- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المنهجية قبل العقيدة في معالجة التشدد - تعقيب على مقال شورش خاني حول مخيم الهول
دعوة شورش خاني لإيلاء المزيد من الاهتمام للوضع في مخيم الهول هامة ومقنعة. إذ يبدو أن أصحاب القرار في العواصم العالمية قد استكانوا إلى اندحار تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتراخوا بشأن مخلفات القضية في مخيم الهول. المطروح اليوم هو إشراك المحكمة الدولية، والتوقع هو أن جهوداً سوف تبذل في سبيل تليين التشدد الذي استقر في نزلاء المخيم. وإذا كان الهدف هو إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة، فيبدو أن التوجه هو إلى اعتبار أن الإنجاز قد تمّ. ولكن المسألة تتعدى تنظيم الدولة.
من بوكا في العراق، إلى باغرام في أفغانستان وصيدنايا في سوريا، تأكد دور معسكرات الاعتقال الجماعية كحواضن للتشدد والإرهاب. و «الخليفة» المزعوم السابق لتنظيم «الدولة الإسلامية»، أبو بكر البغدادي، والذي قتل في غارة أميركية في تشرين الأول الماضي، كان قد انخرط في شبكة الجهاد المتشدد في سجن بوكا حيث اعتقلته القوات الأميركية. وليس من المبالغة القول بأن «دولة الخلافة» قد جرت صياغتها في المعتقل. والعديد من قادة الفصائل الجهادية في سوريا هم من «خريجي» سجن صيدنايا السيء السمعة، بل تفيد التقارير أن نظام دمشق قد أفسح المجال أمام قيام شبكات المتشددين، بل ربما دفع بهذا الاتجاه، في سبيل الاستثمار في المراحل التالية.
ولا شك أن الموارد المناسبة ترصد لهذه السجون والمعتقلات لاحتواء المحاذير وتطويقها، بما في ذلك الجهود الاستخبارية الكفيلة بجمع المعلومات عن المساعي الإرهابية وإحباطها. على أن الدرس الأول المستفاد من هذه تجارب الحشد البشري هذه هي أن النتيجة الإيجابية المبتغاة، أي تعطيل الإرهابيين المتحققين والمحتملين، تقابلها نتيجة عرضية سلبية تستنزفها، وهي تعزيز التواصل والتشدد والاندفاع في صفوفهم.
وإذا ما جرت مقارنة حالة مخيم الهول بأحوال بوكا وباغرام وصيدنايا، فالواضح أنه للهول نقاط ضعف أكثر، ونقاط قوة أقل. فوحدات «قسد» المولجة بحراسة المخيم في شحة نسبية في العتاد والأدوات، ثم أنها محبطة ومستنزفة نتيجة ما تعتبره تخلياً من الولايات المتحدة عن دعمها إثر الانسحاب الأميركي المفاجئ العام الماضي. ومن جهة أخرى، فإن سكان المعتقل، وجلّهم من النساء والأطفال، أعدادهم مرتفعة وإمكانية الاستقصاء في أوساطهم محدودة والسيطرة عليهم صعبة.
وما يفاقم الوضع القائم، هو أن المعتقل يقع في ناحية يتعاطف العديد من أهلها مع المعتقلين، ويتعاملون مع قوات «قسد»، عند الحد الأدنى، بغيظ مكبوت. فيبدو من جوانب عدة وكأن مخيم الهول ليس معتقلاً بقدر ما هو أرض خاضعة للاحتلال، يعمد سكانها إلى «المقاومة» بأفعال رمزية (وأخرى مادية)، من رفع علم لتنظيم الدولة اختاطوه محلياً، إلى إطلاق الشتائم على دوريات قسد داخل المخيم. وقد كان لا بد من غضّ النظر عن «السوق السوداء» داخل المخيم لسد العوز في احتياجاته، غير أن ذلك ساهم في تمكين شبكات تهريب للبضائع والأشخاص، وغيرها من العمليات الخفية.
وإذا كان تنظيم الدولة قد تهاوى كبنية قيادة وسيطرة، وليس بموقع مد يد العون والدعم لسكان المخيم، فإن «نساء الدولة الإسلامية» داخل المخيم، بما يقدمن عليه من حسبة وفرض للحدود، يشهدن على القوة المستمرة للصيغة الجهادية المتشددة كمنهجية نقّالة.
