- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الحملة الإعلامية القطرية ضد الصفقة الإماراتية- الإسرائيلية تعكس التصدع الخليجي الأوسع
في الأسابيع التي تلت إعلان القادة الأمريكيين والإماراتيين والإسرائيليين عن اتفاق التطبيع التاريخي في 13 آب/أغسطس، انهالت وسائل الإعلام القطرية بالانتقادات على الاتفاق. ولكن يبدو أن دوافع هذه الانتقادات مرتبطة بشكل مباشر بالقدر نفسه بالصراع المباشر بين قطر والإمارات العربية المتحدة بقدر ارتباطه بالنقد الحقيقي للصفقة.
ساهمت أيضًا المنافسة المباشرة بين الإمارات العربية المتحدة وقطر، جنبًا إلى جنب مع المقاطعة الأوسع لقطر من قبل دول "الرباعية العربية" - الإمارات والسعودية ومصر والبحرين - في تأطير ردود الفعل الإعلامية المتضاربة حول الصفقة، علمًا بأن وسائل الإعلام القطرية والسعودية والإماراتية تتمتع ببعضٍ من أوسع نطاقات الانتشار والتأثير بشكل عام.
في قطر، أبدت وسائل الإعلام شبه الرسمية والمدعومة من الحكومة معارضةً شديدة للاتفاق، مسلّطة الضوء على الغضب الفلسطيني ومنتقدة الإمارات العربية المتحدة مباشرةً على هذه الحركة الدبلوماسية. فعمدت مثلاً صحيفة "الشرق" الموالية للحكومة القطرية إلى وصف الاتفاق بعبارات خاطئة بحيث استخدمت عنوانًا مقتبسًا عن الرئيس التركي أردوغان، وهو: "التاريخ لن يغفر للإمارات إبرامها اتفاقًا مع إسرائيل". ونشرت الصحيفة نفسها مقالة بعنوان: "محمد بن سلمان مستعد لإقامة علاقات مفتوحة ... والوسيط هو اليهودي حاييم صبان".
فضلاً عن ذلك، زعم تلفزيون قطر التابع للدولة أن إسرائيل خدعت الإمارات ولا تنوي وقف عملية الضم. واستخدم أيضًا صورًا لقوات الشرطة الإسرائيلية وهي تمنع المتظاهرين الفلسطينيين من إحراق العلم الإماراتي، إضافةً إلى صور للأمير محمد بن زايد داخل المسجد الأقصى، وذلك ليبيّن أن الإسرائيليين يحمون الإماراتيين من الغضب الفلسطيني. وكذلك بثّت قناة الجزيرة عشرات البرامج السياسية التي ندّد خلالها المشاركون في المقابلات – وهم من جنسيات عربية مختلفة - بالاتفاق تنديدًا شديد اللهجة. وكان الكم الأكبر من التغطية الإعلامية موجهًا بشكل خاص ضد شخص القيادات الإماراتية، وسعت هذه البرامج في عباراتها إلى نزع الشرعية عن تلك الشخصيات.
في المقابل، ضغطت دول الرباعية العربية بشدة في الاتجاه المعاكس، بحيث دافعت القنوات الإماراتية والسعودية والبحرينية عن اتفاق التطبيع – مع استثناء ملحوظ من جانب القنوات التابعة للمعارضة الشيعية في البحرين. وكان ملفتًا التزام الدولة الرابعة في الرباعية – أي مصر – بالصمت.
وليس مستغربًا أنّ الصحف الإماراتية مجّدت بهذا الاتفاق باعتباره تاريخيًا، وأغدقت بالمديح على الأمير محمد بن زايد لنجاحه في وقف أعمال الضم مقابل الحفاظ على إمكانية تحقيق حل الدولتين. وحرصت وسائل الإعلام الإماراتية على استضافة معلّقين إسرائيليين يجيدون اللغة العربية من أجل التأكيد على العلاقات الإسرائيلية القطرية، لتعزز بذلك الرواية الإماراتية القائلة إنّ الانتقاد القطري هو نوع من النفاق. فقد قال مثلاً عضو الكنيست إيلي أفيدار عبر قناة "سكاي نيوز عربية" إنّ قطر تريد أن تكون لها علاقة حصرية مع إسرائيل.
