- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الحفاظ على وحدة لبنان من خلال نظام سياسي فيدرالي
يمر لبنان حالياً بظروف غير مسبوقة تتطلب مشاركة جميع الأطراف المؤثرة من اجل التوصل إلى حل دائم يحافظ على وحدة البلاد ويرسّخ السلام والازدهار فيه.
ولا بدّ من استعراض بعض الأحداث التاريخية، سواء قبل إنشاء "لبنان الكبير" أو ما بعده في عام 1920، من اجل تحديد ومعالجة الاسباب الكامنة وراء التراكم المستمر للتوترات بين الطوائف والتي أدت باستمرار إلى حروب وأزمات مثل تلك التي نشهدها اليوم. ستساعد هذه الأمثلة في تسليط الضوء على ضرورة اعتماد الفيدرالية الجيو-ثقافية كحل جذري لتوفير مسار جديد لقيام الدولة اللبنانية على اسس ثابتة وسليمة.
تاريخ التوترات في لبنان
انتهى النفوذ الدرزي في جبل لبنان عام 1843 عند تأسيس نظام القائمقامية الذي كان مشابهًا لاتحاد جغرافي (فدرالية جغرافية) حيث كان جبل لبنان مقسماً إلى منطقتين، المنطقة الشمالية يحكمها قائمقام مسيحي (يسيطر على الأقليات الدرزية) ومنطقة جنوبية تحت حكم قائمقام درزي (يسيطر على السكان المسيحيين). وفقاً للعديد من المؤرخين، كانت هذه الفدرالية الجغرافية، حيث الأقليات الدينية تسيطر عليها مجموعة دينية أخرى، أحد الأسباب الرئيسية التي عززت التوترات بين الطوائف والتي انتهت بمجازر (حرب أهلية) عام 1860.
في عام 1861، فرضت "القوى العظمى الخمس" الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية بروتوكول سنة 1861 (Règlement Organique) الذي أنشأ "متصرفية جبل لبنان" مع حكمها الذاتي، حيث كان أكثر من 80% من السكان مسيحيين. وكانت هذه الفترة بمثابة نموذج لفدرالية "جيو-ثقافية" استمر حتى بداية الحرب العالمية الأولى. وبخلاف الاتحاد الفيدرالي الجغرافي في نظام القائمقاميتيْن، وصف المؤرخون هذه الفترة من الفيدرالية الجيو- ثقافية بأنها "السنوات الخمسين الأكثر ازدهارًا وسلامًا في تاريخ لبنان".
ويقف نظام المتصرفية على النقيض من فترة الانتداب الفرنسي الذي جاء في عام 1920، وعلى صياغة أول دستور لبناني في عام 1926. فبالنظر إلى التعددية الثقافية في لبنان الحديث، كان النظام السياسي "المركزي" الذي وضعه الدستور مخالفًا للواقع الديموغرافي، ولذلك يمكن اعتبار دستور 1926 بلا أدنى شك انه أصل المآسي التي اجتاحت لبنان خلال المئة عام التي تلت.
فمنذ استقلال لبنان عام 1943، أدى هذا النظام المركزي إلى استمرار حالة التوتر السياسي، والاضطرابات الأهلية، وحتى الاقتتال بين المجموعات المسلمة والمسيحية في لبنان. مثال على ذلك، فقد شهد كل عقد فترة توتر أو عنف، بما في ذلك نشوب حرب أهلية لفترة قصيرة في عام 1958، واتفاقية القاهرة عام 1969 التي أجبرت لبنان على التنازل عن سيادته على جزء من جنوب لبنان لمنظمة التحرير الفلسطينية، والاشتباكات العسكرية بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1973، وما تلاها من حرب أهلية استمرت خمسة عشر عامًا، وانتهت باتفاق الطائف.
ورغم أنه كان من المفترض أن يشكّل اتفاق الطائف في عام 1990 بداية حقبة جديدة في البلاد، إلا أنه اضحى أنه عبئاً على كل المجموعات أو الطوائف المكونة للبنان. فقد اعتبرت الطائفة المسيحية أن دستور الطائف جرّدها من الكثير من حقوقها وامتيازاتها وجعلها تابعة للمجموعات الأخرى. أما الطائفة السنّية، التي تخشى أن تخسر بعض الامتيازات التي يفترض أنها اكتسبتها من "اتفاق الطائف"، فهي تمر بفترة من الإحباط، إذ أدركت يومًا بعد يوم أن السلطة التنفيذية أصبحت موزعة بموجب الدستور بين جميع الوزراء الذين يشكلون الحكومة وليست محصورة برئيس الوزراء السنّي. أما بالنسبة إلى الطائفة الشيعية، التي اعترضت صراحةً منذ إقرار "اتفاق الطائف" على استبعادها بموجب الدستور عن السلطة التنفيذية، فقد انتهى بها الأمر في مناسبات متعددة إلى فرض نفوذها باستخدام القوة العسكرية. ولا بد من الاشارة إلى اندلاع المزيد من العنف خلال الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006 وما تلاه من أزمة سياسية واشتباكات عسكرية في 2007-2008، والتي انتهت باتفاق الدوحة.