فبالتوافق مع المقاربة التي اعتمدها وطبقها تنظيم الدولة في كافة الأراضي التي كانت خاضعة له، العقيدة محسومة، وليست موضوع بحث أو نقاش. استيعاب الأفراد يجري بالتالي من خلال التركيز على الطاعة العملية: الشعائر، الاستثمار بالأفعال عبر البذل والتكرار، والتوريط الاعتيادي. والحصيلة هي أن اندراج الفرد في الإطار الصارم يمسي تلقائياً ويتعزز ويتواصل بذاته. فـ «الدولة الإسلامية»، من حيث هي قيادة ومؤسسات قد زالت. أما من حيث هي منهجية، فهي حيّة ترزق في مخيم الهول.
واحتمال الاندحار، مع إمكانية العودة من خلال اعتماد التشدد والقطعية، أمر لحظه المنظرين الجهاديين. فالانبعاث المتجدد لـ «الدولة الإسلامية»، بلام العهد، شأن تتضاءل أهميته، في حال نجا النظام الديني الشمولي واستمر في وسط فرقة تتمسك به إلى حين قيام جديد للدولة الإسلامية، بلام الجنس. وعند اعتبار الأوضاع القائمة في مخيم الهول اليوم، يبدو من الصعب إيجاد ظروف أكثر ملاءمة لهذا المسار. أي أن الانتهاء من سيطرة دولة الخلافة المزعومة على الأراضي والولايات، وقصم ظهرها وقتل قادتها وإسقاط رايتها، ومطاردة من موّلها وتعامل معها، هي أوجه ضرورية ولكنها ليست كافية لاعتبار أن الانتصار قد تحقق إزاء الدولة الإسلامية.
بل هو تخلف عالمي عن أداء الواجب، عائد إلى قصر نظر دون عذر وإلى استرخاء وتفريط، أن تُلقى مسؤولية اعتراض القيام المتجدد للإرهاب على عاتق وحدات «قسد»، بما هي عليه من سوء تجهيز لا يعوّضه حسن نواياها. فمخيم الهول هو خطر داهم وواضح للاستقرار في الشمال الشرقي السوري، ولكنه أيضاً خزّان متجدد من البشر والصور للموجة القادمة من الجهاد العالمي الإرهابي. ويبدو أن الكلفة الفورية، مالياً وسياسياً، هي ما يعترض الإقدام على الحل المنطقي لهذه الحالة، أي تفكيك المخيم إلى المقومات التي تعكس مسؤوليات المعنيين المباشرين، بما في ذلك الدول التي جاء منها الجهاديون الأجانب وأسرهم. فعوضاً عن ذلك، يبدو بأن أصحاب القرار في العالم قد اكتفوا بالتلويح بدور لم تنضج تفاصيله بعد للعدالة الدولية.
الحاجة ماسة إلى إعادة موازنة فورية للترتيبات في المعتقل. وحدات «قسد» تستحق المزيد من الأدوات والتدريب والتمويل لإدارة مناسبة لمخيم الهول. على أن المخيم من حيث المبدأ يتطلب إعادة اعتبار تجعل منه معتقلاً مؤقتاً وحسب، إلى حين تبين الحلول الأفضل، بدلاً من أن يستمر بوضعه القائم، كأرض محتلة تواجه احتلالاً دائماً مرتبكاً.
المعضلة الحالية هي أن الحكمة السائدة تقتضي تحرير المعتقلين، أي النساء والأطفال، من قبضة التشدد قبل إخراجهم من المعتقل، في حين أن بقاءهم في المعتقل هو في واقع الأمر العقبة الأولى أمام تحقيق هذا التحرير الفكري. فالأصح، رغم التعارض الظاهر مع الحكمة السائدة، هو اعتبار التشدد الفكري فرع واشتقاق من التشدد السلوكي القائم داخل المخيم، وليس العكس. فإخراج العائلات من المخيم هو الخطوة الأولى لتوفير فرصة لهم للانعتاق من قبضة التشدد. وكلما طال بقاؤهم في المعتقل، كلما تضاءلت إمكانيات نجاحهم في التخلص من المنهج والعقيدة وما يليهما من إرهاب، وكلما زاد الخطر الذي على العالم ككل أن يواجهه.