- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الرؤى الخليجية المتعثرة: رؤية الإمارات العربية المتحدة 2021
تؤدى المنافسة الداخلية والمشاريع العملاقة غير الضرورية الى تشتيت الانتباه بعيدا عن رأس المال البشري والخبرة التقنية التي تحتاجها دولة الإمارات العربية المتحدة للانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط.
يخوض مجلس التعاون الخليجي مرحلةً عصيبة للانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط. إذ تدرك حكومات المنطقة أنها مصابة بما يسمّى بـ"لعنة الموارد" - أي الاعتماد الاقتصادي الكبير على الموارد الطبيعية – الذي ينتج عنه قطاعٌ كبير قائم على استخراج الموارد ومُدار من الدولة، وإهمالٌ لرأس المال البشري والتعليم في الخليج، من جملة أمور أخرى – كما تدرك أنها ستضطر قريبًا إلى استبدال مواردها الأحفورية المحدودة ببدائل متجددة.
فقامت كل دولة خليجية بترجمة أهداف التحول الاقتصادي والاجتماعي في رؤية خاصة بها، على غرار "رؤية قطر الوطنية 2030" و"رؤية الكويت 2035" و"رؤية عمان 2040" و"الرؤية الاقتصادية 2030" للبحرين و"رؤية السعودية 2030". وقد كان لكل هذه "الرؤى" سابقاتٌ ومشتقاتٌ مختلفة على مر السنين، ولكنها جاءت كلها متشابهة بشكل لافت، في ما عدا آفاقها الزمنية. مع ذلك، سنرى من خلال مثال "رؤية الإمارات 2021" أن هذه الخطط طويلة الأمد لم تحقق بعد أي نتائج ملموسة، وثمة شك متزايد في أن تحققها من دون تغيير مسارها تغييرًا جذريًا.
تقوم "رؤية 2021" على ركائز مشابهة لكافة الرؤى الأخرى، وهي الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، والصناعات/القطاعات المتنوعة، والبيئة الصديقة للأعمال، وتحسين إنتاجية القوى العاملة. والسبيل إلى تحقيق ذلك هو مزيجٌ من التخطيط الاقتصادي والسياسات الصناعية والعمالية.
في إطار سعي الإمارات إلى تنفيذ خطتها، شهدت سلسلةً من مشاريع البناء الضخمة، فأصبح لدى دبي أرخبيل "نخلة جميرا" الاصطناعي، وأطول ناطحة سحاب في العالم، وأطول دولاب هواء، ورابع أكثر المطارات ازدحامًا، في حين أصبح لأبوظبي رموزٌ تدل على قوتها الناعمة، على غرار متحف اللوفر أبوظبي وحلبة مرسى ياس التي تعتبر أغلى حلبة فورمولا 1 على الإطلاق.
وبما أن دبي ليست غنية بالنفط، دأبت منذ فترة طويلة على تنويع اقتصادها بالسياحة والتجارة والخدمات اللوجستية والمالية، في حين استثمرت أبوظبي الغنية بالنفط في مجالات الثقافة والتعليم. وفي نهاية المطاف، تتوقع "رؤية 2021" أن تتحول الدولة إلى "اقتصاد معرفي تنافسي" ذي قطاعات عالية التقنية، وفق ما يتضح من مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ ("مسبار الأمل") وخطط قطار هايبرلوب بين أبوظبي ودبي.
بيد أن هذا التغيير يتطلب دراية عالمية واستثمارًا أجنبيًا مباشرًا، ولذلك أوجدت الحكومة الإماراتية بيئةً صديقة للأعمال مع عشرات المناطق الاقتصادية الخاصة ووفرة من التشريعات المواتية. فخلال الفترة الممتدة بين عامَي 2015 و2018 وحدها، عملت الإمارات على إصلاح قوانين الضرائب وإقرار قوانين جديدة مثل قانون الاستثمار الأجنبي المباشر وقانون الشركات وقانون الإفلاس وقانون التحكيم.
