- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
النظام والنظام الموازي في العراق
عوضاً عن إلقاء اللوم على الدستور كونه المسؤول عن اخفاقات الحكومة رغم عدم تجريبه على الارض بعد، ينبغي على السياسيين العراقيين النظر داخليا إلى النظام الموازي الفاسد الذي يقوض السياسة الوطنية.
بين الفينة والأخرى تتجلى دعوات تغيير النظام السياسي العراقي وتعديل الدستور في وقت مبكر بعد تشكيل الحكومة البرلمانية العراقية بعد عام 2003. فمنذ التصويت على الدستور الجديد عام 2005، سارع الكثيرون لإلقاء اللوم على النظام البرلماني "غير الفعال" كونه السبب وراء جميع الازمات التي يمر بها العراق.
وقد برزت تلك الاتهامات مؤخرا بعد ان قام أنصار التيار الصدري باقتحام مبنى مجلس النواب العراقي والاعتصام فيه ومطالبة مقتدى الصدر بتغيير الدستور والنظام السياسي. تلت هذا الدعوة بيانات ومواقف مماثلة من قوى عديدة منها "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي والتي جددت الحديث عن ضرورة اعتماد النظام الرئاسي، حيث وصفت هذا النظام بـ "المناسب للعراق وقال النائب السابق القيادي في الحركة نعيم العبودي في تدوينة له، " إن إصلاح النظام السياسي، صار مطلبًا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
إن دعوة تشكيل نظام رئاسي أو شبه رئاسي في العراق ليست فريدة من نوعها، فقد سبق وأطلقها الشيخ الخزعلي عام 2012، وكذلك دعت حركة "امتداد" المنبثقة عن الحراك الشعبي الشبابي في تشرين 2019، إلى تغيير نظام الحكم في العراق من برلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي للخروج من الأزمة السياسية الراهنة التي تعصف بالبلاد. وقالت الحركة في بيان، إن من أهم المبادئ التي اعتمدتها الحركة منذ تأسيسها هي: تعديل الدستور، وتغيير شكل النظام إلى رئاسة أو شبه رئاسي. كما ترى الحركة أن تغيير النظام هو أحد أهم أهدافها الرئيسية كحزب ناشئ مبررة ذلك بأن انتخاب الرئيس من قبل الشعب بشكل مباشر يمكن أن ينهي نظام المحاصصة الذي صار يعرقل أي حركة إصلاحية في العراق.
المفارقة الغريبة في هذا الموضوع هو أن الطرفين المتنازعين في العراق يرون أن النظام هو سبب الفشل الحكومي في العراق، فرغم تضمن دستور 2005 القائم العديد من الأبواب، ومنها” المبادئ الأساسية، وشكل الدولة، والحكومة، والحقوق والحريات العامة، والسياسية، وحرية المجتمع، والحريات الفكرية، والسلطات الثلاث الاتحادية والهيئات المستقلة، وسلطات الأقاليم والمحافظات، هناك شخصيات مثل الخزعلي ترى أن السبب الرئيسي وراء فشل الأحزاب السياسة هو النظام وليس أداء الأحزاب. كما أن لدى الخزعلي قناعة بحق الشيعة في التفرد بالسلطة وذلك لكونهم المكون الأكبر في البلاد.
ومع ذلك، فعند تحليل السياسة في العراق في حقبة ما بعد عام ٢٠٠٣ فعليًا، يجب على المراقبين أن يسألوا أنفسهم: هل حقا النظام البرلماني هو سبب فشل استقرار العراق؟ إن المتابع للشأن العراقي والعملية السياسية هناك بعد أحداث عام ٢٠٠٣، وسقوط النظام السابق سيدرك أن ما يتم التعامل به كنظام سياسي في العراق ليس ذاك النظام الذي حدد دستور العراق لسنة ٢٠٠٥، لأن ما يوجد اليوم هو نظام ودولة موازية، حيث عملت الأحزاب السياسية الطائفية على إنتاج نظام يتوافق مع مصالحهم بعيدا عن مصالح الشعب، وهو ما جعل من الدستور العراقي شيء هامشي ومجموعة من إجراءات شكلية وليس أكثر.
اضافة إلى ذلك، تتعالى العادات السياسية و "التقاليد" -التي أرستها القوى السياسية المختلفة في العراق- على تلك الإجراءات الدستورية بغية الإبقاء على النخبة في السلطة. ومنذ تأسيس الدستور العراقي والتصويت عليه، فضلت القوى السياسية أن تسلك مسارات أخرى بعيده عما حدده الدستور، بل تمسكت بقوانين الأنظمة الاستبدادية السابقة.
