الدور المحوري لقضايا المرأة ما بعد الربيع العربي في شمال أفريقيا
تتنوّع مطالب المرأة في شمال أفريقيا أكثر فأكثر وتتعدد الأصوات المناشِدة بها، إذ تبرز جهات معنية وفاعلة جديدة في ميدان السلطة العام. وتُغذّي هذا التنوّع قيمٌ جديدة، ككرامة المواطنين جميعهم كلهم في الميدان العام، ونُهُجٌ جديدة، كاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات التواصل العابرة للأمم. وتتمحور هذه الديناميات حول قضايا المرأة وحقوقها؛ تمامًا كالسابق. ومع أن الربيع العربي لم يستهدف قضايا المرأة بالتحديد، فبفضل العقود التي أمضتها النساء في كفاحهنّ لنيل حقوقهنّ، تصدّرت بعض المسائل كالتعليم والرعاية الصحية جدول أعمال تظاهرات الحشود. وعلاوةً على ذلك، كانت ثقافة الاحتجاج التي غرستها الناشطات العلمانيات في الميدان العام هي التي فتحت الأبواب أمام التظاهرات الواسعة النطاق.
ونظرًا للسرعة التي تجري فيها الأحداث والتغيرات، نحتاج اليوم إلى رؤية تاريخية وآنية على حد سواء لفهم ما يحدث. وتولّد قضايا المرأة ما سأسميه في ما يلي "المحور"، وهو المجال الوسَطي الإيديولوجي بين نماذج العلمانية التي تزداد عدائيتها (الفصل بين الدين والسياسة) والإسلاموية (استخدام الدين في الدولة) في شمال أفريقيا ما بعد الثورة. إنه مجالٌ تجري فيه إعادة تشكيل النطاق الاجتماعي: وإنّ "المحور" نفسُه ثابت، لكنّ الأوجه التاريخية والآنية فيه متحرّكة. وترتكز إعادة التشكيل هذه حول الثنائييْن المتجانسيْن: محافظ/متحرر وإسلاموي/علماني.
ووُلد الانقسام بين محافظ ومتحرر في شمال أفريقيا خلال حقبة الاستعمار. وفي حين أن الطرفين دعما القومية، إلا أنهما اختلفا كثيرًا في ردّتيْ فعلهما إزاء الغرب والحداثة. فعارض المحافظون أي تأثير من الغرب، لا سيّما في العائلة والقضايا الاجتماعية، ونظر المتحررون إلى الغرب على أنه رمز التقدم. ومنذ السبعينات، ومع تفشي الإسلاموية السياسية في الخلفية، تطور الانقسام بين محافظ ومتحرر إلى انقسام بين علماني وإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التطور الجديد لم يحل مكان الانقسام الأولي بين محافظ ومتحرر بل سيّسه وبالتالي قسّمه إلى قطبيْن وزاد من تعقيده. وفي السياسة، يميل المتحررون إلى دعم العلمانيين ويميل المحافظون إلى دعم الإسلاميين، مع أنّ هؤلاء ليسوا بالضرورة ضد الحداثة وقد يدعم بعضهم العلمانيين.
ويُثار اليوم في "المحور" عددٌ من القضايا المتعلقة بالمرأة على غرار: الخطاب الإسلاموي الذي يهدف إلى تقويض إنجازات المرأة في ميدان الحقوق، وتصاعد العنف الجنساني تماشيًا مع تصاعد الإرهاب في المنطقة، والعنف العائلي، والاغتصاب، والتحرش الجنسي، إلخ. وفي معالجة هذه القضايا، تحاول بعض القوى النسائية العلمانية أخذ المبادرة. فتندرج حقوق المرأة أكثر فأكثر ضمن "أطر عمل للمساءلة المتبادَلة" بين جهات مانحة وجهات متلقية للمساعدة في المؤسسات الحكومية بهدف تنظيم الحوار السياسي والمساعدات والتجارة والأوجه الجنسانية والعلاقات الاقتصادية الأوسع نطاقًا.
ويتمتع "المحور" بالخصائص الآتية: ما من قيادة واضحة له؛ وهو يتجاوز حدود الانقسام العلماني-الإسلاموي؛ ويستخدم وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ وله منافذ، أي أن له حدود مفتوحة غالبًا ما تتغير وغير مرسومة بوضوح. لذلك، قد تتواجد في هذا المجال وتتحادث من دون أن تتلاقى وجهات نظر تبدو متضاربة كالعلمانية والإسلاموية في آن واحد. وبالتالي، لا بد من أن يكون "المحور" معقّدًا ومتعدد الأوجه لأنه يعالج جوانب مهمة ومختلفة من واقعٍ معقّد وسريع التغيّر. ومن الناحية العملية، يتعدّى "المحور" حركات الإصلاح في العقدين الماضيين، فلا يقع بسهولة ضمن أطر العمل الأنجلو-أمريكية أو الأوروبية الغربية لما يشكّل "محورًا سياسيًّا" بسبب توسّع قاعدة الإصلاح الاجتماعي والعلاقات غير المباشرة مع السياسة.
