- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المعونة مقابل الأمن: الدينامية الخليجية المصرية لدعم الاقتصاد في مصر
في ظل التهديدات الوجودية الحالية التي تواجهها دول الخليج بما في ذلك التداعيات الناتجة عن الربيع العربي وشعاراته الديمقراطية، وتهديد جماعة الإخوان المسلمين، واحتمال تفكك الجيش المصري، استمرت دول الخليج في دعم الاقتصاد المصري المتدهور من خلال تقديم المساعدة الاقتصادية والمالية للإبقاء على النظام المصري الحالي الذي يعتبرونه الضامن الوحيد للاستقرار الإقليمي.
نظرًا إلى أن نصف سكان مصر يعيشون على خط الفقر الذي حدده "البنك الدولي" أو تحته، وباعتبارها واحدة من أعلى الدول مديونية في الشرق الأوسط، تعرضت البلاد سريعًا لخطر التداعيات المحتملة الخطيرة الناجمة عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وخلّف النزاع تأثيرًا كبيرًا على الأمن الغذائي المصري، إذ يمثّل القمح الروسي والأوكراني 80 في المئة من واردات القمح في مصر. أما ارتفاع تكاليف الاستيراد، وتراجع قطاع السياحة، وازدياد أسعار الطاقة، وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية، وارتفاع معدل التضخم (8.8 في المئة)، فكلها عوامل تنبئ بوقوع كارثة في الاقتصاد المصري. وحتى تتمكن مصر من الصمود في وجه هذه السلسلة من التحديات وإنعاش اقتصادها المتباطئ، سارعت إلى طلب المساعدة الاقتصادية من دول الخليج.
تلقت مصر كاستجابة لمحنتها حزم المساعدات من مصادر متعددة. إلا أن الاستجابة السريعة التي تلقتها من دول الخليج تخطت بأشواط الهبات الأخرى، إذ استجابت هذه الدول لطلب مصر من خلال التعهد بمبلغ 22 مليار دولار لمساعدة مصر على تجنب الأزمة الاقتصادية. فتعهدت المملكة العربية السعودية بتقديم 15 مليار دولار، وأُودِع مبلغ 5 مليارات دولار منها في "البنك المركزي المصري"، فيما تم تخصيص 10 مليارات دولار للاستثمارات في قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والزراعة والشؤون المالية في مصر. وأبرمت أيضًا شركة "القابضة" (ADQ)، أي صندوق الثروة في أبو ظبي، صفقة بقيمة مليارَيْ دولار لشراء حصص تملكها الدولة المصرية في شركات مسجلة كشركات عامة.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تقف فيها دول الخليج إلى جانب السيسي في وقت الأزمة. ففي عام 2013، أرسلت الكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، في إشارة إلى تأييدها الإطاحة بالرئيس التابع لجماعة "الإخوان المسلمين" محمد مرسي، 23 مليار دولار من الهبات والودائع النقدية وشحنات الوقود في الأشهر الثمانية عشر التي تلت الانقلاب العسكري. وعلاوةً على ذلك، عندما خفّضت مصر قيمة الجنيه المصري بنسبة 50 في المئة في عام 2016، أودعت المملكة العربية السعودية حوالي 3 مليارات دولار وأودعت الإمارات حوالي مليار دولار في "البنك المركزي المصري". ومع ذلك، لا توجد بيانات دقيقة وموحدة تحدد حجم المساعدات التي حصلت عليها مصر من دول الخليج، ولكن جريدة "القبس" الكويتية نقلت عن مصادر في "البنك المركزي المصري" (في آذار/مارس 2019) أن الدعم الذي تلقته القاهرة من دول "مجلس التعاون الخليجي" وصل إلى 92 مليار دولار منذ عام 2011. ومع إضافة مبلغ بقيمة 22 مليار دولار تعهدت به دول الخليج لمصر في نيسان/أبريل 2022، بلغ حجم المساعدات الخليجية لمصر نحو 114 مليار دولار.
يأتي هذا الدعم من إدراك دول الخليج للأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها القاهرة، حيث حافظت مصر ودول الخليج على روابط سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متينة على مدى سنوات، ولكن فهم رغبة الخليج في دعم الاقتصاد المصري مرارًا وتكرارًا يستند إلى المخاوف المستمرة من الظلال التي ما زال يلقيها الربيع العربي، والرغبة الحالية في مواصلة الضغط على جماعة "الإخوان المسلمين" التي أصبحت ضعيفة بشكل ملحوظ، والرغبة في تعزيز الجيش المصري الذي يشكل الضامن الرئيسي للاستقرار والأمن الإقليميين.