أما وسائل الإعلام السعودية، فبدت مصدومةً ومربكة لفترة وجيزة بعد الإعلان عن الاتفاق مباشرةً. لكن سرعان ما تبدّل هذا الموقف وبدأ الدفاع عن الإمارات بوجه الحملة الدعائية القطرية، ربما بناءً على تعليمات الرياض. ونشرت قناة "العربية" مذّاك مقابلة حصرية مع سفير إسرائيل في واشنطن رون ديرمر قال فيها إن دولًا عربية أخرى ستنخرط قريبًا في التطبيع. كما نشر الموقع تقريرًا عن وضع الجالية اليهودية في دبي وخصّص مساحات في مقالاته الافتتاحية للكتاب الإسرائيليين من أجل التحدث عن السلام.
كما كتب صحافيون سعوديون معروفون مقالات أشادت بالاتفاق. فكتب عبد الرحمن الراشد في صحيفة "الشرق الأوسط" التابعة للسعودية مؤكّدًا على الجوانب الإيجابية للاتفاق ومنتقدًا قطر صراحةً على ازدواجية معاييرها حيال التطبيع، كما شدّد على علاقات قطر نفسها بإسرائيل لافتًا إلى أنها قائمة منذ فترة طويلة وفق ما يتجلّى من زيارة رئيس الوزراء آنذاك شيمون بيريز إلى المملكة الخليجية عام 1996. وفيما يبدو أنه لا أساس من الصحة للتكهنات الأولية بانخراط السعودية هي أيضًا في مفاوضات سلام مع إسرائيل، إلا أن دعم وسائل الإعلام والمفكرين البارزين في السعودية لاتفاق التطبيع بين إسرائيل والإمارات يجب أن يكون دلالة على ما ينتظرنا عند وصول الأمير محمد بن سلمان إلى الحكم.
ونظرًا إلى هذا الانقسام الواضح بين ردود "الرباعية العربية" والردود القطرية على الاتفاق، لا بد من فهم رد الإعلام القطري في سياق الصراع الدائر بين دول الخليج. فمع أن وسائل إعلامية أخرى في المنطقة انتقدت اتفاق التطبيع، إلا أن وسائل الإعلام القطرية أظهرت بطريقة ما الموقف الأكثر عدائيةً، ربما لأن قطر ستخسر الكثير من توطيد العلاقات بين إسرائيل والإمارات نظرًا إلى المنافسة الإقليمية الشديدة بين الدوحة وأبوظبي.
والأرجح أن الدوحة تشعر بالتهديد من الوجود الإماراتي المستجد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبالفعل، تتسم العلاقة بين إسرائيل وقطر بسمات فريدة، إذ تدفع هذه الأخيرة 30 مليون دولار شهريًا لغزة، ما يدل على حرص كلا الجانبين على عدم انفجار الوضع في القطاع. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت تقارير عن زيارة قام بها رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين إلى الدوحة - تلتها تقارير عن التوسط لاتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل بعد التصعيد الأخير.
في المقابل، تساور الشكوك أوساط الدوحة الداخلية حول تصرفات أبو ظبي في المنطقة، علاوةً على الظنون بأن أبو ظبي ليست مهتمة البتة بالمصالحة بين الرباعية العربية وقطر. فالطرفان منخرطان أصلاً في منافسة واسعة النطاق تتجلى بشكل رئيسي في سياساتهما الخارجية الإقليمية وداخل أوساط السياسات في واشنطن – فقد استثمر الطرفان مبالغ ضخمة في المستشارين الأمريكيين ومراكز الفكر وشركات العلاقات العامة. وفي ضوء هذه الخلفية، تشير اتفاقية السلام التي توسطت فيها الولايات المتحدة إلى أن الإمارات عزّزت اليوم قدرتها على الاستفادة من البيت الأبيض والأوساط المعنية بالسياسات المؤيدة لإسرائيل في العاصمة واشنطن في ما يتعلق بمناقشات السلام في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة تخوّف من تداعيات إقامة سفارة إماراتية في تل أبيب. فبخلاف الوجود المصري غير الفاعل هناك، سيتعامل الإماراتيون باستباقية مع النخب الدبلوماسية والاقتصادية الإسرائيلية. وقد سبق أن أظهر المسؤولون والمفكرون الإماراتيون استعدادهم للانخراط علنًا من خلال إغراق وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام التي أعقبت اتفاق السلام وإجراء المقابلات وتبادل الآراء حول كيفية حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
والواقع أن قطر أوجدت لنفسها مساحة فريدة كجسر في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، لكن الموقف الإماراتي الجديد يهدد قدرتها على التأثير على الوضع من خلال جهودها الخاصة الأقل علنية. ويتأتى هذا التهديد بشكل خاص عن القدرات المالية التي تملكها الإمارات وتتعارض بشكل حاد مع دولتَي الأردن ومصر.
