامية العنيفة والمسلّحة الرعب في منطقة سيناء. وبالرغم من التعافي البطيء لقطاع السياحة في مصر بعد انهياره في أعقاب الربيع العربي، لا يزال المصريون يواجهون صعوبات في العثور على عمل.
أما في اليمن وسوريا فالوضع أشدّ سوءًا بكثير. ففي اليمن يتنقّل السكان غالبًا ضمن مواكب ترافقها الميليشيات المسلّحة نتيجة عودة النزاعات العشائرية التي تعزّزها الميليشيات الحوثية علمًا أن هذه الأخيرة تزدهر في ظل انعدام الأمن. وخلّفت الحرب الأهلية وراءها البؤس والموت ليس إلا، وحصدت الهجمات التي قادتها السعودية واستهدفت الحوثيين عددًا هائلًا من القتلى في صفوف المدنيين ومن بينهم عدد كبير من الأطفال. وإلى جانب الحرب الحالية، لا يزال جنوب اليمن، الشيوعي سابقًا، يمقت الحكومة المركزية ولا يمانع الانفصال عنها حتى لو لم يكن الأمر ممكنًا في الوقت الراهن. وفي غضون ذلك، يجد تنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية" أرضًا خصبة للتجنيد في صفوف اليمنيين الفقراء من سكان الأرياف بالرغم من خطر غارات الطائرات من دون طيار الأمريكية. وفي حين دمّر الرئيس السوري بشار الأسد بلده، تشهد المعارضة تفككًا كبيرًا وتزداد أوجه الشبه بين مناطق سورية متعددة لا تخضع لسيطرة النظام وليبيا.
ويلف غموض تام الوضع في ليبيا إذ لا يملك الناس من الخارج أدنى فكرة عما يحصل داخل الحدود الليبية. ولكن يتّضح أن الميليشيات تبسط سيطرتها على البلاد وأن حكومة طرابلس المنتخبة والمعترف بها دوليًا تفتقر للإرادة والقدرة على نزع سلاحها. ويبيع قادة الميليشيات النفط للشركات الأجنبية من دون إذن من الحكومة. وفي شرق البلاد، يبدو أن المشير خليفة حفتر على استعداد للقيام بأي شيء من أجل طرد الإسلاميين من البلاد، بما في ذلك اعتماد سياسة الأرض المحروقة. وفي الجنوب، تعمل العشائر على تهيئة سيف الإسلام القذافي، نجل الدكتاتور السابق، ليصبح المرشد المقبل وذلك في محاولة، يؤمل أن تكون ديمقراطية، لتوحيد البلاد.
وفي الجزائر، دُقّ المسمار الأخير في نعش بوتفليقة السياسي وبات الترقّب سائدًا في البلاد في حين تناضل النخبة السياسية لإيجاد بديل له. وتعكس الاحتجاجات المتأخرة التي تعمّ الجزائر والتي يطغى عليها طابع "الربيع" حقيقة أن البلاد لم تقتدِ في البدء بجارتها تونس في عام 2010. ويكره الجزائريون التراجع عن وعد السلام من جرّاء تجربتهم في خلال العشرية "السوداء"، أي الحرب الأهلية الجزائرية التي امتدّت بين عامي 1990 و1998. ولكن سياسة الحكومة القائمة على إخضاع شعبها عن طريق الرشوة من خلال الدعم العام للمواد الغذائية والأدوية والنقل والإسكان لم تعد قابلة للاستدامة بسبب الركود الاقتصادي في الجزائر. وعلى نحو مماثل، يبدو أن الطريقة التي اعتمدها السودان لتجنّب الموجة الأولى من الربيع العربي عن طريق الدعم السخي للمواد الغذائية الأساسية والقمع السياسي قد شارفت على استنفاد فعاليتها، إن لم يكن اليوم فقريبًا من دون شك.