شكلت الطرق التي غير فيها الربيع العربي المشهد السياسي في الدول العربية تهديدًا وجوديًا لدول الخليج. وتردد صدى الدعوات التي وجهتها الثورات من أجل تحقيق الديمقراطية وتنفيذ الإصلاحات السياسية في دول "مجلس التعاون الخليجي" بعدة طرق، تراوحت من تنظيم المظاهرات العامة إلى المطالبة بالإصلاح. ونظرًا إلى إدراك دول الخليج أن البطالة والتضخم كانا المحركين الرئيسيين للربيع العربي، شرع بعضها في تنفيذ إصلاحات اقتصادية داخلية ودعم الرعاية الاجتماعية.
سعى الربيع العربي إلى إنشاء نظام جديد من شأنه أن يستبدل الأنظمة الاستبدادية القديمة في المنطقة بأنظمة ديمقراطية حقيقية تعمل لصالح الشعب. وأصبحت الطرق التي تطورت بها هذه الحركة في مصر تطرح تهديدًا خاصًا. ومع أن المملكة العربية السعودية شكلت ملاذًا آمنًا لجماعة "الإخوان المسلمين" في خلال عهدَيْ عبد الناصر والسادات، انتهت فترة شهر العسل بين المملكة و"الإخوان" بعد تنفيذ الهجمات الإرهابية في 11 أيلول/سبتمبر.
رأت الرياض أن وصول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر يشكل تهديدًا للأمن القومي في المملكة السعودية ويهدد دورها الديني وشرعيتها السياسية، وقد يؤدي إلى تصدير خطابهم الثوري إلى أرجاء المنطقة. وأصبح السيسي بالنسبة إلى السعودية وشركائها في دول "مجلس التعاون الخليجي"، باستثناء دولة قطر، الشخص الوحيد القادر على مواجهة "الإخوان المسلمين" في مصر. وتتعاطى هذه الدول السيسي كعنصر محافظ وليس كثوري يهدد أنظمتها المحافظة. وفي الوقت الحالي، تعتبر معظم دول الخليج، باستثناء قطر أيضًا، "الإخوان المسلمين" وخطابهم الثوري تهديدًا وجوديًا لحكمهاـ فبعدا لتقارب الحالي بين مصر وقطر، تراجعت مصر عن مطالبة قطر باتباع سياسة صارمة تجاه "الإخوان المسلمين" كما فعلت مع تركيا التي أرغمت وسائل الإعلام التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين" والتي تبث من تركيا إما على الامتناع عن انتقاد النظام المصري وإما على وقف عملها في تركيا. ويعكس ذلك نية مصر في التخلي عن مطلبها السياسي الموجه إلى قطر مقابل تلقي المساعدات الاقتصادية.
يساعد أيضًا سجل السيسي العسكري في جذب دول الخليج إليه. فكان الأمن الإقليمي وأمن الخليج من الدوافع الرئيسية التي أدت إلى تدفق المساعدات باستمرار من "مجلس التعاون الخليجي" إلى مصر. وفي ظل تنامي التهديد الإقليمي الإيراني، لا تريد المملكة العربية السعودية ودول "مجلس التعاون الخليجي" أن تنهار مصر تحت الضغوط الاقتصادية. وبالإضافة إلى ذلك، في حين أن الجيش المصري هو أكبر جيش عربي اليوم، تخشى دول "مجلس التعاون الخليجي" أن يتسبب عدم الاستقرار في البلاد بانهياره وينتهي به الحال كما انتهى بالجيشين العراقي والسوري.
وعلى وجه الخصوص، تهدف دول الخليج إلى تحقيق ودعم الاستقرار السياسي والعسكري في مصر من خلال دعم الاقتصاد المصري المتراجع. وفي هذا السياق، أكد البيان الختامي الصادر عن "القمة الخليجية الثانية والأربعين" المنعقدة في الرياض أن "أمن مصر جزء لا يتجزأ من أمن الخليج"، وأشاد بالجهود المصرية في "تعزيز الأمن القومي العربي والسلام في المنطقة". وأعرب ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، في خلال اللقاء الثنائي الدوري في كانون الثاني/يناير 2022، عن تقديره لدور مصر في عهد الرئيس السيسي في حماية الأمن القومي العربي والدفاع عن الدول العربية. وفي السياق نفسه، شدد السيسي على أهمية أمن الخليج بالنسبة إلى مصر، ووصفه في مناسبات عدة بأنه يشكل "خطًا أحمر" بالنسبة إليها.