والجدير بالذكر أن كل أنشطة القطاع الخاص هذه تنفَّذ بواسطة أغلبية ساحقة من الموظفين الأجانب من ذوي المهارات المتدنية والمتوسطة والعالية. ويشكل هؤلاء المغتربون 90 في المئة من سكان البلاد وهم معروفون بتقلّباتهم التي تؤدي إلى ارتفاع معدل دوران العمالة. ويعود هذا التقلب إلى وضعهم كضيوف مؤقتين، فهم يعتمدون على كفالة أحد المواطنين المحليين، وليسوا عمومًا مؤهلين للتجنيس أو للحصول على خدمات الرعاية العامة نفسها التي يحظى بها الإماراتيون. أما من الناحية الاجتماعية، فلا يزالون منفصلين إلى حدٍّ كبير عن المواطنين الإماراتيين، بحيث يعيشون في مناطق محددة يُسمح فيها بالتملك الحر ويتخالطون في المناطق ذات التوجه السياحي والاغترابي. وبسبب هذه الأوضاع، يصعب أو يستحيل عليهم الالتزام بالعيش في البلاد مدى الحياة.
لذلك، وفي سبيل تشجيع المغتربين من أصحاب القدرات العالية على الاستقرار بشكل دائم في الإمارات، عمدت الدولة أكثر فأكثر إلى تخفيف العديد من قيودها على التأشيرات. فتم تقديم خيار "التأشيرات الذهبية" إلى أوساط المغتربين المتنامية الحجم، وهي تأشيرات تجيز الإقامة في البلاد لمدة طويلة بدون الحاجة إلى كفيل وطني وتعطي حاملها حق الملكية الكاملة لأعماله التجارية. كما تم إدخال "تأشيرات المتقاعدين" في العام 2020، ثم بدأت الإمارات في كانون الثاني/يناير 2021 بإتاحة السبل للحصول على الجنسية عبر الاستثمار.
ولا يخفى أن السياسات التي انتهجتها الإمارات بتحفيز من "رؤية 2021" حققت نجاحات لا تُنكر. فقد أصبحت دبي المركز المصرفي والسياحي الرائد في منطقة الخليج، في حين أن الشركات المتعددة الجنسيات على غرار غوغل وفيسبوك وفولكسفاغن ومجموعة كارلايل، اختارت الإمارات مقرًا إقليميًا لها، وبدأت إيرادات النفط تفقد همينتها على الاقتصاد شيئًا فشيئًا.
ولكن خلف هذه النزعة التقدمية التكنولوجية والإعلانات المدهشة، حيث أن المعالجة المقترحة لـ "لعنة الموارد" غير فعالة في ظل ركود مؤشرات الأداء الاقتصادية الرئيسية. فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد بنسبة كبيرة بلغت 35 في المئة منذ عام 2000 – وهو، للمقارنة، ارتفع بنسبة 12 في المئة في السعودية، وبنسبة 25 في المئة الولايات المتحدة، وبنسبة 74 في المئة في سنغافورة. وفي عام 2019، اقتصر الناتج الفردي في الإمارات على 66 في المئة من نسبته في سنغافورة أو الولايات المتحدة، و57 في المئة فقط من نسبته في النرويج (بلد آخر غني بالوقود الأحفوري). ونتيجةً لأزمة الإنتاجية هذه، لا تزال الأجور الحقيقية فعليًا مجمّدة، ويصعب استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث توقفت نسبة صافي التدفقات الوافدة عند 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى 12 سنة، متراجعة عن ذروة عام 2004 البالغة 6.8 في المئة.
بالنتيجة، أصبح حاليًا واحدٌ من كل أربعة مكاتب في دبي شاغرًا، ومن المرجح أن تستمر أسعار العقارات بالانخفاض حتى عام 2022. كما أدى الاستثمار المفرط في البناء إلى مزاحمة القطاعات الأخرى وإنتاج مشاريع عديمة القيمة عالية التكلفة (ما يُعرف بـ"مشاريع الفيل الأبيض")، على غرار "مركز دبي التجاري العالمي" ومطار آل مكتوم الدولي الموجود فيه والمهجور بأغلبه، وسلسلة من مشاريع الجزر العملاقة المحكوم عليها بالفشل كنخلة جبل علي. أما في أبوظبي، فتم تعليق أعمال بناء متحف جوجنهايم لمدة عشر سنوات حتى الآن، في حين أن مدينة "مصدر" ذات الرؤية المستقبلية، والتي تمت الإشادة بها باعتبارها "المدينة الأكثر استدامة في العالم" في عام 2008، أصبحت اليوم مدينة أشباح غير مكتملة.