وفي السودان والجزائر على حدّ سواء، يسعى الشباب إلى وضع حد لأنظمة حكم الشيوخ و المسنين وغياب التمثيل السياسي والآفاق الاقتصادية المغمّة. ويبدو أن البلدان التي تجنّبت في الظاهر الربيع العربي الأساسي أصبحت مستعدة للدخول في مرحلة جديدة من المطالبة بالتمثيل السياسي وقد تتطوّر إلى أعمال عنف. وفي غضون ذلك، يدرك الجميع الوضع المزرى الذي تعيشه هذه البلدان العربية ولكن الأنظمة الملكية العربية ذات الاستقرار المزعوم ينتابها القلق أيضًا.
وَهم النظام الملكي العربي
خلافًا لعدم الاستقرار الشديد الذي تواجهه بلدان عربية متعددة، تفادت الأنظمة الملكية العربية لغاية الآن الانتفاضات المضطربة. ويمكن تصنيف هذه الأنظمة الملكية ضمن فئتيْن فرعيتين هما: الأنظمة الملكية التقليدية التي تستمد شرعيتها من الولاء القبلي وبطريركية (أبوية) الدولة (الأردن) أو الشرعية التاريخية والدينية (المغرب)؛ والأنظمة الملكية القائمة على النفط التي نشأت وتستمر بفضل وفرة البترودولار – أي دول الخليج.
وافتُرض خطأ أن هذه الحكومات ستسلم لأجل غير مسمّى من الانتفاضات لأنها تجنّبت اضطرابات الربيع العربي الأول. ولكن قد تعيث موجة ثانية من نوع جديد من "الربيع العربي" الفوضى في هذه الحكومات ما لم تقرّ هذه الأخيرة إصلاحات جوهرية.
ومع الاحتجاجات الكبرى التي يشهدها السودان والجزائر، قد تعمّ المغرب والأردن موجات اضطراب مماثلة من جراء فشلهما المستمر في الوفاء بوعودهما التي قطعاها في عام 2011. وتجنّب النظامان الملكيان نوعًا ما الربيع العربي الأول بفضل هيكلية حكومتيْهما التي تشدّد على نماذج الشرعية. وعندما خرج حراك 20 شباط/ فبراير (mouvement du 20 février) المغربي إلى الشوارع للتنديد بالفساد والمحسوبية وسوء استخدام السلطة دعا المحتجون إلى إقامة نظام برلماني ملكي بدلًا من نظام ديمقراطي بالكامل. ويبدو أن الأردنيين أيضًا يحبون ملكهم عن حق ويحترمونه.
وبالإضافة إلى ذلك، ركّزت استجابات المغرب والأردن للاضطرابات السياسية على نماذج مماثلة. فقد حافظ هذان النظامان الملكيان على هيكليتهما الملكية الأساسية من خلال القيام بتغييرات وإصلاحات هامة وإنما معتدلة. ولكن هذا المسار نحو الإدماج السياسي الإضافي قد توقّف في نهاية المطاف عندما تبيّن أن الشعب قد استُرضي.
وتراجع النظام الملكي في المغرب عن وعده بإصلاح السلطة من خلال إحكام قبضته على الأحزاب السياسية عن طريق الاستقطاب وقمع الانتفاضات الإقليمية في مناطق الحسيمة وزاكورة وجرادة الفقيرة ومنع الحريات الصحافية التي تشتد الحاجة إليها. وفي الأردن، لا يكفي الاستقرار القائم على أسس الولاء القبلي والتقاليد البطريركية (الأبوية) المتضعضعة لضمان الاستمرارية السياسية. وبالفعل، أظهرت الاحتجاجات السياسية الأخيرة وحوادث الشوارع المتعلقة بضرائب الدولة أن السكان بشكل عام قادرون على التشكيك بالنظام الملكي إذا قلق الشعب بما يكفي حيال إمكانية كسب رزقه.
إن الاستقرار الظاهر في الأنظمة الملكية الخليجية القائمة على النفط زائف وهذا الأمر مثير للقلق. فقد لجأت الحكومات في ذروة الانتفاضات العربية إلى توزيع الأموال على السكان من أجل شراء ولائهم وكسب الوقت. وتهدف هذه الطريقة إلى تهدئة الاضطرابات العامة وتُعتبر إجراء قصير الأمد وليس حل طويل الأمد. وعندما تدرك البلدان من مثال المملكة العربية السعودية ضرورة تنويع اقتصادها وتخفيض الدعم، لن تتمكن الأنظمة الملكية الخليجية من ضخ الأموال بالمعدلات عينها للقضاء على الرغبة في الديمقراطية والحرية.
