- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
القوة الناعمة لقطر تنبض بالحياة وتسير على ما يرام
بعد مرور أكثر من عام على الحصار الرباعي لدولة قطر، يبدو أن حكمة المؤسسات الصلبة بالولايات المتحدة الأمريكية وفي مقدمتها وزارتي الدفاع والخارجية، قد وضعت حدا للتصريحات القوية للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" التي ظهرت في بداية الأزمة. وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الضمني للحصار خلال العام الماضي، لاحظ المراقبون تغيراً ملحوظاً في موقف الرئيس الأمريكي، حيث اتخذت العلاقات الأمريكية السعودية منحنى خطير خاصة بعد تورط النظام السعودي في اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية بإسطنبول.
وفي حين أن الولايات المتحدة حافظت على علاقاتها التقليدية المتينة مع الحكومة السعودية، إلا أن هذا التحول يوفر فرصة كبيرة للإدارة الأمريكية للنظر في القوة الاستراتيجية الناعمة طويلة الأمد التي تمتلكها الدوحة في الشرق الأوسط وإمكانية الاستفادة منها، خاصة في ظل تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة. وبالرغم من أن عاملي الجغرافيا والسكان، من أهم العوامل المؤثرة في قوة الدول وفي مكانتها الدولية، إلا أن الدوحة استطاعت أن تلعب دورا مؤثرا في المنطقة، حتى في ظل الحصار المستمر منذ أكثر من عام.
وعلى الرغم من الأزمة الحالية التي تمر بها قطر، فهي لا زالت تمتلك رصيداُ إقليميًا مهمًا لدعمها ثورات الربيع العربي، فعندما سُئل أمير قطر في مقابلة تلفزيونية مع قناة "سي بي أس" الأمريكية حول وقوف قطر مع حركات الربيع العربي، أجاب الأمير "لقد وقفنا مع الشعوب لأنها كانت تريد الحرية والكرامة، وأعتقد اخترنا الخيار الصائب عندما وقفنا مع الشعوب". ودعمت الدوحة الثورة السورية ضد الحكومة، وذلك على الرغم من العلاقات القوية التي كانت تربطها بالنظام السوري.
وفي حين أن موقف قطر قد أثار شكوك الحكومات العربية الأخرى، إلا أن مساندتها لحركات الربيع العربي ظلت باقية في أذهان الجماهير على نحو غير مفهوم. ففي بعض الدول، أصبح السجن مصير كل من يتعاطف مع قطر حتى ولو بتغريدة. فالعلاقة التي تربط الدوحة بالعديد من الحركات المتجذرة مجتمعيا والتي شكلت النواة الرئيسية لحركة الربيع العربي، تعتبر من أهم عوامل القوة الناعمة بيد الدوحة.
وكثيرا ما يربط المراقبون الغربيون هذا الدعم القطري على نحو أوثق بالتيار الإسلامي في العالم العربي، لكن الكثيرين داخل المنطقة يدركون أيضا أن قطر تدعم التيارات الليبرالية أيضا. وفي الوقت الذي تخلت فيه بعض الدول الخليجية وفي مقدمتها الإمارات عن دعم الاقتصاد التونسي بعد تحالف حزب نداء تونس بزعامة الرئيس السبسي مع حركة النهضة، شارك أمير قطر في المؤتمر الدولي لدعم الاقتصاد والاستثمار في تونس، وأعلن عن دعم الاقتصاد التونسي بقيمة 1.25 مليار دولار وذلك على الرغم من التغيير السياسي في تونس.
وقد أحاط المراقبون في شمال أفريقيا على وجه الخصوص علما بالدعم المالي لقطر للحكومة التونسية. وتشكل علاقة قطر بهذه الحركات المجتمعية مصدر قوة مهم في يد الدوحة حاضرا ومستقبلا، وذلك على الرغم التوتر الذي تخلفه في علاقتها مع بقية الدول.
ويأتي الإعلام في مركز الصدارة بين عناصر القوة الناعمة التي تمتلكها قطر، فالإعلام القطري وعلى رأسه قناة الجزيرة هو الأكثر تأثيرا في المنطقة، كما يحتل مركزا مرموقا ومتقدما بين وسائل الإعلام الدولية. وقد استمرت قناة الجزيرة الإخبارية في التربع على قائمة أكثر القنوات مشاهدة بالعالم العربي، وتفوقت بكثير على أقرب منافساتها من القنوات الإخبارية. كما تحظى قناة الجزيرة الإنجليزية بمكانة متميزة، وحصدت العديد من الجوائز الدولية المرموقة كجائزة "أي آي بي" الدولية بلندن. وتضم شبكة الجزيرة الإعلامية، شبكة واسعة من القنوات المتنوعة: الجزيرة بلقان، والجزيرة تركيا، والجزيرة الوثائقية وغيرها من القنوات.
