- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المسؤولون العراقيون يتطلعون إلى طريق التنمية الصيني-العراقي
في ظل الوضع الهش والعلاقات المرتبكة في العراق، حاولت حكومة السوداني الالتفاف على الخيار الثنائي التقليدي بين واشنطن وموسكو. علاوة على ذلك، جاء هذا الطريق الجديد من خلال تسمية واضحة وبراقة عنوانه "مشروع طريق التنمية" والواصل على ما تشير الدلائل إلى بكين كونها الطريق الثالث للمستقبل.
لم يكن وصول السيد محمد شياع السوداني إلى رئاسة الوزراء في بغداد بالسلاسة المطلوبة للقوى القريبة من المحور الشرقي. ومع ذلك ، كانت هناك عدة عوامل ساهمت في وصول السوداني للمنصب تضمنت ، قرار السيد مقتدى الصدر بسحب كتلته من العملية السياسة، وشعور الجهات القريبة من إيران بضرورة تمرير رئيس وزراء مقبول نسبياً في المحفل الإقليمي والدولي، والتنافس الحاد بين الخليج وإيران، والخوف من استمرار تداعيات توتر العلاقة مع واشنطن التي سببتها أدارة ترامب، وهيمنة الجماعات المسلحة المتنوعة القريبة من محور طهران .
في ظل هذه الوضع الهش والعلاقات المرتبكة، حاولت حكومة السوداني الالتفاف على الخيار الثنائي التقليدي بين واشنطن والغرب ومعظم دول الخليج من جهة، وطهران ودمشق ولبنان ومن خلفهم موسكو من جهة أخرى. علاوة على ذلك، جاء هذا الطريق الجديد من خلال تسمية واضحة وبراقة عنوانه "مشروع طريق التنمية" والواصل على ما تشير الدلائل إلى بكين كونها الطريق الثالث للمستقبل.
جاءت إعادة التنظيم السياسي في العراق كردة فعل لتغير وجهات نظر العراقيين تجاه الولايات المتحدة والفضاء الجيوسياسي الأوسع، بما في ذلك الانسحاب الأمريكي الهزيل من أفغانستان والتغيرات السياسية في المنهجية السياسية الأمريكية بوصول بايدن، وفشل عملية إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وجمود الملف السوري، ودعم أردوغان الثابت لبوتين ،والهجمات الروسية المستمرة على أوكرانيا، وحركة الاقتصاد المرتبط بأسعار النفط والتضخم والاضطرابات المالية في أسعار العملة من القاهرة إلى طهران، وقضية الخوف من العقوبات الاقتصادية الصارمة. وبالنهاية والأهم تزايد الصعود الاقتصادي الصيني.
دوافع تسريع الانكباب العراقي تجاه الصين
لم يتمكن العراق منذ الاحتلال الأمريكي له وسقوط نظام صدام في عام 2003 من الخروج من دوامة التناطح الأمريكي والخليجي في وجه طهران وحلفائها، حيث تسببت حالة التنافس الثنائية هذه في أنهاك قواه داخلياً وجعلته ساحة لتصفية الحسابات، ودفع العراقيون ثمناً باهظاً جراء هذا الوضع.
لذا، ومع حدوث تطورات واضحة في السياسات الدولية في ساحة الشرق الأوسط دفع المسؤولون العراقيين في بغداد إلى النظر من نافذة جديدة قد تقلق واشنطن على الأكثر. ويرى هؤلاء المسؤولون، أن الدور المتنامي للصين في المنطقة ما زال غير مثقل بالعديد من القضايا التي يعلقونها على الجهات الفاعلة الأخرى، حيث تجنبت الصين الانخراط المباشر في التنافس مع الولايات المتحدة علي المنطقة. لكن، التطورات الإقليمية بدأت تُشير إلى أن الانكماش الأمريكي الدولي والعجز الروسي لقيادة القسم المضاد لأمريكا من العالم، يُمهد الطريق لبكين لشقّ طريقها السياسي إلى تلك المنطقة.
