- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
النظام الصحي في العراق: علامة أخرى على دولة متداعية
إن الفساد المتجذر في النظام الصحي العراقي يكلف الناس حياتهم.
ينعى العراقيون بحسرة وفاة ما لا يقل عن 108 مريض في مستشفى يقع في محافظة ذي قار، وهو الحادث الثاني من نوعه في غضون ثلاثة أشهر. الانفجار الذي وقع في محافظتي بغداد و ذي قار هو نتيجة عقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل الحكومات المتعاقبة، وإذا كانت ردة الفعل إزاء الانفجار السابق تعطي أي مؤشر، فهذا يعني عدم حدوث تغييرات جوهرية في الوضع الراهن. ولسوء الحظ، لن يشهد قطاع الصحة في العراق إلا المزيد من التدهور لأن الإصلاحات السياسية والاقتصادية الفورية غير محتملة، وسيقع المزيد من العراقيين ضحية فشل حكومتهم في تحسين النظام الصحي.
بدأ تدهور النظام الصحي في العراق منذ عقود من الزمن، ابتداءً من غزو العراق للكويت ووصولًا إلى يومنا هذا. فأدى الحصار المفروض على العراق بعد الغزو إلى نقص الأدوية ووفاة آلاف العراقيين لاحقًا بسبب الحالات الطبية البسيطة، مثل الإصابات الشائعة والإسهال. وقد تفاقمت صعوبة الحصول على اللوازم الطبية بسبب فساد حكم نظام صدام خلال"برنامج النفط مقابل الغذاء"، ما أدى إلى تدهور النظام الصحي أكثر فأكثر. وعلاوة على ذلك، غادر الكثير من الأطباء والمختصين البلاد على أمل إيجاد حياة أفضل إذ كانت العقوبات قاسية في خلال التسعينيات، وخفضَ نظام صدام ميزانية وزارة الصحة. ويقدّر البعض أن تمويل الرعاية الصحية انخفض بنسبة تصل إلى 90% بين عامي 1993 و2003.
تدهور الوضع أكثر فأكثر بعد عام 2003؛ فلم يحسن النظام السياسي الجديد واقع النظام الصحي في العراق. ووجد تقرير صدر بعد عامين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة أن "الفساد في قطاع الرعاية الصحية قد وصل إلى حد انتشار الرشوة والمحسوبية والسرقة بشكل كبير، وأن المشكلة خطيرة جدًا لدرجة أن صحة المرضى أصبحت من تدهور مستمر". فانتشرت سرقة الأدوية والمعدات الطبية وكثرت حالات الاحتيال فكافحت المستشفيات للاحتفاظ بمخزون الأدوية.
وبحلول عام 2004، أصبح القطاع الصحي في وضع متردٍ جدًا لدرجة عدم القدرة على تحقيق توقعات الشعب العراقي لأنه كان من الصعب جدًا إصلاح الوضع الراهن. وعلى سبيل المثال، لم تواكب الدولة وتيرة الزيادة السكانية ومعها الاحتياجات الاجتماعية. فارتفع عدد سكان العراق من 7.28 مليون في عام 1960 إلى 39 مليون في عام 2019، لكن بحسب "البنك الدولي"، انخفض عدد الأسرة في المستشفيات للفرد بشكل فعلي بين عامي 1980 و 2017 ، من 1.9 سرير لكل 1000 عراقي إلى 1.3 سرير لكل 1000 فقط.
لعب الفساد دورًا رئيسيًا في هذا الانهيار المستمر للبنية التحتية، فالعراق هو من الدول الأكثر فسادًا بحسب منظمة "الشفافية الدولية" وأثّر ذلك بشكل طبيعي في النظام الصحي. فبغض النظر عن نسبة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة لقطاع الصحة، جعل الفساد المستشري أي استثمار في القطاع الصحي غير مجدٍ. ويؤثر فساد وزارة الصحة في قدرتها على تنفيذ تغييرات ملموسة. وفي الحقيقة، تعيق الحكومة العراقية تحسين الرعاية الصحية للعراقيين في كلا القطاعين العام والخاص. فالمنافسة شرسة بين السياسيين العراقيين للفوز بوزارة الصحة بهدف اختلاس الأموال من عقود الأدوية. كما تتوافر في المحاكم الأمريكية أدلة مقدَّمة ضد شركات أعطت رشوة للفوز بعقود من وزارة الصحة العراقية. وفي الواقع، إن الحكومة العراقية ووزارة الصحة متهمان ببيع الأدوية المخصصة لوزارة الصحة في السوق السوداء. وعلى هذا النحو، عندما انتشر وباء "كوفيد-19" في الشرق الأوسط، وجد كل من الحكومة العراقية والمجتمع العراقي نفسه غير مستعد.
على الرغم من تصريحات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بأن معالجة أزمات "كوفيد -19" ستشكل أولوية الحكومة، فشلَ العراق في احتواء انتشار الفيروس، ولا يزال الكثير من العراقيين يشعرون أن الحكومة تفتقر إلى استراتيجية واضحة في هذا الصدد. فوصلت حالات الإصابة بوباء "كوفيد-19" إلى 1.4 مليون شخص توفي 17000 منهم، وقد تكون الأرقام أعلى من ذلك بكثير نظرا لأن الأرقام الرسمية غالبا ما تكون غير موثوقة. ومع وصول هذا الوباء إلى العراق، كان نقص المستشفيات والمعدات والمختبرات واضحًا؛ فحسب بعض التقديرات، يحتاج العراق على المزيد من الأسرّة اللازمة للعناية المركزة. وفي الواقع، أدت سياسات الحكومة الخاطئة إلى تفاقم الوضع إذ ضغطت على الطاقم الطبي للعمل في ظروف غير مقبولة، فأُصيبت نسبة كبيرة من الأطباء بالعدوى. ومع ذلك، يُظهر الانفجارين الأخيرين في المركزين الطبيين العراقية بوضوح كيف أن الفساد وسوء الإدارة وعدم الاستعداد وعدم القدرة على إصلاح الرعاية الصحية قد خذلوا العراقيين – كلاهما بُنيا بشكل مرتجل وباستخدام مواد رديئة لمعالجة أوجه القصور الطبية في العراق، وكلاهما يفتقر إلى تدابير السلامة الأساسية. واستشرافًا للمستقبل، يعني ذلك وقوع المزيد من الحوادث المؤسفة.
يرتبط تحسين النظام الصحي في العراق بشكل جوهري بزيادة الكفاءة ومكافحة الفساد، وهما شرطان فشلت الحكومة العراقية في تحقيقهما منذ عام 2003. والتغيير صعب جدًا في عراق اليوم لمجرد أن القوى المسؤولة عن الظروف المزرية هي نفسها المستفيدة منها، ونفسها الموجودة في السلطة. فيتفق السياسيون الفاسدون والمنتخبون، أو المسؤولون في مجال الصحة الذين ما زالوا في مناصبهم، على الاستفادة من الوضع الحالي لإثراء أنفسهم.
بالنظر إلى هذا الواقع، يعجز المواطن العراقي عن مواجهة عقدة الفساد التي تشكلت على امتداد فترة طويلة. وتترتب عن ذلك أزمة صحية كانت تشتد منذ عقود وستزداد سوءًا خلال الأشهر والسنوات المقبلة ؛ فلسوء الحظ، بينما تسلط الأحداث في كل من بغداد وذي قار الضوء على تردي ظروف النظام الصحي العراقي، لن تمهد الطريق لحدوث تغيير ملحوظ وسيظل العراقيون يعانون بسبب عدم الكفاءة.