- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الغذاء والطاقة: كيف تشكل المخاوف المحلية لدول شمال إفريقيا مقارباتهم إزاء روسيا
لب غزو روسيا لأوكرانيا واعتراف موسكو بجمهوريتيْ دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين الشراكات الأجنبية رأسًا على عقب خلال الأشهر العديدة الماضية، بما في ذلك الشبكات العالمية التي تربط دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالقوى العالمية الأخرى.
ق وكان للأزمة تداعياتها على المنطقة أيضًا، حيث أثّرت على خطوط الإمدادات الرئيسية إلى الشرق الأوسط وأججت أزمات متنامية على صعيد الغذاء والطاقة. وعليه، حدّدت هذه الضغوط استجابة الدول العربية إزاء هذا النزاع المستمر لتتخذ معظمها مواقف رسمية "حيادية"، في مسعى للحفاظ على العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع روسيا والولايات المتحدة وحلفائها.
ومع ذلك، تختلف مواقف دول الشرق الأوسط إزاء الأزمة، وهو نمط تكشفت معالمه للمرة الأولى خلال تصويت الدول العربية في الدورة الاستثنائية الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في آذار/مارس الماضي. فقد صوّت عدد من الدول العربية، على غرار مصر والبحرين والأردن والكويت ولبنان وليبيا وسلطنة عُمان وقطر والسعودية وتونس والإمارات واليمن، لصالح إصدار قرار غير ملزم يدين الغزو الروسي ويطالب موسكو بسحب قواتها من أوكرانيا. في الموازاة، امتنعت ثلاث حكومات عربية، الجزائرية والسودانية والعراقية، عن التصويت في حين عارضت سوريا القرار وتجنب المغرب الإحراج من خلال تغيّب ممثلها عن جلسة التصويت. إلى ذلك، فإن التباين الملحوظ في مواقف دول شمال أفريقيا إزاء الأزمة مثير للاهتمام إذ يبيّن كيف لعبت الحرب دورًا في إعادة تشكيل علاقات السياسة الخارجية الأخرى لشمال أفريقيا.
في حين أن أوجه التشابه كبيرة بين الخطوات الروسية في سوريا وتلك في أوكرانيا، اختبرت ليبيا التدخل العسكري الروسي من خلال مجموعة فاغنر. ولذا، كانت طرابلس الحكومة العربية الأولى التي تخرق جدار صمت المواقف حيال الأزمة الأوكرانية. فمنذ شباط/فبراير، شدّدت العاصمة الليبية على التزامها بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها. وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية في حكومة طرابلس، دعت ليبيا روسيا إلى التهدئة وسحب التحشيد العسكري عن الحدود الأوكرانية ومن شبه جزيرة القرم المحتلة، واستخدام لغة الحوار والدبلوماسية بدلًا من لغة الحرب.
ويعكس هذا الموقف الليبي السريع والمترابط رفض حكومة طرابلس المعترف بها دوليًا لأي وجود روسي على أراضيها واتهامها موسكو بدعم الانقسام بين طرابلس وطبرق إلى جانب عرقلة الجهات الفاعلة الليبية الرئيسية والسيطرة على قاعدة الجفرة الجوية في ليبيا. غير أن الانقسامات الداخلية المتزامنة حالت دون اضطلاع ليبيا بالدور الذي تصوّرته الولايات المتحدة وأوروبا في السابق والمتمثل باعتماد الغاز الليبي كبديل جزئي عن إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. وفي الواقع، أُغلق أكبر حقل نفطي في البلاد وسط التجدد المحتمل للصراع الداخلي وفي وقت تسعى فيه الحكومة البديلة المدعومة من روسيا إلى انتزاع اعتراف دولي بها.
في المقابل، اختارت الرباط نهج الحياد التام من خلال عدم التصويت على القرار الأولي، رافضةً بالتالي اتخاذ أي موقف رسمي من دون تقديم أي تفاصيل أو إعطاء أي تبرير لهذه الخطوة. ويبدو أن خيار الرباط باعتماد خط وسطي إزاء الصراع الروسي-الأوكراني نابع عن سببين رئيسيين؛ أولًا، يسعى المغرب إلى تمتين بعض ركائز سياسته الخارجية الاستراتيجية، لا سيما مع القوى الرئيسية الدائمة العضوية في مجلس الأمن. أما السبب الآخر الذي لا يقل أهمية، فيتمثل في اعتقاد الأكاديميين المغربيين أن الرباط لن تصطف في نهاية المطاف مع أي طرف، فالمغرب يقيّم دور روسيا التي لم تعترض على مسودة قرار مجلس الأمن رقم 2602 الذي جدّد تفويض بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء حول الصحراء الغربية. هذا ولم يشارك المغرب في مؤتمر رامشتين بقيادة الولايات المتحدة لتخطيط الدعم إلى أوكرانيا.