وبدلاً من تثبيت العرض على العقارات، سوف يسجّل العام 2021 رقمًا قياسيًا جديدًا في عدد الوحدات الجديدة المبنية، وسيتعاظم هذا التضخم مع مواقع إكسبو 2020 التي أعيد تصميمها. يضاف إلى ذلك أن دبي تضاعف الجهود في هذا الإطار مع خطتها "دبي الحضرية 2040". ومع أنها أكثر حذرًا من الأحلام السابقة التي لم تتحقق بإقامة مشاريع ضخمة لإعادة تأهيل الأراضي، مثل "جزيرة العالم" و"جزر الكون"، إلا أنها لا تزال تتوقع معدل نمو سنوي في المناطق الفندقية والسياحية بنسبة تناهز الخمسة في المئة (+ 134 في المئة بحلول عام 2040).
وصحيحٌ أن بعض التطورات يعود بفوائد اقتصادية لا جدل فيها، كالقيمة السياحية الكبيرة لبرج خليفة الذي يحتل النجومية في العديد من رموز دبي على إنستغرام، إلا أن السياحة، التي تعتبر من أهم القطاعات في المدينة، هي في حالة متردية منذ عام 2017. وجاء فيروس كورونا ليدمّر موسم السياحة سنة 2020، علمًا بأن قيود السفر العالمية ستستمر حتى عام 2021. والأسوأ من ذلك هو أن معرض إكسبو 2020 المؤجَّل لن يستقطب إلا جزءًا بسيطًا من الـ25 مليون زائر المنتظرين. وفي ضوء الأزمة المستمرة، قامت الحكومة بتمديد مدة التأشيرة السياحية من 30-90 يومًا إلى 5 سنوات وخففت القيود المتعلقة بالكحول للأجانب.
لكن خلف هذه الأزمات يلوح السؤال الأهم الآتي: هل من المناسب أن تكون السياحة هي الركيزة المحورية في اقتصاد متقدم وعالي الإنتاجية؟ حتى في ولاية فلوريدا التي تركز على السياحة، يشكل هذا القطاع نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي نصف نسبته في دبي البالغة 20 في المئة.
بالإضافة إلى ذلك، تلقي هذه الأزمة المستمرة بظلالها على سوق العمل. فالتأشيرات الذهبية تبدو أقل جاذبية من المنتظر. وفيما يصعب الحصول على أرقام موثوقة، من المستبعد جدًا أن يكون الهدف المنشود بمنح 6800 تأشيرة عام 2020 قد تحقق لأن جائحة كوفيد-19 أدت إلى ارتحال جماعي صاعق لمليون مغترب. إذًا فهذه السياسة لم تؤتِ ثمارها، وهذا أمر سيء بشكل خاص لأن استياء المواطنين منها آخذ في الازدياد. فالتمييز الواضح بين مكانة المواطنين الأصليين الدائمين ومكانة العمال الأجانب المؤقتين هو الشرط الضروري لقبول المجموعة الأولى بوجود هذا الكم الساحق من الأجانب. وإذا تخلت الحكومة عن هذا العقد الاجتماعي، ستخاطر بإثارة الانقسام والفتنة بين مواطنيها.
في الوقت نفسه، تعد قابلية توظيف السكان المحليين مشكلة سائدة ومعهودة في الاقتصادات القائمة على الموارد. فقد شجعت الثروة النفطية على اعتماد سياسات رعاية مكثفة ومنح الإماراتيين وظائف مريحة في القطاع العام، ما ضمن لهم مستوىً معيشيًا مريحًا. وبذلك قلّ لديهم التحفيز للاستثمار في مؤهلات أعلى، في حين تحتاج الشركات الخاصة إلى دفع أجور عالية لمنافسة تلك الفرص المتوفرة في القطاع العام.
وتحاول سياسات توطين الوظائف المعادية للمهاجرين أن تزيد من أهلية توظيف الإماراتيين عبر تنمية مهاراتهم وفرض نسبة عمالة إماراتية في القطاع الخاص. ولكن بالرغم من جهود التوطين هذه، لا تزال إنتاجية السكان المحليين وقابلية توظيفهم متدنّيتين بسبب الثغرة المستمرة في المهارات. وبالنتيجة، يؤدي التوطين إلى عرقلة الشركات الخاصة، التي غالبًا ما تلجأ إلى "التوظيف الوهمي" للإماراتيين وترتيبات التوظيف غير الرسمية للوافدين من أجل التحايل على شرط الحصة الإماراتية.
