- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الحياد الإيجابي ضرورة لتكوين موقف مصر من الثورة السودانية
مرة أخري تواجه مصر إشكالية التعامل مع الملف السياسي الأهم لديها... ملف السودان، فعندما أطاح العقيد عمر البشير في 30 حزيران/يونيو 1989 بالحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، سارعت مصر بالاعتراف بنظام البشير. وبعد فترة وجيزة صنفت مصر نظام البشير على انه نظام إسلامي وبدأت الابتعاد عنه، ثم توالت سلسلة مُتبادلة من الإجراءات العدائية من بين أخطر نتائجها على مصر أن السودان استبدل تحالفه مع مصر ليكون مع إثيوبيا. وفي المقابل تعاملت مصر مع المعارضة السودانية ومع أرتيريا التي كانت تناصب إثيوبيا والسودان العداء.
والآن، تكرر مصر نفس الخطأ، فبعد الإطاحة بنظام البشير، تحالفت مصر مع المجلس العسكري الانتقالي برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لم تعر اهتماماً بالأطراف الأخرى المعنية، وبعد إعلان المجلس عن عدة إجراءات، أبرزها تسليم الحكم للمدنيين بعد عامين، رفض الثوار السودانيون الجدول الزمني المقترح وما زالت المفاوضات مستمرة. كما أعلن مجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي عن رفضه لفكرة بقاء المجلس العسكري لمدة عامين، كما عبر أعضاء المؤسسة العسكرية أنفسهم عن رفضهم احتفاظ الجيش بالسلطة.
تبنت مصر رؤية أخرى مُختلفة حيث دعت إلي عقد قمة استثنائية مُصغرة بالقاهرة لبحث الأوضاع في السودان وليبيا، وبالنسبة للسودان تمخضت القمة عن مد الفترة الانتقالية التي حددها مجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي لتصبح 3 اشهر بدلا من 15 يوما. ويبدو أن عقد هذه القمة كان نتاجاً لتنسيق مصري مع المجلس العسكري السوداني ومع المملكة السعودية والإمارات اللتين أعلنتا عن تعهدهما بدعم السودان بمبلغ قدره ثلاثة مليارات دولار بما في ذلك 500 مليون دولار وديعة بالبنك المركزي، ومن ثم فقد أخطأت مصر في عدم تعاملها مع طرفي المعادلة السودانية، ما دفع القوى الثورية إلى الاعتقاد بان مصر تؤيد بقاء المجلس العسكري في السلطة لمدة عامين، وربما يصبح المجلس العسكري أقل ميلاً للعمل مع الحكومة.
يُضاف إلى خطأ مصر في عدم تعاملها مع طرفي المعادلة السودانية الحالية خطأ آخر وهو التماهي مع النهج الذي تنتهجه السعودية والإمارات مع الثورة السودانية بل وحتى مع المجلس العسكري، إذ أن مصر تعتبر امتداد طبيعي للسودان ولها مصالح استراتيجية واقتصادية وأمنية طويل الأمد معها. وعلى الطرف النقيض، لا تمتلك السعودية والإمارات مصالح استراتيجية طويلة الأجل مع السودان كتلك التي تمتلكها مصر، إلا أن اهتمامهم بالسودان ينبع في الأساس من رغبتهما في توسيع نفوذهما في منطقة القرن الإفريقي. لذلك، فمن غير الواضح إذا ما كانت المصالح الخليجية والمصالح المصرية في السودان ستتقاطع على المدى الطويل.
وعلى عكس الدول الخليجية، يمكن لمصر أن تحقق أمنها القومي مع أي نظام حكم يختاره الشعب السوداني من خلال قواه السياسية على اختلافها، فعلى مدار 30 عام، تسبب نظام البشير العسكري في الحاق أضرار بالغة بالأمن القومي المصري، بل وأسس لتحالف مع إثيوبيا جاء على حساب علاقته مع مصر لذلك فقد كان على مصر تحري الحياد الإيجابي مثلما تتعامل الولايات المتحدة وإلى حد ما الاتحاد الأوروبي حالياً مع القضية السودانية.
