- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
النجاح المؤقت للصف الموالي لإيران في لبنان يخفي تحولات أعمق في المجتمع اللبناني
بعد مضي أكثر من شهرين على اندلاع تظاهرات غير مسبوقة في لبنان، يبدو الصف السياسي الموالي لإيران مطمئناً إلى نجاحه في تبديد الخطر الذي شكلته «ثورة ١٧ تشرين الأول» على نفوذه. بل يظهر أن هذا الصف يعتبر أنه من خلال الضغوط التي مارسها على الشارع، وما استدرجه من ردات فعل، قد تمكن من تشديد قبضته على الدولة والمجتمع في لبنان ومن كسب المزيد من المواقع السياسية.
على أن هذه المناورات الناجحة المفترضة الآتية من الصف الموالي لإيران قائمة على قراءة ملتبسة لطبيعة الأحداث. إذ يجانب الصواب اعتبار ثورة ١٧ تشرين الأول جولة أخرى ومبارزة محلية بين الطرفين الموالي لإيران والمعادي لها، بما يعكس حالة المنازلة التي تعيشها طهران على مستوى المنطقة. بل هي مواجهة لإشكالات أكثر عمقاً وارتباطاً بصلب الحالة اللبنانية، وليس من شأن أية مناورات، ولو ظهرت ناجحة آنياً، تبديدها.
واستهداف الولايات المتحدة لقاسم سليماني، المسؤول الأول عن السياسة البعيدة المدى لتأصيل النفوذ الإيراني في المنطقة، قد وفّر للتو للصف الموالي لإيران فرصة رفع النبرة واستعادة الخطاب العام، وقد يتيح له تطبيق خطوات أكثر صرامة إزاء خصومه. غير أنه لا يبدل المعطيات الأساسية.
يقترب تعامل الصف الموالي لإيران مع ثورة ١٧ تشرين الأول إلى اليوم من اعتبارها تحدياً آنياً وحسب لتحكمه المتحقق بلبنان، فجاءت مواجهته لها من خلال الخطوات الميدانية والسياسية المعتادة. مجموعات المشاغبين الموالين لهذا الصف، والمحملين بالعصي ومستوعبات الوقود، والمطلقين للهتافات الطائفية (الشيعية)، عمدت بالتالي إلى مهاجمة المتظاهرين وضربهم وحرقت الخيم التي نصبوها في الساحات. والأجهزة الأمنية المحسوبة علناً على سياسيين من الصف الموالي لإيران فرّقت المتظاهرين بالعنف المفرط وأقامت جدران اسمنتية لعرقلة تحركهم، وإن على حساب تقطيع أوصال وسط المدينة. أما الإعلام الموالي لإيران، فاستفاض بإلقاء اللوم على الثورة على أنها المسؤولة عن تفاقم الأزمة النقدية والاقتصادية، والتي هي في الواقع المحفّز المباشر لهذه الثورة.
وعلى مستوى أعلى من التعاطي من الثورة، فإن السياسيين المنضوين في الصف الموالي لإيران عمدوا إلى فرض مسار استفزازي لاستدعاء الفئوية التي من شأنها فرط عقد الشارع. فاختيار حسان دياب لمنصب رئيس الوزراء، وهو الجامعي ذو الخبرة السياسية المتواضعة والمفتقد للوزن الشعبي، بدا وكأنه يهدف مباشرة لإثارة الغضب في الأوساط السنية، ثم جرى الإسراع في تكليفه ليتزامن الإعلان عنه مع زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي ديڤيد هايل، ما أفسح المجال أمام الإعلام الموالي لإيران الغمز إلى تفاهم ضمني أو صريح بين الولايات المتحدة وإيران حول هذا المسار السياسي للبنان، بما يضاعف الشعور بالتهميش والإحباط ضمن الطائفة السنية.
ويظهر من مجريات الأمور أن الاستفزاز كان ناجحاً. فسرعان ما امتلأت بعض الشوارع بالمشاغبين الغاضبين، المطلقين للهتافات الطائفية (السنية)، بما ينسجم مع مصالح الصف الموالي لإيران. فما تميزت به الثورة سابقاً من الأمل والرجاء والمشهديات الوطنية والحضارية تراجع ليحل محله شارعان متواجهان يعيدان إلى الوطن معالم الفوضى والقهر واليأس، ويبقيان عليه منقسماً على ذاته.
الخصومة السياسية مستفحلة في لبنان بين الصفين السياسيين الرئيسيين، الموالي لإيران والمعروف بـ «٨ آذار»، والأقرب إلى الغرب، وما كان يعرف بـ «١١ آذار» قبل أن يعتريه التفكك. على أن هذين الصفين متداخلان ومترابطان في شراكتهما ضمن النظام السياسي الاقتصادي النهبي والذي استقرّ في لبنان «الجمهورية الثانية»، وصولاً إلى حالة من الضمان المتبادل للبقاء. فوجود الخصم والغريم يسمح لكل طرف بالشحن الفئوي، ويبرر له استيلاءه على المال العام، وفي الحالة الخاصة بـ «حزب الله» يبرر له الاحتفاظ بسلاح «المقاومة» إلى أجل غير مسمى. وقد تكرّست هذه المصلحة المشتركة مجدداً عام ٢٠١٦ في «التسوية» التي أتاحت إيصال ميشال عون، حليف «حزب الله» الوثيق، إلى الرئاسة، مقابل تعيين سعد الحريري، نجل الراحل رفيق الحرير ووريثه السياسي، رئيساً للوزراء.