كانت الصين ولازالت لاعب اقتصادي بارز في تلك البقعة من خلال التبادل التجاري الكبير لها مع الشرق الأوسط، وتدفق البضائع، وأسواق الطاقة الجذابة، وحركة الشركات الوسيطة والواجهات المالية، ومشاريع البناء الواعدة وأسواق الاكتتاب والخدمات المصرفية. الآن، بدأ هذا الدور يتخذ شكلاً سياسيًا أيضًا حيث وجدت بكين نفسها تلعب دورا في الملفات السياسية لتلك المنطقة التي كان يُنظر إليها على كونها ساحة لا بد أن تظل تحت الغطاء الأمريكي.
وبالمثل، ينجذب المسؤولون العراقيون في بغداد إلى السياسة الصينية التي يطرحها الدبلوماسيون الصينيون، ويعتقدون أن الصين غير مكترثة بنمط الحكم في بلدان العالم الثالث، ولا تتدخل في الصراعات الإقليمية بصورة مباشرة، وتتفادي التماس مع الملفات الحساسة في المنطقة كملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وغالبا ما يقوم المراقبون بإجراء مقارنة بين التراجع الواضح في الاهتمام الأمريكي بالمنطقة، والصعود الصيني المتسارع في الاقتصاد.
علاوة على ذلك، دفع التغيير في الإدارة في واشنطن المسؤولين العراقيين إلى توخى الحذر خاصة بعد أن أدركوا أنه لا يمكن الاستكانة لاتفاقيات ومعاهدات مع واشنطن التي قد تنتهي بتبدل الإدارة الامريكية. كذلك، تدرك بغداد التي كانت لها علاقات طويلة وحميمة مع موسكو في الفترة التي سبقت سقوط صدام حسين أن روسيا لا يمكنها أن تملئ الفراغ الأمريكي أن حدث.
لذا، كان الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران العدوان اللدودان بالمنطقة وبرعاية بكين بمثابة ورقة إعلان سياسي عن الظهور الصيني في المحفل الشرق الأوسطي. العراق الذي كان له دور في تلك المفاوضات كان يشاهد باستغراب كيف أن واشنطن كانت تراقب الاتفاق وهو يحدث دون أن تحرك ساكناً. كذلك كان يشاهد العراق كيف تتراكض القوى الخليجية والإقليمية المحسوبة على واشنطن لتقديم طلبات للانضمام لتكتل "بريكس" BRICS الذي ينظر إليه الكثيرون في العالم الثالث على أنه البديل الممكن للقيادة الغربية الحالية للعالم. كما كانت الاتفاقية الصينية الإيرانية الطويلة الأمد مثال آخر على تمدد بكين ووصوله للحدود العراقية.
في هذا السياق، دفع التراجع الملحوظ في ردود أفعال الولايات المتحدة على تلك التطورات السوداني وفريقه لاقتراح مشروع طريق التنمية، وهو مشروع يعتبره البعض أنه امتداد لمشاريع الصين المتمثلة بـ"الحزام والطريق"، وكانت تلك الخطوة بمثابة إعلان عراقي لفتح البلاد سياسياً للصين. يذكر أن الشركات الصينية لديها استثمارات بمليارات الدولارات في العراق وان حجم التبادل التجاري بين البلدين "تجاوز 53 مليار دولار أمريكي سنة 2022 " بحسب بيان السفارة الصينية في بغداد، ولكن الدور الصيني السياسي المستقبلي تعزز بإعلان المشروع حصراً.
طريق التنمية وإشكاليات المشروع
وضع العديد من المسؤولين العراقيين آمالهم على مشروع طريق التنمية كمقدمة لعلاقة جديدة مع بكين. يتكون المشروع من عناصر مشابهة للمشاريع الصينية في عدد من دول وسط آسيا حيث يتألف من حركة تجارية افتراضية مُرتبطة بتطوير الموانئ وشبكة طرق سريعة تمتد من الخليج إلى مدخل تركيا من جهة زاخو. كذلك يتضمن المشروع عناصر أساسية مشابهة للمشاريع الصينية كخطوط السكك الحديدة الطويلة التي تستخدم لنقل البضائع والأشخاص.