ونظريًّا، تختلف طريقة تطبيق العلمانية والإسلاموية من بلدٍ إلى آخر في شمال أفريقيا (والعالم العربي-المسلم على مستوى أوسع)، لأنه على الرغم من أن كل البلدان العربية-المسلمة تعتبر الإسلام كدين دولة وكمرجع قانوني (إذًا كجزء من السياسة والدين في آن) لا يؤدي الإسلام الدور السياسي نفسه في كل بلد. فنشأت الاختلافات في خلال مراحل بناء الدول عندما اختار كل بلد مذهبًا محدّدًا كإطارٍ مرجعي يناسب بنيته السياسية. فعلى سبيل المثال، اختار المغرب المذهب المالكي لأن هذه المدرسة تعترف بسلطة الحاكم الدينية، فكانت ملائمة لبلدٍ متعدد الإثنيات واللغات كالمغرب. وبمعنى آخر، تختلف الطريقة التي تعمل بها السلطات السياسية والدينية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، كما تختلف وسائل تطبيق الشريعة ودرجاته في أنظمتها القانونية. وفي المغرب، لا يرى العلمانيون إجمالًا أن موقفهم يعارض الإسلام، لكنهم يرونه يعارض الإسلاميين في سياقٍ شامل حيث يحكم النظام الملكي (الذي من المفترض أن يحمي كلتا النزعتين). وبالفعل، بين العلمانيين والإسلاميين في المغرب قواسم مشتركة سطحية واختلافات كامنة عميقة. كذلك، فيما نفهم جميعنا ما تعني العلمانية نظريًّا، تختلف صيغتها بحسب طبيعة كل بلد التاريخية والاجتماعية السياسية. ففي نظام الحكم المغربي، حيث تندرج السلطة العليا الدينية والسلطة العليا السياسية في آن ضمن صلاحيات الملك، لا تعترض أغلبية القوى العلمانية والإسلاموية على هذا الواقع. وبالطبع، لكل طرفٍ نسختان خاصتان به إحداهما معتدلة والأخرى متطرفة، لكن بشكلٍ عام يقر كلا الطرفين العلماني والإسلاموي بسلطة الملك العليا والمطلقة للفصل في قضايا الخلافات بين الأحزاب، كما يقران بصفته كمصدر للاستقرار.
وفي إطار العمل هذا، تشكّل قضايا المرأة وقودًا حقيقيًّا في ساحة المعركة بين الأفكار. ويستخدم السياسيون (من رجالٍ ونساء) هذا الوقود لأهداف سياسية محددة، بينما تستخدمه الحركات النسائية لتحقيق المزيد من الأرباح. وقد تؤدي الدوافع المتبدلة إما إلى جمع النساء العلمانيات والإسلاميات معًا على أساس أنهن يحاربن لنيل الحقوق نفسها، وإما إلى تفريقهنّ حين يتم تسييس الحقوق إلى حدٍ كبير.
ويبدو أنه على المدى الطويل سيسمح "المحور" لحركات حقوق المرأة بتوسيع قاعدة الدعم، عبر إشراك ناشطات شابات جديدات ونساء من المناطق الريفية والمدنية الفقيرة. وتشكّل المبادرات لجعل برامج التنمية ترسّخ المساواة بين الجنسين ومشاركة المرأة نقطة انطلاق قيّمة. إلا أنه ثمة شعور متنامٍ بأن العائق الأساسي أمام هذه الأهداف هو بروز حركات متطرفة في المنطقة وفشل الإسلام السياسي في إدارة السياسة وتحقيق الشمولية في الحوكمة.
وفي الختام، أودّ أن أقول إنه مهما كانت القيود، في حالة شمال أفريقيا، إنّ استخدام نوع الجنس كعدسة تُحلَّل من خلالها عمليات تحديد الهوية المسيسة الصاعدة هو حقل تحقيق واعد يجمع آراء المفكرين المتنوعة في المنطقة والعالم ككلّ. ويسمح ذلك بدوره بوضع سياق للحبكات السائدة في المنطقة بعد الثورة – كالدور العام للإسلام، وأدوار المرأة، والإصلاحات الأخيرة المتعلقة بالوضع القانوني للمرأة، إلخ. وإنّ السياسة الجنسانية مهمة جدًّا في تأليف هذه الحبكات، وتجسّد بالتالي كيف تمّ تفعيل محاور الهوية الثلاثة – أي الدين والعرق والجنس – في لحظة الثورة وكيف تمت تغذيتها في أعقاب الثورة.