- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
النساء السودانيات عالقات بين معاناة النزاع والتهميش السياسي في مفاوضات والسلام
من الضروري الآن أكثر من أي وقت مضى، العمل على تضمين قضايا النساء بشكل فعّال في محادثات السلام والمفاوضات الانتقالية، وضمان تمثيلهن بنسب تتناسب مع واقعهن ومساهماتهن في المجتمع.
في ظل الحرب الجارية التي تشهدها السودان، تبرز مأساة غير مروية بالقدر الكافي، هي مأساة النساء اللاتي يدفعن ثمناً باهظا جراء هذه الحرب ويتم إقصاؤهن في الوقت نفسه من المشاركة في الحوار حول كيفية إنهاء هذه الحرب. يتزامن شهر المرأة العالمي مع فترة عصيبة يعيشها السودان، حيث يتعرضن لمختلف أشكال العنف والانتهاكات، من الاغتصاب والاعتداءات الجنسية إلى الخطف وفقدان المعيل، في سياق يتسم بالفقر المدقع ونقص المرافق الطبية، خاصة تلك المتعلقة بالصحة الجنسية والوقائية.
خلفت الحرب التي اشتعلت في 15 نيسان /أبريل من ،2023 بين الجيش السوداني والدعم السريع أزمة إنسانية تعتبر هي الأكبر عالميا حسب تقارير الأمم المتحدة التي تقول أن هناك أكثر من 8 مليون نازح جراء الحرب %88 منهم نساء وأطفال، وهناك أكثر من 4 ملايين سيدة وطفلة تواجه خطر الاعتداءات الجنسية، وهناك تقارير مقلقة عن وجود أسواق لبيع النساء في السودان.
المفارقة المؤلمة تكمن في أن النساء اللاتي كّن في الصفوف الأولى خلال الثورة السودانية التي أسقطت حكومة عمر البشير في 11 يناير 2019، وجدن أنفسهن مهمشات و مستبعدات من مراكز صنع القرار في الحكومة الانتقالية وذلك رغم مساهماتهن وتضحياتهن. الوعود بتخصيص نسبة40 في المئة للتمثيل النسائي في تلبية تطلعات النساء السودانيات ظلت حبراً على ورق، والنسب كانت اقل مما وعدن به، مما يعكس إخفاقاً في تلبية تطلعات النساء السودانيات والاعتراف بدورهن الحيوي في المجتمع والعملية السياسية.
أحد أكبر العوائق التي تقف حائلا أمام تحقيق السلام وحماية النساء والفئات الضعيفة هو أن البلد لديه تاريخ طويل من الإفلات من العقاب. إن عدم محاسبة مرتكبي الفظائع لا يشكل عائقًا أمام العدالة الانتقالية فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى استمرار دائرة العنف هذه، حيث صارت العديد من الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان التي وقعت في إقليم دارفور منذ سنوات، تتكرر في الخرطوم والجزيرة وأماكن أخرى. ومن ثم، فإن الافتقار التام للعدالة يعكس فشل الدولة السودانية والمجتمع الدولي، ويرسل رسالة للضحايا مفادها أنهم لا يستحقون العدالة، وأن الجناة يمكنهم مواصلة أفعالهم دون خوف من العواقب.
وعلى الرغم من أنه من المبكر الحديث عن دور سياسي محدد في حكومة تتشكل بعد السلام، فإن الاعتراف بمعاناة النساء من داخل الكواليس السياسية السودانية أصبح مطلبا ملحا، حيث تجري حالياً مفاوضات وجهود لعدد من المبادرات لتحقيق انتقال سلمي في السودان. ومع ذلك، يبدو أن السياسيين لم يستفيدوا من تجارب الماضي، فقضايا النساء لم تحظ بالأولوية المستحقة ضمن جدول أعمال المفاوضات، وهو ما يشير إلى استمرارية التهميش والإقصاء والتي تتمثل في وعود جديدة بتقليل حصة النساء في البرلمان عن سابقاتها والتي أصبحت الآن 30 في المئة رغم حجم التضرر البالغ جراء الحرب والذي انعكس أثره على نساء السودان هذا الواقع يعكس نقًصا في الإرادة السياسية لضمان تمثيل عادل وفعّال للنساء في المستقبل السياسي والاجتماعي للسودان.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الإخفاق المتمثل في تحديد أولوية دور المرأة في الحياة السياسية تعود جذوره للمعتقدات الشخصية لبعض الجهات الفاعلة الرئيسية المعنية. وكنت قد مررت شخصيا بنقاش بين بعض القادة السياسيين السودانيين تم فيها التشكيك في صحة ودقة الأرقام المتعلقة بحوادث الاعتداءات الجنسية، وهو ما يمثل تجاهلا للأدلة والشهادات المقدمة ويساهم في زيادة صمت المرأة وخوفها من عدم الاعتراف بما تعانيه ومن وصم المجتمع لها بالعار. وهذا التشكيك سيترتب عليه ضياع التوثيق ومن ثم المحاسبة للمتورطين وهنا ومن ثم، هناك ضرورة لمعالجة هذا الوضع حتى وقبل التوصل لعملية سلام في السودان.