وبحسب مصادر عراقية لبعض وسائل الإعلام، تشمل خطة المشروع "بناء 15 محطة قطار للبضائع والركاب على طول الخط وستكون طول سكة الحديد 1174 كيلومترا مارة ب 12 محافظة عراقية". وفوق ذلك، صرح السفير الصيني لدى العراق، تسوي وي، في حزيران/ يونيو الماضي بإن "مشروع التنمية الاستراتيجي العراقي، هو "مكمّلاً" لمشروع الحزام والطريق الصيني. وهذا وإن كان في شيء منه لغة عمومية، ولكنه مؤشر على حقيقة الرؤية الصينية تجاه المشروع الذي لا يبدو أن الواقع العراقي الحالي سيستطيع تنفيذه حيث أن القدرة العراقية للوصول إلى إنجاح المشروع لا تدعوا للتفاؤل.
وفى حقيقة الأمر، يحتاج المسؤولين العراقيين إلى مواجهة حقيقة مفادها أن البلاد ليس لديها القدرة على الالتزام بتنفيذ خطط هذا المشروع الضخم الذي يصل تكلفته المعلنة لـ 17 مليار دولار، حيث البنية التحتية منهارة، والخدمات الأساسية ضعيفة، والهشاشة الأمنية لازالت تلقي بظلالها على البلاد. كما أن الميزانية هي ميزانية ريعية غير مستقرة ومرتبطة بسعر النفط، ما يشكل وضع اقتصادي غير مستدام لدولة تأمل في الاستثمار في مشاريع الأعمال الكبرى. وهناك ملامح واضحة لتراجع قيمة الدينار العراق أمام الدولار وتراجع متسارع في مستوى دخل الفرد. كذلك هناك ارتياب لدى إقليم كردستان من مسارات المشروع والتي تتفادى المرور بالإقليم بهدف تحجيم دوره الاقتصادي بشكل متعمد "تحت حجة صعوبة الجغرافية الجبلية هناك."
وعلى الرغم من أن المشروع نفسه كان ينبأ بنمو اقتصادي حقيقي للعراق (وهذا أيضاً مدعاة للشك)، إلا أنه قد يدفع الدول التي تستفيد من واقع العراق الحالي لمعارضة تنفيذه، وللمفارقة قد تكون ايران أحد هذه الدول المعارضة، خاصة اذا تحسست الخطر على نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق.
وبصرف النظر عن جدوى خطة المشروع، ينبغي النظر إليه كونه مؤشر على الانكباب العراقي تجاه الحضن الصيني. ومع ذلك، ينبغي على المسؤولين العراقيين أن يكونوا أكثر حذراً – والا يكونوا واثقين أن المشاركة الصينية ستحقق الأهداف المنشودة التي وضعوها، حيث تؤكد الاحتجاجات التي اندلعت في دول آسيا الوسطى ضد مشاريع مبادرة الحزام والطريق القديمة على المخاطر التي قد يحملها مشروع التنمية الصيني- وهو ما يتجاهله المسؤولون العراقيون حاليًا.
علاوة على ذلك، يجب أن يدفع الحماس الذى تبديه بغداد حاليا تجاه زيادة المشاركة الصينية، الإدارة الأمريكية إلى التوقف قليلا، فإذا كانت واشنطن تأمل في إحباط هذه الخطوة، يجب عليها بذل المزيد من الجهود لإعادة بناء الثقة مع حلفائها التاريخيين في المنطقة ومعالجة فكرة التخلي الأمريكي. وإذا استمر هذا التصور السلبى، ستساهم الحكومات في العراق، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في تسهيل الوصول الصيني بشكل متزايد لمراكز صنع القرار السياسي في تلك المنطقة الجغرافية الهامة.