- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"الناتو" الشرق أوسطي يبدو ضرورة، ولكنه غير ممكن بعد
في حين يبدو التحالف العسكري المدعوم من قبل الولايات المتحدة طبيعيا وضروريا ومبررا، إلا أن المسار نحو إنشاء "الناتو" الشرق أوسطي ما زال متعثراً نتيجة الخلافات الإقليمية.
من بين أهم الأهداف الرئيسية التي يجري الحديث عنها بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط خلال الفترة ما بين 13-16 تموز/ يوليو الحالي، هو بحث مسألة تشكيل تحالف يضم دول الخليج العربية الست (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان ودولة قطر ومملكة البحرين ودولة الكويت) بالإضافة إلى مصر، والأردن، والعراق. وما أعطى هذا الأمر زخماً إعلامياً كبيراً خلال الأيام الماضية، حديث العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، في مقابلة مع CNBCعن دعمه لنسخة شرق أوسطية من حلف شمال الأطلسي.
في حين لم يتحقق أي شيء ملموس على الأرض حتى الآن، إلا أن لمناقشة المتجددة بشأن هذا الاقتراح تثير العديد من الأسئلة الرئيسية: فما هي المعطيات أو المستجدات التي تفرض تشكيل مثل هذا التحالف؟ ومن هي الدول المرشحة لعضويته؟ وهل يمكن بالفعل إنشاؤه أصلاً في ظل حالة الضبابية التي لا زالت تميز العلاقات الإقليمية، رغم الانفتاح الذي حصل بعد حل الأزمة الخليجية، والتقارب التركي مع السعودية والإمارات، فضلاً عن الحوار الجاري بين الرياض وطهران عبر بغداد، والذي من شأن نجاحه أن يقوض الهدف الأساس أو الحجة المنطقية التي تستوجب في المقام الأول تشكل التحالف الجديد.
الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يجري الحديث فيها عن إنشاء حلف عسكري في المنطقة، فقد كان هناك-على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية-دعوتين في هذا الإطار: أولهما، خطة جامعة الدول العربية لعام 2015 لإنشاء قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب؛ وثانيهما، اقتراح السعودية عام 2017 إنشاء تحالف أمني للشرق الأوسط، أطلق عليه حينها (الناتو العربي)، والذي حصل على دعم كامل من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ولكن أياً من هذه الخطط أو الدعوات لم ير النور، لأسباب كثيرة من بينها زيادة الصراعات المسلحة في بعض دول المنطقة (كما في سوريا، وليبيا، واليمن)، والخلافات السياسية بين دول المنطقة، والتي من أسبابها أيضا تباين مواقف الدول الإقليمية من تلك الصراعات، والتي نتج عنها محاور متنافسة، كل منها يدعم طرفاً من أطراف الصراع. هذا فضلاً بالطبع عن الخلافات السياسية حول العديد من الملفات الأخرى داخل المنطقة وحتى خارجها.
ولا شك بالطبع أن الظروف تغيرت كثيراً منذ ذلك الوقت، حيث استجدت معطيات جديدة وحدثت تطورات مهمة، سيتم تناولها بالتفصيل في هذا المقال.
لا يزال الخطر/التهديد المستمر الذي تمثله إيران موضوعا متطوراً في المنطقة. ولا يتعلق هذا الخطر فقط بسلوك إيران الإقليمي، حيث لا يوجد حتى الآن بوادر تغيير واضحة، ولكن أيضاً يتعلق بإمكانية امتلاكها القدرة على صنع الأسلحة النووية، لا سيما إذا فشلت المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في التوصل لاتفاق في وقت قريب، حيث قامت طهران ببناء مخزون كبير من اليورانيوم المخصب وتواصل نصب أجهزة طرد مركزي متطورة. وترى إدارة بايدن أنه يمكن تخفيف حدة التهديد من خلال إحياء الاتفاق النووي. لكن مع كل ذلك، إن التوصل لاتفاق أيضاً قد لا يحل ما يمكن تسميته المشكلة الإيرانية. فالاتفاق النووي من شأنه أن يرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران، مما قد يمكّنها من ضخ مئات المليارات من الدولارات في بناء ليس فقط قواتها التقليدية وصواريخها البالستية، ولكن أيضاً شبكاتها من الميليشيات والجماعات المسلحة في مختلف أنحاء المنطقة. ولا نستطيع أن نتجاهل أيضاً أن من بين الدول العربية من هو بالفعل تابع لإيران بشكل أو بآخر، مثل سوريا ولبنان، بينما لا يبدو العراق حتى الآن قادر على السير في الاتجاه المعاكس لطهران. ولهذا يمكننا أن نتفهم جيداً تحذير الملك عبدالله المستمر من تنامي نفوذ إيران في المنطقة، وهي القضية التي أكد عليها بشكل واضح أيضاً خلال زيارته الثانية في أيار/ مايو الماضي لواشنطن، حيث تحدث عن خطورة أن تملأ إيران الفراغ الذي خلفته روسيا في سوريا بسبب حربها في أوكرانيا، لا سيما أيضاً في ظل انشغال أمريكا نفسها بذلك الصراع.