في السياق نفسه، وصلت شهادات النساء اللواتي تعرضن لاعتداءات جنسية في السودان حسب التقارير التي تم توثيقها من قبل لجنة الأطباء إلى 417 حالة. وبالطبع، لا تعبر هذه الأرقام في الغالب عن الأرقام الحقيقية والتي تكون في أكثر الأوقات مضاعفة. وذلك بسبب صعوبة الوصول للجهات التي ترصد البلاغات في ظل انقطاع وسائل الاتصالات والوضع الأمني الخطر. وفى السياق نفسه، صرح الخبير الأممي المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان رضوان نويصر في بيان له انه "استمع لروايات مقلقة للغاية عن عنف جنسي ضد النساء والفتيات، يُزعم أن عناصر قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها ارتكبوا معظمها". وتشير التقارير إلى أن 70 في المئة من الانتهاكات تحدث في أغلب الأوقات بشكل جماعي وأمام أسر الضحايا كنوع ممنهج من الإذلال واعتبار أن انتهاك أجساد النساء هو وسيلة عقاب وسلاح قوي لإضعاف الآخر من خلال هذه الممارسات التي يبقى أثرها النفسي لأجيال. والمقلق أيضا زيادة نسب الانتحار التي ارتفعت في السودان بسبب عدم توفر العلاج النفسي والطبي فلا يوجد جهات تعمل على الدعم والعالج بعد حدوث هذه الانتهاكات.
الكتل النسائية السودانية التي دأبت على الحديث عن حقوق النساء في السودان ومعاناتهن كانت تتعرض في أغلب الأوقات لهجوم المجتمع نسائه ورجاله الذي يخلط ما بين حقوق النساء المشروعة وبين العادات والتقاليد السودانية. وفى مجتمع ذكوري مثل السودان يحاول فيه الرجال السيطرة على النساء، لا تخلو المنابر السياسية من هذه السردية التي تحجم وتتحدث علانية عن "إزعاج" تسببه النساء المطالبات بدور أكبر في الحياة السياسية. وتقول هاجر الشيخ، وهي محللة مختصة بالوضع السياسي والحقوقي في السودان " نشاهد العديد من الناشطات والحقوقيات المدافعات عن حقوق النساء في أغلب الأوقات حديث الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعية بطريقة متنمرة هي ورفيقاتها، بطريقة تزيد من صعوبة العمل مقارنة بزملائهن من الرجال."
ويفرض الواقع السوداني الحالي دورا جديدا للمرأة، فمن غير المعقول أن تختفي مطالبات مشروعة ضمن مباحثات التفاوض التي جرت بين المكونات العسكرية والمدنية وتم فيها تجاهل بنود حقوق النساء ومنع الانتهاكات في الحرب. ونعتقد أن السلام يمكن أن يتحقق، وهنا يبرز تسائل لماذا لم يتم وضع بند يمنع حدوث اعتداءات جنسية على النساء؟ ويكون هناك اتفاق واضح بالتجريم لأنها تحدث باعتبارها جريمة ممنهجة يعاقب عليها القانون الدولي. ورغم المبادرات والوساطات التي ترعاها الولايات المتحدة و دول أوروبية واعتبار تحقيق السلام أولوية قصوى، إلا أن تلك الرعاية تفتقر لأجندات الحقوق الأساسية.
وهنا تبرز إرادة المجتمع الدولي الحقيقية ورغبته إما في حل حرب السودان وضمان سلام مستدام أو تحقيق سلام مؤقت يفشل في معالجة القضايا الأساسية التي تواجه السودان. ومن ثم، فإن السلام المرجو لا يمكن أن يتحقق دون تحقيق العدالة للجميع. ومن الواضح أن كل من النخب السياسية السودانية والوسطاء الإقليميون يساهمون في خلق حالة التجاهل التي تواجه أوضاع النساء في السودان. ومن ثم، فإن التحديات التي تواجه النساء في السودان تتطلب بالتحديد اهتمامًا دوليًا وتحركًا ملموساً، فالصمت الدولي وعدم كفاية التغطية الإعلامية لمعاناة النساء في السودان يسهم في استمرارية الأزمة دون حل. كما أن المجتمع الدولي ووسائل الإعلام مطالبون بلعب دور أكثر فاعلية في تسليط الضوء على هذه القضايا ودعم جهود النساء والمنظمات الحقوقية في السودان لضمان حقوقهن وحمايتهن من الانتهاكات.
على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته تجاه السودان، فهو ومطالب أيضا بوضع ملف النساء خلال هذه الحرب ضمن أولويات المفاوضات الجارية والمستقبلية، وضمان أنها تحظى بالحماية الكاملة وأن أطراف النزاع لا يعتبرون النساء واحدة من ساحات الحرب المشروعة التي يمكنهم خوضها والإفلات بعد ذلك من العقاب كما جرت العادة. إضافة لتعزيز المساواة وتطبيق قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مثل القرار 1325 حول النساء والسلام والأمن، والتي تدعو إلى زيادة مشاركة النساء في جميع جهود الوقاية من النزاعات وحلها.
من الضروري الآن أكثر من أي وقت مضى، العمل على تضمين قضايا النساء بشكل فعّال في محادثات السلام والمفاوضات الانتقالية، وضمان تمثيلهن بنسب تتناسب مع واقعهن ومساهماتهن في المجتمع. النساء في السودان لسن مجرد ضحايا فهن أيًضا قائدات ومحركات رئيسية للتغيير والسلام، ويجب اعتبارهن شريكات في عملية بناء سالم مستقبل السودان. ويجب أن نتذكر أن تحقيق السلام والاستقرار في السودان لن يكون ممكنًا دون معالجة جذور المشاكل التي تعاني منها النساء في السودان وضمان حقوقهن بشكل كامل. الوقت قد حان لتغيير السردية وتركيز الجهود على بناء مستقبل يضمن للنساء مكانة يستحققنها في قيادة ووضع لبنات السلام للسودان الجديد.