- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
العراق يواجه كورونا بخزينة خاوية ونظام صحي متدهور
منذ ظهور أول حالة إصابة بكوفيد -19 في العراق في أواخر فبراير/ شباط 2020، واستمرار حالات الإصابة خلال الصيف، كافحت الدولة العراقية للتعامل مع النمو الاقتصادي الراكد، والاضطرابات السياسية، وانقسام الرأي العام. وعلى الرغم من المحاولات المبكرة لإبطاء انتشار الفيروس، تسببت العلاقة المتوترة بين الشعب العراقي وحكومته في مشاكل للجهات الحكومية وعززت انتشار الوباء في البلاد.
وحتى الآن، كان التعاون الشعبي مع الحكومة محدودا، ففي حين تعاطى الكثير من سكان مراكز المدن مع تفشى الوباء بجدية، والتزموا بإجراءات الوقاية والسلامة التي أقرتها وزارة الصحة، إلا أن تلك الفئة هي الأقل عددا بين السكان. أما الفئة الأكثر شيوعا هي تلك الموجودة في أطراف المدن والمناطق الريفية والتي تنكر وجود الوباء، أو تؤمن بنظرية المؤامرة أو تسخر من الإجراءات الوقائية، أو تخرج بتأويلات ومبررات دينية أو غيبية تعزز إنكارها.
أدت هذه التوجهات الشعبية، إلى جانب انعدم الثقة في الحكومة والمشاكل الاقتصادية، إلى الحد من نجاح الجهود العراقية للتعامل مع تفشى الوباء، مما ساعد على تفسير تزايد عدد الحالات خلال فترة الصيف، دون وجود أي بوادر للتراجع.
جهود مبكرة تحت إشراف مسؤولي الصحة
أبلغ العراق عن أول حالة إصابة بـفيروس كورونا في 24 فبراير/ شباط 2020 في مدينة النجف الأشرف. وبعد ثلاثة أيام من ظهور هذه الحالة، أبلغت العاصمة بغداد عن أول حالة لها. وفي الرابع من مارس/ أذار، شهدت البلاد أول حالة وفاة بفيروس كورونا في إقليم كردستان.
هنا كان على وزير الصحة العراقي أن يأخذ دوره، وهو ما حصل، فقد كان الوزير الطبيب جعفر صادق علاوي، الأكثر نشاطا من بين الوزراء واستطاع قيادة الدولة وكسب احترام جزء من الشارع العراقي الغاضب، ربما لخبرته الطويلة كونه كان من أشهر الأطباء العراقيين المقيمين في بريطانيا، وتمكن هذا الوزير من توظيف خبرته وعلاقاته وقام بتشكيل فريق متخصص لمواجه الوباء، ودفع الحكومة الى القيام بإجراءات مبكرة للوقاية من الجائحة وذلك رغم أن هذه الإجراءات قوبلت من الناس بالاستهزاء والرفض في بداية الأمر.
كانت إجراءات الوزير مبكرة ففي 28 يناير /كانون الثاني 2020 أعلنت وزارة الصحة العراقية اتخاذ إجراءات وقائية لمنع وصول فايروس كورونا إلى العراق، واعتمدت تدابير احترازية في منافذ العراق الحدودية تحسبا لأي إصابات محتملة، كما ناشدت وزارة الصحة الزعامات الدينية بالحد من التجمعات الدينية. وبعد أسبوعين من تلك الإجراءات وبعد إعلان منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا قد أصبح وباءً عالميًّا، اتخذت اللجنة الحكومية المختصة برئاسة وزير الصحة العراقي إجراءات إضافية منها منع التجمعات الدينية والاجتماعية وإغلاق المطاعم.
لكن هذه الإجراءات التي اتخذها الوزير لم تكن تنجح في منع دخول الجائحة للعراق، بسبب إخفاق الحكومة في إدارة ملف العراقيين العائدين من الخارج، ولم تفلح الجهات الصحية في السيطرة على المنافذ الحدودية للعراق، ولم تتمكن الأجهزة الإعلامية العراقية من إقناع المواطنين بتطبيق إجراءات الوقاية والسلامة.
لذلك حاولت الحكومة العراقية اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وجدية، ففي 26 مارس آذار 2020 قرر مجلس الوزراء العراقي تشكيل لجنة عليا للصحة والسلامة الوطنية برئاسة رئيس الوزراء العراقي، واعتبارها الجهة العليا المعنية بمكافحة انتشار فيروس كورونا المستجد في العراق، إضافة الى اللجنة التي يترأسها وزير الصحة.
فشل حكومي وانعدام ثقة عام
ظهرت جائحة كورونا والعراق يعيش أخطر ازمه سياسية منذ نيسان 2003 حيث الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات الكبرى والتصادمات مع عناصر مكافحة الشغب وسقوط عشرات الضحايا، وما رافقها هذه التطورات من غضب شعبي وتوتر أمنى وتوقف الكثير من الأنشطة التجارية في قلب العاصمة بغداد.
لهذا دق خطر الجائحة أبواب العراق في ظل ظروف سياسية معقدة، ضاعف تعقيدها انهيار أسعار البترول وانكشاف عورة الاقتصاد العراقي الذي يعتمد النفط كمصدر أساس لتمويل كل عمليات الإنفاق التي تخص الدولة العراقية، التي بدت أكثر ضعفا من أي وقت سابق نتيجة تدهور الاقتصاد، وتراجع المستوى المعيشي، وهيمنة الأحزاب وقوى خارجية على القرار السياسي. كما أن الحكومة العراقية كانت مستقيلة، ومتقاطعة مع الشارع، وتمارس صلاحيات تصريف الأعمال، ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي اختار لنفسه (الغياب الطوعي) عن إدارة الدولة، استجابة لمطالب الشارع العراقي.
