- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الكوميديا السياسية بالعربية: انشقاق وخيانة، أو سبيل للانفتاح؟
عندما كان الظن أن «الربيع العربي» هو وعد بالتحول من السلطوية إلى أشكال ناهضة من سيادة المواطن، جاء باسم يوسف، هذا الطبيب المصري الشاب، ليشقّ لنفسه مساراً غير مسبوق في الإعلام الناطق بالعربية. ابتدأ على «يوتيوب» عام ٢٠١١، ثم انتقل إلى قنوات الإرسال الأرضية والفضائية، ليصبح «جون ستيوارت المصري» في إشارة إلى الوجه الفني الإعلامي الفكاهي البارز في الولايات المتحدة، وليمتهن التعليق الساخر على المستجدات السياسية. وقد تمكن باسم يوسف من الاستمرار ببرنامجه، بل تحقق له النجاح الجلي، خلال الولاية الرئاسية المرتبكة لمحمد مرسي، إلا أن صفحته طويت على وجه السرعة مع تولي عبد الفتاح السيسي موقع الرئاسة. وكان «البرنامج؟» الذي أعدّه وقدّمه تحولاً مفصلياً في إنتاج المادة الإعلامية واستهلاكها على مستوى المحيط العربي ككل، فتتالت المحاولات لمحاكاته في برامج مشابهة في أكثر من موقع، عبر صيغ مستلهمة من صيغته.
ليست تجربة باسم يوسف حالة شاذة تم استئصالها مع العودة المتمكنة للنظام السلطوي، بل هي وحسب سدّ قد رفع لتتدفق التطورات في عالم الإعلام الجديد ضمن المحيط العربي، ولتنتج أشكال جديدة من التعبير غير المقيّد، من الأصلح لكافة الحكومات في المنطقة السعي إلى احتضانها. فالفكاهة السياسية ليس تطفلاً طارئاً على المجال العام، بل هي مطلوبة ومرغوبة في أوساط الجيل الجديد في كافة دول المنطقة. وهي، في حال جرى التعاطي المتزن معها، من شأنها أن تشكل أرضية لتسهيل التفاعل بين الطبقة السياسية وعموم المجتمع، وصولاً إلى أن تحقق قدراً من الانفتاح في موضوع حرية التعبير. أما القمع والمنع والإنكار، وغيرها من الأساليب السلبية في التعاطي مع هذه الظاهرة الإعلامية، فهي بما يقارب التأكيد لن تخرج إلا بالنتائج العكسية.
أهمية هذه الظاهرة ومكانتها تتجلى في سياق التطور الذي شهدته الساحة الإعلامية العربية. التزمت النشرات الإخبارية المسائية في العالم العربي، وعلى مدى عقود طويلة بصيغة منتظمة كادت أن تكون مكفهرّة، قدّمت فيها الأنباء وفق تراتبية ثابتة. نشاط الحاكم ورد على رأس النشرة، ولا سيما لقاءاته مع نظرائه الدوليين. فجاءت النشرات ثرية بالمظاهر فقيرة بالمضمون. «استقبل السيد الرئيس، فخامة الرئيس، جلالة الملك، ضيفه الكبير وتباحثا بشأن القضايا التي تهمّ البلدين». كادت هذه العبارة وما شابهها أن تكون اللازمة اليومية في الفضاء العربي. ما تلاها كان نبذات إخبارية عن نشاط سائر المسؤولين تتمّم التغطية المحلية، قبل الانتقال إلى أخبار المنطقة، والتي حفلت عادة بالإدانة والاستهجان لأفعال خصوم الجوار. هنا، دون شك، لإسرائيل مقعد دائم، غير أن أشد التشنيعات السجالية كانت على الغالب من نصيب حكام عرب آخرين. أما الأخبار الدولية فغالباً ما انشغلت بالكوارث الطبيعية والحروب التي يعاني منها سائر العالم.
أما من طالب بأنباء أكثر عمقاً، فكان عليه تحصيلها وجمعها من مصادر إذاعية متفرقة. «هيئة الإذاعة البريطانية» كانت المقصد الأول على مدى العقود، فيما «إذاعة مونتي كارلو» نجحت بتقديم نفسها في حالات عدة على أنها البديل الحي المتطور للإعلام المعلّب والكاسد. وقد كان لـ «دار الإذاعة الإسرائيلية من أورشليم القدس» صدقية ومتابعة وصولاً إلى السبعينات، وتغطية ذات مضمون تعوّض عن ضحالة ما كانت تطرحه وسائل الإعلام الرسمية في الدول العربية، إلا أن إسرائيل في العقود التالية تخلت عن النجاح الذي حققته هذه الإذاعة في فترة التسعينات.