وفي حين أن إنشاء حكومة مدنية جديدة في السودان قد يتيح لمصر الفرصة لتحسين علاقتها مع جارتها الجنوبية، من الضرورة بمكان أن نتذكر أن المجلس العسكري الانتقالي يعتبر في النهاية مُنتجاً للمؤسسة العسكرية السودانية التي أنتجت سابقاً نظم عبود و نميري والبشير التي ثار ضدها الشعب السوداني ولم تؤد ما عليها تجاه الشعب فثلاثتهم أضر بالأمن القومي السوداني فآخرهم ضُرب في عهده أمن السودان القومي في مقتل بانفصال جنوب السودان في 9 تمّوز/ يوليو 2011 وفقاً لاتفاقية السلام بالسودان المُوقعة في يناير 2005، ويُضاف لكارثة انفصال جنوب السودان كارثة أخري في الشمال أي مع مصر ستظل تعترض استعادة المستوي الطبيعي للعلاقات الثنائية. وستظل هذه القضايا تمثل تعقيدًا شائكًا بين البلدين، ويجب أن تؤخذ قدرة المجلس العسكري الانتقالي على التعامل مع كل من هذه التحديات في الاعتبار.
أولا: التباين الحاد بين مفهومي الأمن القومي لمصر والسودان، حيث تميزت نظرية الأمن القومي للبلدين منذ استقلال السودان عام 1956 بخاصيتي الوحدة والتبادلية، لكن مع اضطراد العداء بين القاهرة والخرطوم بسبب إحجام نظام مبارك عن دعم السودان لاعتقاده بأن نظام البشير إسلامي مما حدا بالسودان إلي اتخاذ إجراءات تعد عدائية من أهمها تصفية البعثة التعليمية المصرية والاستيلاء علي فرع جامعة القاهرة فرع الخرطوم والتضييق علي فروع الشركات المصرية بالسودان والاستيلاء علي كثير من دور الري المصري بالسودان وتجميد اجتماعات الهيئة الفنية الدائمة لمياه النيل.
قضت تلك الإجراءات على مبدأ وحدة الأمن القومي الذي شكل العلاقات الثنائية بين البلدين لعدة عقود لدرجة أن الرئيس البشير صرح في مؤتمر صحفي مشترك بأديس أبابا أشار فيه إلى " إنه لا سقف للتعاون بيننا في المجال الأمني إذ إن أمن أثيوبيا هو أمن السودان، وأمن السودان هو أمن أثيوبيا“.
ثانيا: هناك اختلاف غير مسبوق بين الموقفين المصري والسوداني إزاء قضية مياه النيل، حيث توترت العلاقات بين البلدين عندما أيدت الخرطوم بناء السد نظرا لاحتياجها للكهرباء، حيث ترى السودان أن مصر قد تعدت على حصتها من مياه النيل وقد اشتعلت الأزمة بين البلدين بعد نشر صحيفة أثيوبية تقارير تفيد بان القاهرة طلبت رسميا من أثيوبيا استبعاد السودان من مفاوضات السد، وهو ما نفاه الجانب المصري.
وتؤكد بعض التصريحات الرسمية التي صدرت عن الجانب السوداني عن وجود أزمة حقيقية بين البلدين، فعلي سبيل المثال صرح وزير الري السوداني أمام جلسة للبرلمان في 30 كانون الثاني/يناير 1994 ما نصه "أن هناك مساع لاتفاقية شاملة تضم جميع دول حوض النيل تختص بتوزيع المياه وأن الوضع الحالي مُجحف للسودان " وهو ما يعكس تأييد غير مباشر لاتفاق عنتيبي 2010 الذي وقعا عليه سته دول من دول حوض النيل من جملة عشرة دولة، والذي ترفضه مصر.
ورغم أن مصر والسودان مُرتبطتان باتفاقية الانتفاع الكامل من مياه النيل المُوقعة بالقاهرة في 8 تشرين الثاني /نوفمبر 1959 إلا أن هذه الاتفاقية التي تنص على التشاور الثنائي لم تمنع الجانب السوداني من أن يكون له موقف مُضاد للموقف المصري في ما يتعلق بالمواصفات الفنية لسد النهضة الإثيوبي الذي يتيح لإثيوبيا حجز 74 مليار متر مكعب مما يضر بحصة مصر الثابتة بموجب اتفاقية 1959 والبالغة 55,5 مليار متر مكعب.