لا يمكن إلقاء اللوم على «حزب الله» لاستتباب النظام النهبي ضمن «الجمهورية الثانية» منذ نهاية الحرب الأهلية التي استنزفت لبنان بين العامين ١٩٧٥ و١٩٩٠. بل إن الفساد الذي يعتاش منه السياسيون في لبنان يعود في أصوله إلى الزبائنية والإقطاعية والطائفية والتي كانت قائمة في لبنان قبل استقلاله عام ١٩٤٣. وكان من المفترض بأن يذلل لبنان الاستقلال هذه الآفات، غير أن حكوماته المتعاقبة قد تخلّفت عن الأداء بهذا الاتجاه، رغم الضغط المجتمعي الداعي إلى المزيد من الاندماج. ومع نهاية الحرب الأهلية، كان المنتظر أن تأتي مرحلة الإصلاح العاقل وإعادة البناء وتحقيق الهوية الوطنية، غير أن السماح بالكيان المتوازي الموالي لإيران أدّى خلافاً للمطلوب إلى تكريس الزبائنية والطائفية ضمن «الجمهورية الثانية».
الحضور الإيراني في لبنان يعتمد للبقاء على استمرار النظام النهبي والفساد. ليست إيران أصل الفساد في لبنان، ولا هي أساس الطائفية، ولكن التخلص من كل من النظام النهبي والطائفية في لبنان لا يستقيم دون إنهاء المشروع التسلطي الإيراني فيه. والسبيل إلى ذلك ليس واضحاً، بل إن هذا المشروع على ما يبدو باقٍ ويتمدد، نتيجة تصميم بعيد النظر من طهران، وخطوات تكتيكية خاطئة من غيرها من العواصم. منها مثلاً محاولة ولي العهد السعودي زعزعة الأمر الواقع من خلال فرض الاستقالة قهراً على حليفه سعد الحريري بعد استقدامه إلى الرياض عام ٢٠١٧، ما أضعف مكانة الحريري لدى جمهوره وأنهى تحالف ١١ آذار والذي كان مأزوماً لتوّه، دون أن تؤدي هذه الخطوات إلى أي إضعاف للصف الموالي لإيران.
ثورة ١٧ تشرين الأول جاءت كنتيجة مباشرة للفجور في الفساد وسوء الإدارة واللامبالاة إزاء الصالح العام من جانب الطبقة السياسية المتمولة. ومن أوائل التعبيرات العفوية التي أظهرتها هذه الثورة إشارتها إلى النفوذ الإيراني في لبنان كعامل محفّز، إن لم يكن سبباً، للكارثة التي يعيشها لبنان، مع إصرارها على الاعتراض على الفشل الذريع للحكامة في لبنان.
خلاصة طرح ثورة ١٧ تشرين، استقرائياً، هي في تحذيرها من استحالة ديمومة النظام السياسي القائم بعد أن جرى تطويعه ليمسي أداة تعمل من خلالها الطبقة الحاكمة على الاستيلاء على الأموال العامة، فيما هذه الطبقة، لتتمكن من السطو، تمعن في التقسيم الطائفي العامودي للمجتمع، بما يعترض قيام الهوية الوطنية. وعلى مدى قرابة القرن منذ إعلان قيامه، لم يشهد لبنان تعبيراً أقوى مما تقدّمه هذه الثورة المتجاوزة للطوائف والداعية إلى تحقيق سيادة المواطن إسقاط الطبقة الحاكمة بكاملها.
تخطي الطائفية هذا يهدد مصالح إيران وغيرها، إذ ينهي قدرتها على التحكم بالحالة السياسية في لبنان. وفي حين أن جهود الصف الموالي لإيران بإعادة ضخ العصبية الطائفية في الشارع من شأنها الاستحصال على قليل من الوقت الإضافي لصالح الطائفية، فإن وعي الثورة لمسؤولية الطائفية عن المصاب اللبناني يشير إلى أن الاستمرار على هذا المنوال لم يعد ممكناً. والعودة إلى الشارع، وهي السبيل الوحيد المتاح أمام المجتمع اللبناني، تبدو بالتالي محتومة.
لم تتمكن العواصم الغربية والخليجية المعنية بالأمر من احتواء صعود إيران في لبنان. والمقولة السهلة حول وجوب «ترك إيران تغرق في مستنقع الوحول الذي أقامته» ليست مخرجاً لهذه العواصم من المسؤولية عن الضرر الفادح بل ربما القاتل الذي من شأنه أن يطال لبنان في حال التخلي عنه.
لا يتوقع اللبنانيون أن تخوض واشنطن وباريس والرياض وأبو ظبي مواجهة مباشرة مع إيران من أجلهم. ما يطالبون به هو توجه أكثر دقة يرفض التسليم بالأكذوبة بأن ما يعيشه لبنان هو خلاف داخلي بحت، أو الرضوخ للحالة الشاذة التي أرستها إيران في لبنان، دون التخلي عن القوى الناشطة لتحقيق التحول السياسي والاجتماعي في لبنان.
في العودة القادمة بالتأكيد للثورة، المطلوب من المجتمع الدولي أن يدافع عن القيم لا السياسات. المطلوب منه أن يصرّ على حماية المتظاهرين، لا القادة السياسيين. هو توجه أكثر صعوبة في تشكيله وتطبيقه، ولكنه ما يتوقعه اللبنانيون التواقون إلى وطن عماده الحرية والعدالة والقيم العالمية، من الحلفاء والأصدقاء للبنان السيد المستقل.