هناك أيضا تطبيع في العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية في إطار اتفاقات أبراهام، وبروز مؤشرات على ترتيبات مماثلة مع دول أخرى مهمة قد يكون من بينها السعودية، ما يعني أن إسرائيل قد تكون جزءًا من أي تحالف جديد. علاوة على ذلك، أكتسب انتهاء أو تلاشي سياسة المحاور بعد الانفراج الذي حصل في العلاقات بين الدول الإقليمية، لا سيما بين قطر وتركيا من جهة، وبعض دول الخليج العربية الأخرى وتحديداً السعودية والإمارات والبحرين، بالإضافة إلى مصر، من جهة أخرى، زخماً كبيراً، وأنعكس بدوره على الأزمات الإقليمية التي خلفها ما سمي بالربيع العربي، والتي شهدت هدوء أو تهدئة في السنوات الأخيرة.
علاوة على ذلك، برزت الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الخاصة بمجال الطاقة. فسعي أوروبا للتخلي عن الاعتماد على روسيا سيدفعها بالتأكيد إلى البحث عن البدائل الأكثر قرباً، وهي هنا دول أفريقيا والشرق الأوسط. وهذا ما يتطلب بالطبع بناء شبكة أنابيب للنقل، وتعاون في عمليات التنقيب في شرق المتوسط، ما قد يستوجب أيضاً إيجاد إطاراً جديداً لتعاون إقليمي أكبر يضم كل دول المنطقة بما فيها إسرائيل، وربما إيران، ولكن في إطار مختلف.
وأخيرا، هناك قلقل إقليمي واضح من احتمال انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، لا سيما في ظل التركيز على منطقة الاندوباسفيك لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد، والانشغال الآن بالحرب الروسية في أوكرانيا، ما يستدعي بالفعل التفكير جدياً بترتيبات أمنية إقليمية لتحقيق التوزان وضمان الأمن والاستقرار في حالة غياب الولايات المتحدة.
في ظل كل هذه التطورات والمستجدات، يبدو الحديث عن تشكيل حلف عسكري إقليمي بدعم أو مشاركة أمريكية أمر طبيعي وضرورة، وله ما يبرره. ولكن مع كل ذلك، هناك بالمقابل معطيات مهمة جداً قد تحول دون قيام هذا التحالف، على الأقل حالياً أو في المدى القريب. فرغم أهمية مثل هذا الحلف، بل وحاجة المنطقة ومنطقية الحجة الداعية إليه، خاصة في ظل التهديدات المشتركة المتنامية، فإن إنشاء حلف عسكري رسمي في إطار التزامات تعاقدية، على غرار الناتو-كما يُروج له-، أمر أقرب إلى التصور منه إلى الواقع، في ظل غياب إجابات واضحة لعدد من الأسئلة الحاسمة، ووجود عدد من الحقائق السياسية والعسكرية في المنطقة:
أولاً، هناك العديد من الأسئلة التي طرحت في المحاولات السابقة، ولا زالت قائمة دون إجابة، سواء فيما يتعلق بالدول الأعضاء المتوقع أن تُؤسس أو تَنظم لهذا الحلف. فمثلاً، هل ستكون إسرائيل، التي أصبحت عاملاً مستجداً في معادلة أي أحلاف إقليمية على عكس ما كان عليه الأمر سابقاً، إحدى هذه الدول؟ وكيف، ولا زالت هناك دول لا تقييم أي علاقات رسمية مع تل أبيب؟
ثانياً، لا زال السؤال الأساسي والذي يشكل عادة دافعُ، بل ومحركُ أي تحالف، والذي يتمحور حول الهدف أو بمعنى أكثر دقة "العدو المستهدف"، ليس محدداً أو على الأقل لا يوجد هناك لغة مشتركة بشأنه بين الدول التي قِيل إنها ستشكل التحالف. في حالة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإن المستهدف بشكل رئيسي-على الأقل الآن-هو روسيا، بينما يَستهدف تحالفي كواد وأوكوس-رغم أنهما مختلفان من حيث الشكل والجوهر-الصين. فمن هو المستهدف من التحالف الجديد؟ طبعاً لم تذكر أياً من دول المنطقة-باستثناء إسرائيل-من هو المستهدف. ولكن المسؤولين الأمريكيون بمن فيهم الرئيس بايدن نفسه، لم يترددوا في الحديث عن إيران. فهل بالفعل يمكن تشكيل تحالف من هذه الدول التي لبعضها علاقات جيدة مع طهران ولديها تصورات متباينة بشأن التهديد الذي تشكله؟!