النظام الموازي الفعلي في العراق
أصبح تدهور البنية الدستورية في العراق وتهميش الأحزاب السياسية للقوانين الرئيسية أمرا مثيرا للقلق بشكل خاص، خاصة بعد أن عملت بعض الأحزاب السياسية على تهميش الدستور والقوانين المكملة له مثل قانون النفط والغاز (مادة ١١٠) وقانون إدارة المنافذ الحدودية وعشرات من المواد الاخرى من أجل ضمان مصالحهم ومكانتهم في السلطة. وقد أدى ذلك إلى خلق فوضى إدارية في البلاد وخلق أزمات وخلافات طويلة الأمد بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان حول كيفية الإدارة ووارداتها.
فشلت الأحزاب السياسية العراقية في الالتزام بالشروط الدستورية المهمة مثل المادة (٣٨) من الدستور التي أكدت على الحريات الأساسية مثل حرية التعبير وحرية التجمع السلمي والتظاهر السلمي. ومع ذلك، فضلت الأحزاب السياسة القائمة الإرث الديكتاتوري على الدستور الجديد ولم يعملوا على تشريع قوانين تتعلق بتلك الحقوق، بل تمسكت تلك الأحزاب عوضا عن ذلك، بالقوانين الدكتاتورية مثل المادة (٢٢٨) من قانون العقوبات العراقي لسنة، ١٩٦٩ والتي من شأنها تكميم الأفواه وتقويض حرية التعبير.
عملت الأحزاب السياسة أيضا على إنتاج دولة فيدرالية مشوهة عبر بوابة القضاء، فعوضا عن العمل كوسيط غير منحاز بين الأحزاب والكيانات الفيدرالية، أصبح نظام المحاكم الفيدرالية مجرد امتداد لمصالح الأحزاب ولديناميات طائفية مفسدة.
فبعد ان تم التلاعب بالدستور من قبل الاحزاب السياسية، صارت السلطة القضائية تفسر مواد الدستور وفقا لمصالحها ،ومن أمثلة ذلك تفسير القضاء للمادة (٧٣) والمتعلقة بمفهوم "الكتلة الأكبر"، فقد سبق لهذا المفهوم أن أثار خلافا كبيرا في الانتخابات البرلمانية في العام 2010 بين الكتلة الفائزة الأولى، كتلة العراقية التابعة لإياد علاوي (91 مقعدا)، والكتلة الفائزة الثانية، كتلة دولة القانون لنوري المالكي (89 مقعدا)، فرغم حصول علاوي على المقاعد الأكثر إلا أن المحكمة الاتحادية العراقية، وبضغط من المالكي، فسرت الكتلة الأكبر على أنها الكتلة التي تتشكل داخل البرلمان، وشكّل المالكي الحكومة حينها، وفاز بولاية ثانية. وبالطبع أدى ذلك إلى تغيير المسار الديمقراطي في البلاد والإضرار به.
رغم ان الدستور العراقي لم يُمنح فرصة حقيقية للتطبيق على ارض الواقع، فلا يزال امام الحكومة العراقية فرصة لتحقق نجاح أكبر في هذا الشأن من خلال التطبيق الدقيق للدستور والالتزام الصادق بأحكامه، والعمل على إلغاء التعديلات الجذرية التي حدثت في النظام السياسي. وعلى الرغم من أن مطلب تشكيل نظام رئاسي قد يكون مطلبًا واقعيًا وذلك في ضوء السياق العراقي الحالي، فمن المهم أن نفهم أن دستور عام 2005 لم يتم تجريبه بعد - وبالتأكيد لا يوجد مبرر للسياسيين والناشطين للدعوة لإلغائه.
أن ما يوجد اليوم هو نظام ودولة موازية، أحدهما أنتجته الأحزاب وقامت بالتلاعب به على مر السنين بعيدا عن القانون ووفقا لمصالحها. وفي الوقت الذي تلقى فيه تلك الاحزاب اللوم على الهيكل الحكومي، لم تحرك السلطات ساكنا، بل سعت وراء مكاسب حزبية وشخصية جاءت على حساب كرامة وطنهم ومواطنيهم. ومن ثم، يجب إعادة صياغة السردية التي تسلم بفشل الحكومة في العراق والتركيز على هذا الواقع الموازي. كما ينبغي على جميع الجهات المختصة مثل المحكمة الاتحادية العليا والبرلمان العمل على تفكيك النظام الموازي مع الحفاظ على الدستور العراقي نفسه وإبعاده عن الأهواء والمصالح الضيقة لسياسات الأحزاب الطائفية.