- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الرأي العام في الشرق الأوسط والحلم الأمريكي بعد أحداث أفغانستان
بعد عقدين من تراجع صورة الولايات المتحدة عالميا، فإن الانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان سيؤدى إلى تغيير وجهات النظر في الشرق الأوسط حول وعد الولايات المتحدة وهيمنتها.
تركت مشاهد المسئولين الأفغان وهم يفرون من كابل، وكذلك المواطنين الذين اكتظ بهم مطار كابل أو الذين كانوا يركضون وراء الطائرة العسكرية الأميركية أو الذين سقطوا منها، انطباعا خاصا في الشرق الأوسط. كانت الرسالة التي حاولت طالبان بثها وهي تستولى على الأف القطع العسكرية الأميركية مقترنة بمشاهد فرح المقاتلين الطالبانيين وهم يتجولون ويلهون داخل قصور المسؤولين الأفغان، أكثر إثارة للمشاعر في منطقة الشرق الأوسط من مشاهدة عشرات الأفلام الهوليوودية الحملات الدعوية الممولة من قبل الحكومة الأميركية. وعلى النقيض من ذلك، لم تتمكن ماكينة الدعاية الصينية والروسية والإيرانية – حتى لو تحالفت – من إنتاج مثل حملة العلاقات العامة هذه التي دمرت المصداقية الأميركية في العالم، وتركت ندوباً عميقة بين المواطنين الذين يتطلعون إلى القيم الأمريكية في الشرق الأوسط.
تراجع القوة الناعمة لأمريكا
قبل سنوات، طلبت مني ابنتي - التي جاءت للعمل معي في شركة أبحاث السوق - أن أشرح معنى "صورة العلامة التجارية" (brand image). وشرحت ذلك على أنه القوة الناعمة لأي علامة تجارية. أنه الانطباع (perception) الذي يعلق في ذهن المستهلك ويقفز مباشرةً إلى عقله ويؤثر على قراره. والدول مثل السلع لديها علامات تجارية سياسية (political brand names) ليست تجارية، في أذهان شعوبها من جهة وأذهان شعوب الارض من جهة أخرى.
في ظل العولمة، فإن أهمية هذا النوع من القوة الناعمة للدول أصبح له تداعيات كبيرة، قد تضاهي أو تعوض قدراتها العسكرية. وهناك دول (مثل أمريكا) لديها تفوق في القوة الخشنة والناعمة في حين تتفوق الدول الأخرى في قوة واحدة فقط. لقد راكمت أميركا طيلة نهايات القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، رصيداً هائلا من القوة الناعمة وباتت العلامة الدولية الأولى عالمياً وبلا منازع حتى بات الحلم الأمريكي (American dream) تعبيراً شائعاً في الأدبيات الاجتماعية والسياسية، بغض النظر عن الحقائق على الأرض.
وصار الكثيرون في كل من الشرق الأوسط والعالم الأوسع يحلمون أما بالهجرة لأمريكا أو تقليد أنموذجها الاقتصادي والسياسي. وقد انعكس ذلك ايجاباً على زعامة أميركا للعالم كقوة عظمى لا تنافس. لقد استفادت أميركا من قوتها الناعمة على صُعُد متعددة منها اقتصادي وسياسي وحتى اجتماعي. فالسلع الأميركية تروَّج ليس فقط لجودتها، بل لأنها (صنعت في أميركا)، كما استفاد الاقتصاد الأميركي كثيرا من استقطاب أفضل العقول وأكبر رجال الأعمال في العالم الذين تولد لديهم الانطباع أن أميركا هي ارض الأحلام.
وحتى في مجال القيم والمعايير السياسية والاجتماعية فان الدول التي تتمتع بعلامة تجارية سياسية قوية تصبح مثالا يحتذى من الدول الاخرى. فعندما سقط الاتحاد السوفيتي سارعت كل المنظومة الاشتراكية السابقة إلى تبني نظم حكم ديموقراطية ليبرالية قريبة من النظام الامريكي والغربي عموما. كما يقبل العديد من الأمريكيين أيضًا فكرة أن الولايات المتحدة هي أفضل دولة يمكن العيش فيها! وسواء كان هذا الادعاء صحيحًا أم لا، فهو أمر في نهاية المطاف امر غير ملموس – فالاعتقاد في حد ذاته هو ما يساعد في تغذية القوة الناعمة الأمريكية.
لقد واجه هذا التفوق الكاسح في القوة الأميركية الناعمة كثير من التحديات التي باتت تهدد مكانته العالمية. وعلى الرغم من التعافي الذي حصل لصورة أميركا دولياً بعد هزيمتها في فيتنام، إلا أن العقدين الأخيرين شهدا تآكلا مستمرا في القوة الناعمة الأميركية نتيجة أحداث كبرى أثبتت فيها السياسة الأميركية فشلاً ذريعاً بخاصة في منطقة الشرق الأوسط، بدأ بغزو العراق 2003 مروراً بمحاربة داعش في العراق وسوريا ثم الحقبة الترامبية بضمنها إدارة أزمة كورونا، وأخيرا الانسحاب من أفغانستان.