صحيح أن معظم دول المنطقة (عموماً) إن لم يكن كلها، تتفق على أن إيران تمثل مشكلة بالفعل، وذلك بالنظر إلى سلوكها الذي ألحق الأذى بالعديد من دول المنطقة وتسبب في حالة عدم الاستقرار الإقليمي، ولكنها في الواقع تتباين كثيراً فيما يتعلق بحجم أو مدى أو حتى طبيعة التهديد الذي تشكله طهران. ورغم الاتفاق على الكثير من الهواجس التي تثيرها سياسات إيران الإقليمية، فلا يوجد هناك أيضاً توافق بين هذه الدول حول طريقة التعامل معها بسبب التباين بين الدول العربية (بالعموم) من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى بشأن النهج الذي يجب أن يُتبع مع إيران، واستراتيجيات التعامل معها. وهذا بالطبع يُربك أو قد يقوض أي آمال فيما يتعلق بالمهمة التي يجب أن تكون "واضحة للغاية" كما تحدث العاهل الأردني. وهناك، أيضاً، وربما هذا أخطر، تباين بين الدول العربية نفسها بشأن إيران، حيث تعدها بعض هذه الدول جارة ويمكن التعامل معها بالحوار ودون صدام، مثل سلطنة عُمان وقطر وإلى حد ما الكويت، من داخل دول مجلس التعاون الخليجي، والعراق (والتوابع سوريا ولبنان) أيضاً من خارجه؛ بينما يوجد دول تعتبرها بالفعل من بين أهم التهديدات أو المخاطر التي تواجهها، منها السعودية والإمارات والبحرين من داخل المجلس، وإلى حد ما الأردن ومصر من خارجه. ومع ذلك، فإن هذه الدول تُفضل في العموم أيضاً التفاوض مع زيادة الضغوط. وتبقى هناك تقريباً دولة واحدة فقط في المنطقة تعتبر إيران عدوها الأول وأخطر تهديد لوجودها وهي إسرائيل، وتؤيدها دول من خارج المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ وهي ترى أنه لا بد من اتباع كل الوسائل بما فيها القوة العسكرية للقضاء على هذا التهديد.
ثالثاً، ويرتبط إلى حد كبير بما سبق، الحوار الجاري بين السعودية وإيران عبر العراق، والذي يبدو أنه يحقق بعض التقدم خاصة في ظل الحديث عن اتفاق لفتح متبادل للسفارات بين الرياض وطهران، ومن ثم فإن الإجابة على السؤالين المتعلقين ب "الهدف" و"طريقة التعامل" -اللذين أشير لهما سابقاً-، من قبل السعودية، سيجعل من فكرة تشكيل تحالف ضد إيران أمراً مشكوك فيه، ولا ينسجم أصلاً مع مساعي السعودية ومعها بالطبع الدول العربية الأخرى للتهدئة مع طهران، وربما التوصل معها لتفاهمات بشأن عدد من الأزمات التي لا زالت تنزف وأهمها بكل تأكيد اليمن. إذ كيف يمكن أن يَنطلق من السعودية تحالف ضد إيران، طالما أن هناك جدية من قبل السعودية في فتح صفحة جديدة مع طهران!
إذاً نحن بالفعل أمام معضلة حقيقية فيما يتعلق بهذه المسألة. فتشكيل حلف شرق أوسطي على غرار "الناتو" ضروري وهناك كما يبدو حجج منطقية للدعوة إليه، ولكنه في الوقت نفسه غير ممكن في ظل المعطيات الواقعية ولا سيما تباين وجهات نظر الدول المعنية ليس فقط بشأن ما إذا كانت إيران تمثل تهديداً بالفعل أم لا، ولكن أيضاً فيما يتعلق بطريقة التعامل معها، فهناك من يتمسك بالحوار سبيلاً (وحيداً) لذلك، بينما يرى آخرون أن الضغوط وربما القوة -في مرحلة ما-هي فقط من سيوقف إيران وينهي تهديدها.