وبما يشبه نهج الرباط إلى حدّ ما، تجنّبت الجزائر إصدار أي تعليق سياسي بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، بحيث اقتصرت مراسلات وزارة الخارجية الرسمية على وضع رعاياها في أوكرانيا وكيفية إجلائهم. ويمكن فهم موقف الجزائر هذا بالنّظر إلى وتيرة تقدّم العلاقات العسكرية التي جمعت بين الجزائر وموسكو خلال السنوات القليلة الماضية، حيث وصلت القيمة الإجمالية للصفقات العسكرية الموقعة بين الرئيسين بوتين وبوتفليقة في 2001 إلى 2.5 مليار دولار، زوّدت بموجبها موسكو الجزائر بأسلحة جوية وبرية وبحرية لسنوات. فضلًا عن ذلك، تُعتبر روسيا الدولة الرئيسية التي تزوّد الجزائر بالحبوب، تليها أوكرانيا وفرنسا التي تراجعت في الآونة الأخيرة كمزودة للقمح إلى السوق الجزائري وسط العلاقات المتوترة ومطالب الجزائر بأن تعترف فرنسا بالجرائم المرتكبة خلال حقبة الاستعمار. وبما يتعارض مع موقف المغرب الذي أصبح يشبه أكثر فأكثر موقف الولايات المتحدة إزاء الحرب، اتهم وزير الخارجية الإسباني الجزائر بالانحياز إلى الموقف الروسي ردًا على إقدام الدولة الشمال أفريقية على إلغاء "معاهدة صداقة" ثنائية الأسبوع الفائت.
كما ظهرت العلاقة الوطيدة بين البلدين من خلال زيارة رئيس الهيئة الفدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني، ديمتري شوغاييف، في آذار/مارس 2022، وهو المسؤول الروسي الرفيع المستوى الأول الذي يزور الجزائر منذ بداية الأزمة الأوكرانية، حيث شارك في اجتماع اللجنة الحكومية المشتركة الجزائرية-الروسية حول التعاون العسكري والتقني. وخلال الشهر نفسه، زارت نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان الجزائر تمهيدًا لزيارة بلينكن أواخر آذار/مارس، حيث ناقش مسألة الأمن في المنطقة والعلاقات التجارية مع الرئيس الجزائري.
وبعيدًا عن الدبلوماسية، يبدو أن أوروبا بحاجة أكثر من أي وقت مضى لإمدادات الغاز من الجزائر وسط تعليق العمل بمشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 المزمع تنفيذه. غير أن العلاقات بين الجزائر وإسبانيا تزداد توترًا بسبب موقف الأخيرة من قضية الصحراء الغربية، علمًا بأن الجزائر كانت أشارت أواخر نيسان/أبريل إلى احتمال وقف واردات الغاز إلى إسبانيا. غير أن الجزائر أعلنت أنها ستفي بجانبها من التزامات الغاز القائمة حاليًا مع مدريد.
وبخلاف المغرب والجزائر، قررت تونس التصويت لصالح قرار صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين غزو روسيا لأوكرانيا. وبررت وزارة الخارجية التونسية موقفها هذا من القرار بقولها إنه بمثابة انتصار لأغراض ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة الذي تستند إليها في سياستها، مؤكدة تطلّع البلاد إلى إنهاء الأزمة بحلول سلمية.
وفي الوقت نفسه، تشارك تونس في محادثات مع وكالات مانحة، ولا سيما "صندوق النقد الدولي" لتوفير قروض مالية ترمي إلى دعم اقتصادها الذي يعاني منذ فترة طويلة. فتونس، التي تُعتبر شريكًا مقربًا من الاتحاد الأوروبي، تسعى إلى تعزيز مصالحها ودعمها من خلال الحشد الدولي لشركائها الاقتصاديين التقليديين، على غرار الدول الأوروبية.
أما مصر، فهي من الدول التي تعوّل إلى حدّ كبير على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا، حيث تستورد نحو 50 و30 في المائة من القمح من البلدين على التوالي. وعليه، تضرّرت مصر كثيرًا من الأزمة، على الرغم من الهبات الكبيرة المقدمة لإبقاء اقتصاد البلاد عائمًا وإبعاد خطر النقص في المواد الغذائية. وعلى نحو مماثل، ازدادت التبادلات بين روسيا ومصر العام الفائت بنسبة 10 في المائة، واستعادت موسكو دورها كمورد رئيسي للأسلحة إلى مصر للمرة الأولى منذ حرب 1973 في الشرق الأوسط.
وفي وقت تبقى فيه المرافئ الأوكرانية مقفلة على الرغم من جهود المفاوضات الدولية لإعادة فتحها، تبحث الدول التي تستورد القمح والذرة والزيوت النباتية عن أسواق بديلة، كما هي الحال في لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي وسائر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وستُمسي هذه القضايا شيئًا فشيئًا أكثر المشاكل إلحاحًا بالنسبة إلى حكومات الدول العربية، كما أن مواقفها تجاه النزاع في أوكرانيا سيتبدل على الأرجح رهنًا بالجهة التي تستطيع المساعدة في حل أزمة المواد الغذائية المتنامية.
ووسط استمرار الأزمة لإعادة خلط الشراكات والتأثير على سلاسل الإمدادات العالمية، ينبغي على واشنطن العمل على نشر رسائل لطمأنة حلفائها واتخاذ خطوات مهمة لحماية قطاع الطاقة والأمن الغذائي بالتعاون مع شركائها التقليديين. ويمكن للولايات المتحدة والدول الغربية، بقيادة كندا وفرنسا، سد النقص على صعيد القمح والحبوب والنفط الذي يؤثر على بعض الدول العربية. كما يجدر بالولايات المتحدة التعاون عن كثب مع الدول العربية المصدّرة للنفط من أجل السيطرة على أسعار السوق ومنع روسيا من ربط أزمة الغذاء العالمية المتنامية بالعقوبات الغربية المفروضة عليها.