وبالرغم من اعتراض السلطة الفلسطينية الشديد على المفاوضات، يبدو أن ثقل الإمارات لا يمكن إنكاره حتى في الأوساط الفلسطينية، وهذا ما ألمحت إليه تغريدة صائب عريقات، وهو شخصية بارزة في السلطة الفلسطينية، حين طلب من إخوانه الفلسطينيين الامتناع عن مهاجمة القادة الإماراتيين أو إحراق علمهم. وجدير بالذكر أن الفلسطينيين عمدوا طوال عقود من الزمن على إهانة القادة المصريين المتعاقبين بسبب السلام مع إسرائيل – ولم يسبق لأي مسؤول فلسطيني رفيع المستوى أن وجّه هذا النوع من الطلب العلني حين كانت مصر تتعرض للهجوم.
قد تنجح أبو ظبي، من خلال نفوذها، في ضبط ميزان القوى في القضايا الحساسة – ولا سيما القدس - بطريقة تثير قلق الدوحة وحليفتها أنقرة بشكل خاص. فخلال العقدين الماضيين، ركّزت وسائل الإعلام القطرية والرئيس التركي أردوغان بشكل كبير على رواية الدفاع عن الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس. فدأبت قناة الجزيرة، على سبيل المثال، على بث تقارير عن تعرّض المسجد - وهو موقع مقدس رئيسي في الإسلام - لخطر كبير من اليهود المتدينين الذين تحميهم قوات الشرطة الإسرائيلية "المتوحشة"، فيما روّجت للرواية القائلة إن أردوغان هو المدافع الحقيقي عنه. واستفادت هذه الرسائل من افتقار الأردن إلى الموارد المالية ومن ثقله الإقليمي الخفيف نسبيًا لتغطّي على الوصاية الأردنية الرسمية على الأقصى.
واليوم ستحظى أبو ظبي بحق تسيير رحلات للمسلمين من مطاراتها لزيارة المسجد الأقصى. وبالتالي، فإن تنظيم أبو ظبي لهذه الرحلات الدينية قد يدحض هذه الادعاءات وينقض الادعاء القائل إن هذه المواقع الدينية في خطر. ومن المحتمل أيضًا أن تمنح هذه الرحلات هيبةً دينية جديدة للإمارات لأنها تقدّم نفسها على أنها جسر بين العالم العربي والمسجد الأقصى.
من هذا المنطلق، لا يجدر اعتبار الرسائل القطرية مجرد رد على الاتفاق نفسه، فمن المرجح أن تغذّي العداوة بين الإمارات وقطر وسائل الإعلام القطرية شبه الرسمية والممولة من الحكومة في المستقبل المنظور. والأرجح أيضًا أن تكون هذه الرسائل مؤثرة، فأي حملة تستهدف الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي في هذا الوقت قادرة على إخافة القادة العرب الآخرين من اتباع نهج التطبيع، كما أنها تقوّي الأصوات المناهضة للتطبيع في الرياض والمنامة من بين عواصم عربية أخرى. ومن المؤكد أن الإعلام القطري ليس الصوت العربي الوحيد الذي يعارض الاتفاق، لكن يجب إيلاء اهتمام خاص لهذه الرسالة وتأثيرها المحتمل على الرد الإقليمي الجاري على السلام بين إسرائيل والإمارات.