فخلال العقد الماضي، بحسب استطلاع مؤسسة كالوب الأميركية التي أجرت هذا الاستطلاع في 132 دولة في العالم، هبط التقييم الإيجابي لدور أمريكا القيادي دولياً من حوالي 50% عام 2009 إلى 33% عام 2019، لا بل انه بلغ أدني نقطة (30%) عام 2017. وكانت أكبر خسارة في صورة أميركا الدولية وعلامتها التجارية السياسية هو في قارتي أوروبا وآسيا.
وبرغم التفاؤل الذي صاحبه تحسن كبير في صورة الولايات المتحدة في أعين 12 دولة صناعية كبرى شريكة للولايات المتحدة بسبب دخول بايدن البيت الأبيض عام 2021، بحسب استطلاع مؤسسة بيو Pew للأبحاث، إلا أن اتجاه الانطباع العام لصورة أمريكا لدى شعوب هذه الدول هو في هبوط واضح، وهذا يتفق حتى مع انطباعات الأمريكيين انفسهم عن صورة أمريكا في العالم حيث ابدى 37% فقط من الأمريكيين رضاهم عن صورة أمريكا عالمياً مقارنة ب 71% عام 2001 بحسب استطلاع مؤسسة كالوب.
إن هذا التآكل المستمر في العلامة السياسية الامريكية (U.S. brand name) دولياً لم يؤثر فقط في نفوذها العالمي المتناقص، كما انه لا يهدد فقط شبكة علاقاتها السياسية التي بنتها طيلة العقود الماضية ومثلت أحد اهم عناصر قوتها الناعمة مقارنة بمنافسيها المباشرين (الصين وروسيا) بل سيؤثر سلبا في تبني القيم الامريكية الأساسية التي طالما دافعت عنها وحاولت ترويجها في العالم وفى مقدمتها الديموقراطية.
فعلى الرغم من أن غالبية شعوب الشرق الاوسط التي اجري فيها استطلاع مسح القيم الدولي (World Values Survey) لازالت تعتبر تبني الديموقراطية أمراً مهماً لها،الا ان الاتجاه العام للرأي العام لتلك الشعوب آخذ في التناقص بشكل واضح خلال العقد الماضي الذي شهد اندلاع ثورات الربيع العربي وكما هو واضح في الجدول ادناه. عدا إيران التي زادت فيها نسبة من يقولون أن الديموقراطية مهمة فان هناك انخفاض واضح في نسبة من يؤمنون ان الديموقراطية مهمة سواء في العراق، أو الأردن، أو تونس، أو لبنان، أو مصر، أو تركيا.
أهمية الديمقراطية
Source: https://www.worldvaluessurvey.org/WVSOnline.jsp
النسبة المئوية للمستجيبين الذين صنفوا أهمية الديمقراطية بسبعة نقاط أو أعلى من أجمالي 10 نقاط.
في دولة كالعراق مثلا, لم تتراجع فقط نسبة من يؤمنون بالديموقراطية، لكن قفزت أيضا نسبة من يعتقدون أن النظم الديموقراطية غير جيدة في الحفاظ على النظام العام من 22% قبل 5 سنوات إلى حوالي 45% الآن بحسب بيانات استطلاع المؤشر العربي (Arab Indicator). وفى عام 2018 قفزت نسبة من يريدون "قائد قوي لا يكترث بالبرلمان أو الانتخابات" من 17% إلى 66%، ومن يرون أن حكم الجيش جيدا جدا أو جيدا إلى نوعا ما من 14% إلى 47% خلال العوام 2004-2019.
وحتى داخل أمريكا فعلى الرغم من أن غالبية الشعب الأمريكي (70%) أيد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بحسب استطلاع أجراه مركز مجلس شيكاغو للأبحاث Chicago Council في 8 آب/أغسطس 2021، فلا شك أن صورة أمريكا قد أصابها تشويه يصعب ترميمه سواء في عيون الأمريكان أو في عيون العالم الذي كانت ثقته مهزوزة أساسا بأمريكا قبل هذا الانسحاب. وقد اتضح ذلك في الهبوط الواضح في نسبة الموافقة على أداء بايدن (approval rate) من قبل الأمريكان أنفسهم هبطت لتصل إلى 46% منذ الانسحاب من أفغانستان.
على هذا النحو، سيتعين على الولايات المتحدة أن تتقبل تداعيات هذا الانسحاب على صورتها الدولية خاصة بين الشركاء الذين دعموا مصالحها في الشرق الأوسط. أن أحد اهم مبادئ الاتصال الستراتيجي الناجح هو تكرار الرسالة، ويبدو أن امريكا طبقت هذا المبدأ لكن بصورة معكوسة،حيث يبدو الانسحاب غير المسؤول من افغانستان تكرارا لانسحابات مماثلة حصلت في العراق وسوريا منذ عدة سنوات.
وبالنظر إلى هذا النمط من الانسحاب، ستبقى كلمات الدبلوماسي الإيراني الذي قابلته مؤخراً في بغداد عالقةً في ذهني وهو يتفاخر بالفرق الكبير بين حلفاء أمريكا وحلفاء إيران في المنطقة حيث قال لي: أنظر إلى سوريا التي تحالفت مع إيران فلم تتخلَ عنها ودافعت عنها وساندتها حتى انتصرت على (داعش)، وأنظر إلى حلفاء أمريكا في أفغانستان الذين تخلت عنهم وتركتهم يتساقطون من طائراتها، وربما تكون هذه هي الرسالة التي سيتردد صداها بشكل متزايد على مسامع الفاعلين الأخرين في المنطقة أيضًا.