وتُمنع في دول خليجية كثيرة المعارضة ويُحظّر فيها النقد والتعبير عن الآراء. ويمكن معاملة النساء كالأثاث: إنهن جزء من المنزل. وتعتمد حرية المرأة على شهامة أقاربها من الذكور إذ حرمتها الدولة من أي استقلالية عنهم. ومع تزايد أعداد النساء الخليجيات اللواتي يلتحقن بمعاهد الدراسات العليا في الغرب، تزداد احتمالات عدم تقبلهن العودة إلى سجونهن الذهبية.
وفي معظم هذه البلدان البطريركية (الأبوية) والعشائرية، يتخلّف السكان، بالرغم من الثراء والحداثة التقنية المذهلة، لسنوات ضوئية في المساءلة بأنواعها كافة. ثمة استقرار ولكن من دون حرية. ثمة حكومة قوية ولكن من دون ضوابط وموازين. ثمة نظام عام ولكن الاحتجاج غير مسموح. وباختصار، تغيب حرية الرأي وحرية المعتقد وحرية النقد. ويتمتّع الناس بالثروة ولكن عليهم عيش حياة منظمة صارمة من دون أن يتوفّر لهم بديل أو أمل.
خلاصة القول
أظهر درس من الدروس الرئيسية المستخلصة من الربيع العربي الأول السهولة التي تنتشر فيها الاضطرابات من بلد إلى آخر ومدى شمولية المطالبة بزيادة تكافؤ الفرص الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في صفوف المتظاهرين في مختلف أنحاء العالم العربي. وتكثر حاليًا الشرائح السكانية العربية المحرومة من حقوقها من خلال آليات متنوعة. وبما أن الأنظمة الملكية مستقرة حاليًا، حان الوقت لإقرار إصلاحات جوهرية، الآن وليس بعد فترة الاضطرابات، إذ قد يؤدي ذلك إلى نوع الفوضى وعدم الاستقرار الطويل الأمد الذي يظهر جليًا في أماكن أخرى من العالم العربي.
وبين الشباب والنساء، يحرم العالم العربي غالبية سكانه من حقوقهم. وفي حال لم يمكّن العالم العربي المرأة فستثور وتحتج على النظام الاجتماعي القائم بطريقة غير مسبوقة لا يمكن لأحد التنبؤ بها. وفي حالم لم يلبِّ العالم العربي احتياجات الشباب الملحة فسيزداد الوضع خطورة من دون شك.
ولا بدّ أن يلجأ العالم العربي إلى المساءلة داخل حكوماته درءًا للاستمرار في تبديد الثروة الوطنية على أوجه عدم المساواة التي توقع عددًا كبيرًا من سكانه في شرك حلقات الفقر المدقع وتعزّز الفساد. وستستمر أوجه عدم المساواة الصارخة هذه في دفع شبابه اليائس إلى النضال.
وفي حال لم يرسّخ العالم العربي بوضوح الحرية الشخصية ويسمح لأقلياته، من ثروة مجتمعاته المحلية العرقية والدينية إلى مجموعات المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية فيه، بالمشاركة العلنية في الحياة العامة، فسيستمر النظر إلى هذه الهويات على أنها معارضة للدولة وقد يؤدي ذلك إلى وقوع اضطرابات. ومن دون الاعتراف بالمجموعات العرقية والدينية المتنوعة التي تعيش في المنطقة وبمطالبها الثقافية والسياسية، لن يحلّ السلام الاجتماعي.
إن هذه الجهود كبيرة جدًا ولكن من الضروري بذلها للتصدي بشكل نهائي للاضطرابات السياسية التي تلوح في الأفق مجددًا، وتشكّل بالإضافة إلى ذلك أفضل فرصة لفك حلقة الاضطرابات والقمع التي تظهر عواقبها في مختلف أنحاء العالم العربي اليوم.