الانتقالة النوعية الأولى في الإعلام الموجّه للعموم في الوسط العربي حصلت عام ١٩٩٦، عندما قدمّت قناة الجزيرة الإخبارية، والتي تبث من العاصمة القطرية الدوحة، مجموعة من البرامج تشتمل على منحى جديد، يتضمن قراءات مختلفة لمجريات الأحداث، ويفسح المجال أمام النقاش للآراء المختلفة ويتيح للمشاهدين الاتصال والتفاعل. طبعاً، الجزيرة كانت انتقائية ومنحازة في تغطيتها، ونشطت للترويج للمواقف العقائدية التي كان يدعمها أمير قطر حينئذٍ، غير أن ذلك لا ينفي واقع أن الصيغة التي اعتمدتها هذه القناة، والتي تضع المادة الإعلامية تحت مجهري النقد والنقاش، سرعان ما أصبحت الصيغة المتوقعة في الجهود الإعلامية، ما ألزم الإعلام الرسمي على مدى المنطقة السعي إلى ابتكار البدائل المكافئة. وهنا برزت قناة العربية والتي تبث من الإمارات العربية المتحدة بتمويل سعودي كمنافس قوي للجزيرة، في تقديمها المضمون الجدي بإطار نقدي، مع السعي إلى إبعاد المشاهدين عن التوجهات التي انحازت إليها المحطة القطرية، باتجاه قراءة محافظة أقرب إلى الرؤية السعودية.
ما كشف عنه «الربيع العربي» هو أنه بالإضافة إلى التنافس والتزاحم في الإعلام المرئي الفضائي والأرضي، فإن وسائل التواصل الاجتماعي قد تطورت بدورها لتصبح المقصد الأول لجيل جديد من مستهلكي المادة الإعلامية ومنتجيها، والسمات الأولى لهذا الجيل هي تشكيكه بالإعلام الرسمي ومطالبته بالتمحيص النقدي. باسم يوسف هو أحد نتاجات هذا التطور، بانتقاله من وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية إلى الإعلام المرئي المستقر، معتمداً أسلوباً جديداً يتعامل بخفة شكلية وتهكم وسخرية، ولكن بوضوح نقدي، مع الأخبار والتي كانت إلى ذلك الحين موضوع صرامة وتجهم في كلتا المرحلتين السابقتين من التطور الإعلامي.
جرأة باسم يوسف المتواصلة كشفت النقاب عن المسعى الشمولي لسلطة الإخوان المسلمين في مصر بكامل فظاعاته وسخافاته، فأظهرته على أنه خطر جدي لا بد من اعتراضه حيناً كما أنه ترهات منقطعة عن الواقع والزمن لا بد من تبديدها أحياناً. أما السبق في عمل باسم يوسف فهو أنه أطلق أسلوباً جديداً مختلفاً بالعمق عن السبل المتوفرة لمواجهة المتسلطين بفعل القوة والساعين إلى التسلط باسم الدين. أسلوبه لا يفترض ضرورة التثقيف والتحليل والتفنيد، يل يعمل وحسب على الكشف، عبر الفكاهة، عن السخيف والمتناقض والمخادع في أقوال السياسيين وأفعالهم.
وفي الإطار الفكري السياسي المستتب في المحيط العربي، حيث السلطة تقوم على الهيبة، كان لأسلوب باسم يوسف الجديد وقع ثقيل مفاجئ على حكام مصر الجدد. تتوافر المعطيات المنقولة والتي تفيد أنه كان للتعليقات الثاقبة لباسم يوسف دور هام في تراجع التأييد للإخوان المسلمين، ما دفع منتقديه إلى اتهامه بأنه حصل على الدعم من المؤسسة العسكرية لتمييع الجمهور تحضيراً لانقلاب تموز ٢٠١٣. لم يقدم هؤلاء المنتقدون أي دليل يدعم هذه الاتهامات. ما هو واضح هو أن المؤسسة العسكرية أدركت قوة برنامج باسم يوسف وعملت على الانتهاء منه على وجه السرعة.
ومع ذلك، فقد استمر نموذج يوسف، حيث انه لا يمكن سحق الكوميديا كأداة بسهولة. وتبينت جدوى الفكاهة كفعل مقاومة على امتداد المنطقة. في ليبيا، تحدى برنامج «قوسطو» الخوف بالاستهزاء حين أعاد استعمال أناشيد «الدولة الإسلامية» بكلمات تهكمية. في لبنان اعتمد الصحافي القدير نديم قطيش السخرية كوسيلة لتفكيك مزاعم الإعلام الموالي لإيران، مقدماً للجمهور جرعات يومية للتصدي للحملة الدعائية الواسعة النطاق والتي تقترب من العمليات الخاصة النفسية، لهذا الإعلام الثري بالموارد. ومن المغرب إلى العراق، تنقلت الفكاهة السياسية بين المنصات المختلفة، من مسقط رأسها في محافل التواصل الاجتماعي إلى المؤسسات الإعلامية الخارجية الواسعة الانتشار. ولا بد للشريحة الحاكمة في المحيط العربي من الإقرار بأن برامج الفكاهة السياسية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الساحة الإعلامية، ولا تقل أهميتها عن القنوات القائمة مثل الجزيرة والعربية.