وتهيمن شبكة "بي أن" الرياضية –الجزيرة الرياضية سابقا- على الإعلام الرياضي، بحيث تنقل حصرا الغالبية الساحقة من الدوريات الأوروبية والعالمية والأحداث الرياضية العالمية. وعلى الرغم من أن الموقع المرموق للشبكة أدى إلى تعرضها للقرصنة، إلا أن الغالبية العظمى من المشاهدين العرب ما زالوا يفضلون استخدامها. وعلاوة على الإنتاج الإعلامي تستمر الدوحة بشكل كبير في الإنتاج العلمي، حيث تستضيف الدوحة مجموعة من الجامعات المرموقة دوليا، كجامعة "جورج تاون"، وجامعة “كارينجي ميلون"، وجامعة "تكساس إيه أند أم"، وكلية لندن الجامعية، وغيرها من مراكز الأبحاث الدولية التي تساهم في تشكيل الحوار الدولي حول الشرق الأوسط. ونظرًا لوقوف قطر جنبًا إلى جنب مع الحركات الديمقراطية، فما يزال المنتج الإعلامي لقطر يحظى بتأثير كبير في العالم العربي.
إن نفوذ قطر ليس جديدًا، ولكن الوقت قد حان لتحليل كيفية استفادة الولايات المتحدة من هذه القوة الناعمة، خاصة أن قطر قد أثبتت في الماضي أنها وسيط مؤثر حيث لعبت دور الوسيط الفعال بين الولايات المتحدة والجماعات التي لا ترغب واشنطن في مقابلتها بشكل مباشر. وقد لعبت قطر دور الوساطة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان والتي توجت بفتح مكتب اتصال للحركة بالدوحة بدعم أمريكي في عام 2013، و نجاح المفاوضات التي أدت إلى إطلاق سراح الرقيب الأمريكي "بوي بيرغدال" الذي كان محتجزا لدى الحركة منذ سنوات. كما لعبت قطر دوراً هادئاً في المفاوضات الجارية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولم يقتصر دور الوساطة القطرية على القضايا التي ترتبط بمصالح الولايات المتحدة فقط بل امتد أيضا ليشمل بعض القصايا الإقليمية الأخرى، كالوساطة بين حكومة الخرطوم وحركات التمرد بإقليم دارفور، وكذلك الوساطة بين إيريتريا وجيبوتي والتي توجت بالإفراج عن عدد من الأسرى الجيبوتيتين لدى إريتريا. وفي حين أن موقف قطر المعقد في الخليج قد قلل من دورها التفاوضي العلني في المنطقة خلال العام الماضي، فإن قدرتها على العمل كمفاوض في المستقبل يجب ألا يتم إسقاطه. ومن ثم، توفر قطر قوة ناعمة يمكن أن تستفيد منها الولايات المتحدة لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع الأطراف والجماعات التي لا تستطيع الدخول معها في مفاوضات مباشرة.
وبعد مرور عام على الحصار الرباعي المفروض على قطر، لا تزال وجهة نظر الإدارة الأمريكية تجاه قطر غامضة إلى حد ما بالنسبة لدول المنطقة. فبعد إقالة الرئيس ترامب لوزير خارجيته "تيليرسون" أعلنت مجموعة من الشخصيات الإماراتية المقربة من دوائر الحكم عن فرحتها بهذا القرار، معتبرة أنه انتصار لدول الحصار، وإزالة إحدى العقبات المؤثرة التي وقفت في طريقها لدفع العلاقات الأمريكية القطرية نحو مزيد من التوتر. لكن التصريحات التي تلت زيارة أمير قطر للولايات المتحدة الأمريكية ولقاءه الرئيس ترامب، وما تلاها من لقاءات بين مسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين أظهرت أن الولايات المتحدة ما زالت مستعدة لتوطيد علاقاتها مع قطر بشكل أوسع. وبالنظر إلى التحولات الأخيرة في موازين القوة في المنطقة، فإن الوقت الحالي يعتبر الأمثل للإدارة الأمريكية لتوضيح موقفها والاستفادة مما تقدمه القوة الناعمة للدوحة.
على فاضلي، هو باحث مغربي في مجال العلاقات الدولية والقانون الدولي؛ وهو طالب دكتوراه بجامعة القاضي عياض/مراكش، حيث تركز أطروحته على العلاقات الدولية والقانون الدولي.