يستمر عمليًا التعاون العسكري القوي بين مصر ودول "مجلس التعاون الخليجي"، لا سيما من خلال المناورات العسكرية المشتركة والمتكررة بين مصر والمملكة العربية السعودية (تبوك-1 في عام 2022) وبين مصر والإمارات (زايد-3 في عام 2021). وكان السيسي قد دعا في الواقع إلى تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة في خلال الدورة العادية لـ"مؤتمر القمة العربية" في 26 آذار/مارس 2015، ولكن هذا الاقتراح يواجه عدة تحديات إقليمية ودولية ولم يتحقق قط. ومع ذلك، يعود التعاون العسكري بين مصر ودول الخليج بالمنفعة على الطرفين، فيما تتم مقايضة المساعدات الاقتصادية بالصفقات الأمنية.
وفي هذا الصدد، يتساءل المراقبون عما إذا كانت مصر ستفقد موقعها الريادي في المنطقة لصالح المملكة العربية السعودية، وعما إذا كانت مساعدات "مجلس التعاون الخليجي" قد وفرت شريان الحياة الأساسي للاقتصاد المصري. ويعتقد بعض المراقبين أن بعد الربيع العربي، اضطلعت السعودية بدور إقليمي مهم من خلال تدخلها في القضايا الإقليمية الشائكة باستخدام قدراتها السياسية والمالية، فيما كانت مصر منشغلة بالمشاكل السياسية والاقتصادية. ومن ناحية أخرى، يرى آخرون أن مصر لن تخضع لوصاية السعودية بسبب الثقل التاريخي والسياسي الذي تتمتع به القاهرة. ومع أن المساعدات الاقتصادية القادمة من الخليج عادت بفائدة كبيرة على مصر، لا سيما عندما كانت مصر على شفير الاضطرابات، اعتقد البعض، على الرغم من المساعدات الكبيرة التي تلقتها مصر من الخليج في السنوات القليلة الماضية، إلا أن أن الدولة ما زالت تواجه عدة مصاعب اقتصادية ومالية. ويثير ذلك في الحقيقة بعض التساؤلات حول جدوى المساعدات الخليجية المقدَّمة لمصر وتأثيرها.
مع ذلك، ما لم تنجزه خطة الإنقاذ الخليجية هو تطوير نظام اقتصادي مستدام في مصر يمكن أن يدعم البلاد على المدى الطويل. هناك بعض الإجراءات والمقترحات المتعلقة بالسياسة الاقتصادية المحلية والتي يمكن أن تحقق منافع فعلية للشعب المصري في حال تنفيذها. في هذا الصدد، تحتاج القاهرة إلى إعادة تشكيل سياستها الاقتصادية من أجل تحسين مستويات معيشة المواطنين وتجنب انزلاق البلاد أكثر فأكثر في مستنقع الديون. ولا بد من إنهاء المشاريع الضخمة التي استهلكت مليارات الجنيهات من دون تحقيق منافع ملموسة على المدى القصير، وخاصةً في خلال فترة التقشف هذه، ويجب توجيه الاستثمارات الحكومية إلى المشاريع الصناعية والسياحية التي توفر فرص العمل وتوفر العملات الأجنبية. وعلاوةً على ذلك، تواجه مصر صعوبات متعددة تقف عائقًا أمام الاستثمار الأجنبي، وتشمل البيروقراطية المعقدة، والنقص في العمالة الماهرة، ومحدودية الوصول إلى الائتمان، والإجراءات الجمركية البطيئة، ومشاكل الملكية الفكرية، والفساد. لذلك، من أجل جذب الاستثمار الأجنبي، يجب أن تعمل الحكومة المصرية على تذليل هذه العقبات، وأن تمتنع أيضًا عن مضايقة رجال الأعمال المحليين، وأن توفر بيئة استثمارية ملائمة وأنظمةً تطمئن المستثمرين الأجانب.
إن اتباع هذه السياسات المحلية التي يمكن أن تساعد في تعزيز الاقتصاد من شأنه أن يساعد مصر على تخفيف اعتمادها على المساعدات الخليجية والأجنبية. وفي حين شكلت هذه الأموال لغاية الآن بمثابة شريان حياة، لا يُعَدّ الاعتماد على عمليات الإنقاذ الأجنبية في المستقبل المجهول أمرًا ينمّ عن الحكمة. ومن المهم تذكُّر أن هذه المساعدة تُقدَّم بفضل حسن نية الآخرين، ويمكن أن تتوقف في أي لحظة بسبب الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة. وعلاوةً على ذلك، يمكن للشراكة الاستراتيجية الثلاثية التي تم توقيعها مؤخرًا بين الأردن ومصر والإمارات، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات الدول الثلاث في عدة قطاعات مثل الغذاء والطاقة والإنتاج الصناعي والصحة والأمن القومي، أن تساعد مصر على إنعاش اقتصادها وتحسين مهارات العمالة وإلقاء نظرة عامة على قوانين الاستثمار الحالية المعطلة.