. عواقب المجريات في المملكة العربية السعودية مرتفعة جداً، ولا سيما لولي العهد الأمير محمد بن سلمان. فالمملكة بحاجة إلى أن تصان من مخاطر بنيوية وخارجية، والمهمة ضخمة وشائكة، ولا يبدو أن ثمة من يقدم تصور ذا مصداقية في هذا الشأن إلا محمد بن سلمان. غير أن سيره بهذا التصور يطفح بالتعثر والتناقضات، بما في ذلك الميل نحو الحكم المطلق، بما من شأنه التسبب له بالانتكاس. ثم أن الأمير الشاب على ما يبدو يطالب بالتأييد الصادح لكل خطوة يقدم عليها، بما في ذلك جموحه بجمع السلطات والثروات، تحت طائلة الحبس والتعزير بأقصى أشكاله. ولمحمد بن سلمان إمكانات فائقة وتحت تصرفه جهود واسعة لإبلاغ الجمهور ما يريده، ما قد يدفع للاقتناع بأنه بالفعل قد وضع يده على السردية المتداولة في بلاده.
وإذ بغانم الدوسري يدخل على الخط ويقدم برنامج ناجح حتى داخل المملكة، وقد أظهر غانم الدوسري مدى شعبيته عند حضوره مباراة ودية لكرة القدم أقامتها الهيذات الرياضية السعودية في العاصمة البريطانية لندن، إذ جاء وعبارة «قاهر آل سعود» على ثيابه. ولم يتعرض للأذى أو الرفض، بل كان التعامل معه على ما يبدو وكأنه من المشاهير وتسابق البعض لالتقاط الصور معه.
بعد ذلك بأيام اعترض شابان سعوديان مسار غانم الدوسري بالقرب من منزله وهدّداه واتهماه بالخيانة ثم أقدما على ضربه. وكان وقع الاعتداء إيجابياً في أوساط السعوديين الموالين للعائلة المالكة، ولكن غانم الدوسري عمد إلى استعمال الحادثة لصالحه إعلامياً. أنصاره سارعوا إلى اتهام الحكومة السعودية، مشيرين إلى أن الاعتداء يندرج في إطار سلسلة من حالات الاختفاء لمنشقين سعوديين، بما فيهم بعض أفراد العائلة المالكة، والذين نقلوا قسراً وفق هذا الزعم إلى المملكة. وتعمل كلا من السلطات البريطانية والسعودية على التحقيق بالحادثة.
لا يقدم غانم الدوسري على الإطلاق رؤية بديلة لمستقبل المملكة. فالحضور الذي حقّقه قد يكون وحسب عائداً إلى غياب المساحة للنقاش والاختلاف ضمن المنظومة السلطوية التي تتشكل من جديد في المنطقة في أعقاب حركات «الربيع العربي». والسعودية ليست حالة فريدة في هذا الشأن. وأسلوب غانم الدوسري المبتذل والأكثر عدائية، والذي يتخلى عن الدقة الفنية لباسم يوسف وعن الحدة التحليلية لنديم قطيش، قد يكون قد برز بالتحديد نتيجة إعادة الضبط والتنظيم للحالة الإعلامية لتنسجم مع متطلبات الحكم في مرحلة ما بعد الربيع العربي. فباسم يوسف ألزم الصمت، فيما نديم قطيش والذي انتقل تمويله إلى شبكة سعودية، والبديل المصري لباسم يوسف والممول قطرياً، يبدو كل منهما أكثر تحفظاً وأقل إحاطة بمختلف المواضيع التي يستعرضها.
ولكن الساحة الإعلامية الجديدة في المنطقة تتسم بدرجة عالية من اللامركزية. وضبط منفذ من منافذ النقد والانشقاق أو منع آخر من شأنه أن يجلب المزيد من التشدد في المضمون والمزيد من التوسع في الاستقطاب. علاوة على ذلك، قد يؤدي فرض الرقابة إلى تطرف وانتشار الرسائل التي تبث من قبل المعارضة وتضخيم رنينها بين جمهور يبحث عن بدائل للسردية التي تتبناها الدولة.
وعوضا عن ذلك، قد تدرك الطبقة السلطوية الحاكمة أن تخصيص بعض المساحات لحرية التعبير لا تتطلب بالضرورة الانتظار حتى يتحقق الحلم الديمقراطي بعيد المنال. بل بوسع النظم السلطوية والحكام الأقوياء التعايش مع الفكاهة السياسية. فتجربة باسم يوسف كانت مؤذية لحكام مصر آنئذٍ لأن حكام مصر هؤلاء اعتمدوا ما كان مؤذياً لمصر حينها. والمطروح على الطبقة السياسية الجديدة في المنطقة هو خيار بين نموذج باسم يوسف ونموذج غانم الدوسري، أي إما أن تكون الفكاهة السياسية ضحك من الداخل أو استهزاء من الخارج. وفي هذه المنطقة التي لا تتحمل الاستهزاء، قد يكون الضحك بالفعل هو الخيار المعقول.