على الرغم من أن اتفاق الدوحة الذي تم التوصل إليه في عام 2008 حاول مرة أخرى معالجة حالة التوتر السياسي والاضطرابات الأمنية التي استمرت لأشهر، إلا أن هذا الاتفاق لم يكن أيضًا حلاً مثاليا، فقد منح اتفاق الدوحة "حزب الله" حق الفيتو على جميع القرارات الحكومية، ما سمح للطائفة الشيعية التي تهيمن على قرارات السلطة التشريعية، بترسيخ سيطرتها على الحكومة المركزية، وذلك بعد فترة من الهيمنة السنّية على مدى خمسة عشر عاماً.
اذاً وبالرغم من تكرار الترتيبات السياسية لتنظيم الاختلافات، كانت تشعر دائمًا مجموعة واحدة على الأقل بأنها مستبعدة من المعادلة السياسية وأنه تم تهميش صوتها. ونظرًا إلى أن السمة المشتركة بين هاتين الفترتين (1943-1975 و1990-2022) هي نظام سياسي مركزي، آن الأوان للاعتراف بأن الدستور اللبناني نفسه هو سبب المشاكل.
وضع تصوّر للحل
يتكوّن لبنان من مجموعات ثقافية متعددة تعيش جنبًا إلى جنب منذ مئات السنين، ولكن لكل منها تاريخها ومراجعها وعاداتها وثقافاتها ومعتقداتها الدينية، والتي تشكّل مجتمعة الثروة الفعلية "للهوية اللبنانية". لذلك، يختلف مفهوم الوطنية أو “السردية الوطنية" في لبنان تبعًا للمنظور المسيحي، أو الدرزي، أو السنّي، أو الشيعي، ولكن يبقى لبنان وطن نهائي لكل هذه المجموعات.
لقد أثبت التاريخ أن المحافظة على السلم والازدهار في أي بلد يتطلب أن يعكس الدستور تركيبة هذا البلد الاجتماعية والثقافية. ونظرًا إلى تعدد مصالح الجماعات الدينية والثقافية المختلفة داخل لبنان، تبقى الفيدرالية الخيار الدستوري الأكثر تطورًا لإحلال الاستقرار في بلد التنوع هذا. ومن مزايا الفيدرالية أنها تساهم في وضع حد لطغيان أي أكثرية على الأقليات.
تطوير نموذج فيدرالي ناجح للبنان
أنشأت مجموعة من الناشطين المدنيين -الغير سياسيين- جمعية تدعى ""اتحاديون"، والتي وضعت مسودّة دستور لنظام سياسي فيدرالي في لبنان. هدف الجمعية من خلال هذا الدستور ايجاد حلول للنزاعات المتتالية بين المجموعات اللبنانية استناداً إلى أربع ركائز أساسية:
(أ) الحفاظ على وحدة لبنان كدولة واحدة
(ب) حماية التنوع الثقافي لجميع فئات المجتمع
(ج) القضاء على التوترات الدينية
(د) وقف نزوح أهالي القرى
ان هذا الاقتراح المسمّى بـ الفيدرالية "الجيو- ثقافية"، مستوحى من النظام الفيدرالي السويسري. فالعديد من المناطق التي تشكل الكانتونات السويسرية الـ 26 ليست متجاورة، إذ ليس من الضروري أن تكون حدودها متصلة بعضها ببعض كي تنتمي إلى الكانتون نفسه. على سبيل المثال، تقع بعض البلدات جغرافياً داخل كانتون "فود" لكنها تتبع ادارياً ودستورياً لكانتون "فريبورغ"، في حين تتواجد بلدات أخرى جغرافياً داخل "فريبورغ" ولكنها تابعة لكانتون "فود" أو "برن".
إذا طبّقنا المبدأ نفسه على لبنان، يمكن إنشاء فيدرالية جيو-ثقافية من خلال تجميع كل البلدات التي تنتمي إلى مجموعة ثقافية واحدة، أي المسيحيين والسنّة والدروز والشيعة، وضمها إلى محافظة واحدة بغض النظر عن موقعها الجغرافي. بحسب اقتراح "اتحاديون"، يصبح لبنان موزعاً على أربع محافظات غير متواصلة جغرافياً فيما تكون العاصمة الاتحادية في وسط بيروت. ومن شأن هذا النموذج أن يقضي على أي توتر بين الطوائف ويضع حدًا لنزوح الأقليات من القرى.