انعكست القطيعة بين الشارع والحكومة في العراق على الإجراءات الحكومية الهادفة الى الحد من انتشار الفيروس، فلم يكن المواطن العراقي متفاعل مع تعليمات وزارة الصحة، والأسباب كثيرة أهمها أن الجزء الأكبر من الشعب العراقي لا يملك الثقة الكاملة بمؤسسات الدولة. والأدهى من ذلك أن هناك من شكك بوجود الفيروس بالأساس، أو اتهم الحكومة بالمبالغة في الإجراءات، لغرض فرض حظر التجوال وإحكام السيطرة على الشارع العراقي المنفلت أصلا.
وهناك عامل مهم هو عدم تمكن الحكومة العراقية من معالجة الآثار المعيشية والاقتصادية الناتجة عن الإجراءات الحكومية لتقييد حركة المواطنين للحد من تأثير الجائحة، التي سببت الضرر الكبير لأصحاب المهن والمصالح الحرة، وأوقفت أرزاق الكثير من العمال الذين يكسبون قوتهم من عملهم اليومي، وأصبح المواطن العراقي أمام ضغط مزدوج هو الجائحة والحالة المعيشية، لذلك استمر تجاهل الإجراءات والتعليمات الحكومية خلال الشهور الأولى لانتشار الفيروس، وذلك رغم ارتفاع معدلات الإصابة وانتشار الأخبار عن كوارث تجتاح دول أخرى وبالخصوص إيران المجاورة.
مع استمرار ارتفاع الحالات، العراق يسعى إلى التوجيه
في 6 مايو/ أيار صوت البرلمان بالثقة للحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي مع تغيير وزير الصحة الذي قاد الجهد الحكومي منذ بداية ظهور الجائحة بوزير جديد اقل خبرة من السابق، وهو إجراء أثار الجدل داخل العراق.
وفي شهر يونيو حزيران أصبحت الأمور أكثر جدية، بات الخطر واضحا، والكارثة أخذت ترعب اغلبيه الجماهير العراقية، حتى تلك التي كانت تشكك بوجود وخطورة تلك الجائحة، ففي 5 يونيو حزيران 2020 تخطى العراق حاجز 1000 إصابة يوميا بعد أن أعلنت وزارة الصحة عن تسجيل 1,006 حالة جديدة في هذا اليوم. احتاج هذا الوباء من العراقيين ثلاثة شهور ليتجازر الألف إصابة يوميا، لكنه في شهر واحد انتقل من 1000 الى 2000 إصابة في اليوم. ومن المتوقع أن يستمر هذا العدد في الارتفاع، حيث تجاوز عدد الحالات اليومية أحيانًا 3000 في أواخر يوليو وأوائل أغسطس.
وفى حين شاهد العراقيون ارتفاع أعداد الإصابات، ورأوا أيضًا تأثير الفيروس في الداخل وبين بعض الشخصيات العامة المحببة لهم في البلاد، فمن بين المتوفيين جراء الفيروس كان هناك رياضيين وإعلاميين وفنانين وأعضاء في البرلمان والنجم الدولي الأكثر شهرة في العراق احمد راضي الذي أفجع العراقيين بمختلف مستوياتهم.
ويحاول رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وحكومته وفريقه المتخصص إيقاف الصعود المرعب في معدلات الإصابة باستخدام شتى الوسائل، لكن الأمر ليس باليسير والخيارات صعبة. ففي الوقت الذي توقع فيه الناس قيام حكومة الكاظمي بفرض حظر شامل للتجوال، أقدمت الحكومة على تغيير تكتيكاتها باتخاذ استراتيجية جديدة، هي حظر التجمعات والسماح بالتجوال، مع ترسيخ مفهوم التباعد الاجتماعي والالتزام بإجراءات الوقاية والسلامة.
ورغم إعلان الكاظمي منذ تسلمه رئاسة الحكومة في 6 مايو آيار 2020 أن مواجهة وباء كورونا من أولى أولويات حكومته، إلا أنه لن يتمكن من إيقاف التدهور في الخدمات الصحية. كما أدى عجز المؤسسات الحكومية، والإهمال، والفساد، وأنظمة الرعاية الصحية غير الملائمة، والاضطرابات السياسية الى امتناع معظم العراقيين المصابين عن التوجه للمستشفيات الحكومية واختيارهم الحجر المنزلي كوسيلة وحيدة للنجاة، وأصبح الشارع العراقي ينظر الى مستشفيات الدولة على أنها أماكن موبوءة تضاعف الخطورة.
وعلى الرغم من خطاب رئيس الوزراء الجديد الذي وعد بتسخير كل الجهد الحكومي والشعبي لمواجهة الجائحة، لكن لم يلمس الشعب العراقي وجود استراتيجية أو خطة واضحة للمواجهة، والأمر كأنما يتجه الى مناعة القطيع، وصاروا يواجهون مستقبلاً غير مريح وغامض مع استمرار تفشى الفيروس.
لذلك، أصبح أمام العراقيين التعايش مع الوباء، والاتجاه نحو مناعة قطيع، أو التعاون من اجل إيقاف الصعود المرعب لأعداد الإصابات ونسبة الوفيات من خلال تقييد أنفسهم بالالتزام الشديد بإجراءات الوقاية، وهذا مرهون بدعم الحكومة والدعم الدولي واحتمال ظهور لقاحات أو أدوية تغير نتيجة المعادلة، لكن في كل الأحوال يبدو أن شهر أغسطس آب هو الأكثر حسما في تحديد هوية المنتصر، هل هو كورونا أم العراقيين.