وفى حقيقة الأمر، تأسس الموقف السوداني من السد على معطيات سياسية لا فنية. وفي هذا أشارت صحيفة الشرق الأوسط السعودية الصادرة بلندن في كانون الأول / ديسمبر 2013 بالإحالة على مصدر مسئول بوزارة الري المصرية قوله "إن الرئيس البشير تحدث عن إيجابيات السد مُتجاهلاً السلبيات وتأثير السد علي حصة مصر من مياه النيل". ومن ثم، عكس ذلك بشكل واضح انهيار التنسيق السياسي بين البلدين.
ثالثا: النزاع على حلايب، ففي سياق الرد على الإجراءات العدائية لنظام البشير المُشار إليها، تصاعدت وتيرة التوتر بين النظامين إلى درجة أن أصبحت المواجهات العسكرية وشيكة خاصة بعد أن نشرت القوات المسلحة المصرية قوة تابعة لها في حلايب في آذار/مارس 1992، واستطاعت إحكام سيطرتها على الحدود وفقاً لخط 22 درجة شمالاً. وكانت شركة جنوب الوادي المصرية للبترول قد قامت بطرح قطاعات للتنقيب عن النفط والغاز في منطقة حلايب على البحر الأحمر، وهوما اعتبره وزير النفط السوداني سعد الدين البشرى " تدخلاً مباشراً في صلاحيات وزارة النفط والغاز السودانية"، نظرا لان امتياز حلايب يقع تحت دائرة صلاحيات وزارة النفط السودانية، وفق الخرائط المعتمدة من قبل الهيئة العامة للمساحة ووزارة الدفاع. ويجدر بالذكر أن نظام الرئيسين نميري والبشير منحا ترخيص بحث وتنقيب عن البترول في حلايب لشركات أجنبية مثل (TEXAS EASTERN) الأمريكية، ولما احتجت مصر لدي السفارة الأمريكية بالقاهرة بمذكرة مُؤرخة في 4 نوفمبر 1980 سحبت هذه الشركة معداتها، وفي 1991 منحت الحكومة السودانية امتياز تنقيب عن البترول لشركة كندية التي اضطرت للانسحاب أيضاً.
كما رفضت مصر أكثر من مرة دخول مسؤولين وبرلمانيين سودانيين إلى المنطقة المتنازع عليها، كما ضمتها إلى دوائر الانتخابات المصرية التي جرت في مايو/أيار 2014، وهي الخطوة التي أثارت غضب حكومة الخرطوم، وهو نفس ما سبق وفعله نظام نميري والبشير اللذين جعلا من حلايب دائرة انتخابية في انتخابات 1986 وفي الانتخابات المختلفة بعد الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989).
ظل ملف حلايب شائكا ًحتى الإطاحة بنظام البشير، وبالطبع كانت هناك علاقة تبادلية سلبية بين النزاع على حلايب وكل مكونات العلاقة المصرية / السودانية التي أُضيرت بسبب عدم أهلية نظامي الخرطوم والقاهرة وتدني قدرتهما على التعايش وحل النزاع. وبينما تمثل الثورة فرصة لإعادة العلاقات بين البلدين، فإن سياسة الحياد النشط بشأن قضية حكومة السودان تمثل الخيار الأكثر احتمالا لتحقيق النجاح.
وبالنظر إلى ثقل الصراع الطويل الأمد بين السودان ومصر، وبما أن حكومة برهان تتبنى نفس وجهات النظر التي تبنتها المؤسسة العسكرية في السودان، فلا ينبغي على مصر أن تتوقع أن يتبنى المجلس العسكري الانتقالي موقف مغايرا لموقف البشير عندما يتعلق الأمر بمصر.
إن التناول المصري حالياً لملف السودان لا يختلف عن تناول نظام مبارك، الذي كان بإمكانه تحقيق المزيد من النجاح لو أنه أولي الاهتمام - خلال الأيام الأولى لحكم البشير- بالعناصر السياسية المكونة للسودان والتي تضمنت السلطة الحاكمة، والأحزاب السياسية المختلفة، والشعب السوداني نفسه.
والآن، يجدر بجميع الأطراف بذل المزيد من الجهود لإشراك تلك المجموعات المختلفة، فالسودان مستودع الجانب الأعظم من الأمن القومي المصري ويستحق ذلك فهو نطاق مصر الاستراتيجي ولن يجدي التعامل معه بتكتيكات قصيرة الأجل وعلى الرغم من أن السياسيين في البلدين يتحدثون عن أفق للحل السياسي إلا أن قضايا الخلافية بين البلدين تبقى عالقة وتخضع لحالة من الابتزاز السياسي.