في نموذج الفيدرالية الجيو-ثقافية، تُعطى الصلاحيات بالدرجة الاولى إلى البلديات، حيث يدفع السكان حوالي 35 في المئة من ضرائبهم، فيما تذهب نسبة 35 في المئة إلى المحافظة ونسبة 30 في المئة المتبقية إلى السلطة الفيدرالية. كما يتم التعامل مع معظم القضايا الاجتماعية والاقتصادية على مستوى البلديات والمحافظات. أما المواضيع المشتركة بين المحافظات الأربع، كالشؤون الخارجية/العسكرية والسياسة النقدية، فتوكل إلى الحكومة الفيدرالية المكونة من أربعة حكام يمثل كل واحد منهم محافظة. تُسند السياسة النقدية إلى بنك مركزي مستقل يخضع للمراقبة من السلطة الفدرالية. اما بالنسبة إلى الشؤون الخارجية والعسكرية، ستأخذ الحكومة الفيدرالية جميع قراراتها بالإجماع، بحيث يشكل هذا الاجماع ضمنيًا "حياد فعلي" والذي يحتاجه لبنان لتحييده عن الصراعات الإقليمية والقضاء على التوتر الطائفي الذي يثيره عادةً ويستغله تدخل القوى الخارجية في الشؤون اللبنانية.
اما إذا نظرنا إلى الواقع فنرى أن المواطنين اللبنانيين يمارسون منذ عقود "فيدرالية مقنّعة" داخل دولة دستورها مركزي. ففي لبنان مثلًا:
- لا يوجد قانون موحد للزواج فاللبنانيون يتزوجون ويطلّقون بـ 18 طريقة مختلفة.
- ثمة قوانين متعددة للإرث، قانون لكل طائفة.
- في الكثير من المناطق، تصدر السلطات المحلية قرارات تحل محل الدستور أو أنظمة وقوانين السلطة المركزية.
- تستند التعيينات السياسية والإدارية الرئيسية إلى الانتماء الطائفي بدلًا من مؤهلات المرشحين وجدارتهم المهنية.
- أنشأت الطوائف المختلفة علاقات خاصة مع قوى إقليمية ودولية يمكن اعتبارها "دبلوماسية موازية" ساهمت باستمرار في تدخّل تلك الجهات الخارجية في الشؤون الداخلية اللبنانية.
الا انه للتمكن من تنفيذ أي تغييرات جذرية في النظام السياسي لأي دولة، لا بد من تلاقي الظروف المحلية والإقليمية والدولية كلها. لذلك، يبدو التوقيت الحالي مناسبًا، إذ يُجمع معظم اللبنانيين على أن النظام السياسي القائم أصبح باليًا وبحاجة إلى التغيير. وثمة أيضًا إقرار بأن المجتمع المدني يحاول منذ ثمانين عامًا إيجاد حلول لتداعيات المشاكل بينما يتم تجاهل السبب الرئيسي لتلك المشاكل. لذلك ما يجب أن يدركه اللبنانيون اليوم هو أن النظام السياسي المركزي القائم منذ عام 1926 لا يناسب المجتمع اللبناني المتعدد الثقافات، بل كان هذا النظام السبب المباشر في إثارة الأزمات والحروب المتكررة.
حتى "اتفاق الطائف" الذي تم برعاية دولية ونجح في إنهاء القتال، فقد زرع بذور زعزعة مستمرة للاستقرار من خلال توطيد نظام سياسي مركزي مقترن بديمقراطية توافقية. وقد تُرجم ذلك إلى تجمع فيدرالي للزعماء، مثّل فيه القادة السياسيون مجموعاتهم الدينية وقاموا بتحويل النظام إلى "فيتوقراطية طائفية" سيئة، فاقمت الفساد من دون مساءلة أو أي إمكانية للإصلاح.
من ناحية اخرى، لا ينفك المجتمع الدولي، ولا سيما الدول الحريصة على مساعدة لبنان، بالوقوع في فخ "ترتيبات الضرورة" إذ تقوم هذه الدول بمساعدة لبنان على إيجاد اتفاقات "مرقّعة" لمعالجة الصراعات المتكررة. فلا تهدف هذه الاتفاقات إلا إلى تجميد خطر المواجهة العسكرية وتأجيلها. لذلك إذا كان "أصدقاء لبنان" يسعون إلى تحقيق سلام مستدام في البلاد، فعليهم النظر بجدية إلى مقترحات جديدة لتغيير النظام السياسي من خلال دستور يعكس البنية الاجتماعية والثقافية الحقيقية للبنان.
لقد كان القرن العشرين هو القرن الذي انتشرت فيه مبادئ الديمقراطية على مستوى العالم، ويبدو أن القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي يتم فيه الدفاع عن حقوق الأقليات داخل المجتمعات المتعددة الثقافات. ويتم المحافظة على هذه الأقليات من خلال الفيدرالية أو الكونفدرالية أو التقسيم. تشكّل الفيدرالية وسيلة لمنع لبنان، أحد أقدم البلدان المتعددة الثقافات في العالم، من الانهيار. لذلك يتعيّن على اللبنانيين البحث بجدية في تطبيق النظام الفيدرالي الجيو-ثقافي باعتباره الطريقة الفضلى للقضاء على الفساد وتطبيق المحاسبة وحماية التنوع الثقافي والقضاء على التوترات الطائفية مع الحفاظ على وحدة لبنان. إن الوضع في لبنان مأساوي لدرجة أنه من أجل تحقيق هذا التغيير الجذري، ينبغي على جميع الاطراف الانخراط بشكل عاجل في مناقشات صادقة ونزيهة وبناءة وبعيدة عن الغوغائية، من أجل تجنب العواقب الوخيمة على لبنان.