علاوةً على هذه المشاكل كلها، يخلق النظام الاتحادي الإماراتي منافسةً بين الإمارات المختلفة، ولا سيما الإمارتين الميسورتين أبوظبي ودبي، حيث تمتلك كل أسرة حاكمة شركة طيران، هي طيران الإمارات (دبي) والاتحاد (أبوظبي)، وهذا أكثر مما تحتاجه دولة بهذا الصغر. وعلى النحو نفسه، تخوض المنطقة الحرة المالية "سوق أبوظبي العالمي" منافسةً مباشرة مع المركز المصرفي الإقليمي الرائد "مركز دبي المالي العالمي"، وتصل المنافسة إلى حد الاستيلاء على المدير التنفيذي لمركز دبي. وسبق أن حدثت معركة مماثلة خسرت فيها "مدينة دبي الأكاديمية العالمية" السباق على الأسماء الجامعية المرموقة لصالح أبوظبي، التي ضمنت فروعًا لجامعة نيويورك والسوربون على أرضها. وكذلك تتنافس المدينتان على كسر الأرقام القياسية العالمية لإحداهما الأخرى: فقد كانت مدينة "آي إم جي عالم من المغامرات" في دبي أكبر مدينة ترفيهية داخلية في العالم إلى أن حلت محلها مدينة "وارنر براذرز أبوظبي" عام 2019.
نظرة إلى الأمام: مستقبل الخليج
على حد ما ذكرته في مقال آخر، لا تنحصر هذه المشاكل بدولة الإمارات – من الاستثمار المفرط في مشاريع البنية التحتية الضخمة المغرورة، والتفاؤل المفرط في القطاعات المتقلبة كالسياحة، إلى صعوبة الحفاظ على المواهب الأجنبية وتنمية رأس المال البشري المحلي، والمنافسة الإقليمية الشرسة. فدول الخليج غارقة في سباقات مكلفة مع بعضها البعض، بدءًا من التمويل والتجارة والمراكز التجارية، وصولاً إلى السياحة ورموز القوة الناعمة. فتراها تتنافس أكثر فأكثر على جانبَي العرض والطلب، حيث تتنازع الحكومات على حصة متناقصة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة والشركات المتعددة الجنسيات والطاقات العالمية الكبيرة، فيما تتنافس من جهة أخرى لبيع السلع والخدمات نفسها في الأسواق العالمية. في القطاع المصرفي مثلاً، يعتبر "مركز دبي المالي العالمي" هو الرائد في المنطقة، ولكنّ مدنًا أخرى تتحدى مكانته هذه مع دخول أبوظبي والدوحة والرياض والمنامة في المنافسة. وحريٌ بدول الخليج، عوضًا عن ملاحقة إحداها الأخرى في مشاريع عديمة الجدوى، أن تتّكل كل واحدة منها على المزايا الفريدة التي تستطيع تقديمها. وفي حالة دبي، يجدر بها الاستفادة من حقيقة أنها ما زالت المكان الأكثر استقطابًا للمهنيين الأجانب في المنطقة.
والأهم من ذلك هو أنه يتعين على دول مجلس التعاون الخليجي تحقيق تطلعاتها بإقامة قطاعات عالية التقنية. فقد كان مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ خطوةً ملفتة بهذا الشأن لأن المشروع حاول تعزيز المواهب المحلية وإلهامها، حيث أفادت التقارير أن 150 مهندسًا إماراتيًا عملوا على المسبار. في هذا الصدد، يشبه إلى حد كبير محطة الطاقة النووية في "براكة"، وهو مشروع آخر رفيع المستوى من المفترض أن يعزز رأس المال البشري المحلي والشركات عالية التقنية. ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان هذا سيعزز رأس المال البشري المحلي ومؤسسات التكنولوجيا الفائقة بشكل دائم. ومن المشكوك فيه أيضًا ما إذا كان قطاع الفضاء المحلي هو أفضل قطاع يمكن رعايته، بخلاف مثلاً قطاع أدوية محلي قادر على تطوير اللقاحات أو قطاع محلي للطاقات المتجددة يعمل على بطارية الجيل التالي.
حتى الآن، لم تنجح مهمة المريخ ولا أي مشروع آخر، بما في ذلك القطاع النووي الناشئ، في تعزيز "نظام تعليمي رفيع المستوى" ومحلي (وهذا أحد أهداف رؤية 2021). فتصنيفات أطفال المدراس في دول الخليج وفق "البرنامج الدولي لتقييم الطلبة" (PISA) و"الاتجاهات الدولية في دراسة الرياضيات والعلوم" (TIMSS) لا تزال في النصف الأسفل من جداول الترتيب، ولم تحلّ أي جامعة خليجية في المراتب المئتين العليا من تصنيف الجامعات العالمية لمجلة تايمز للتعليم العالي. والأسوأ من ذلك هو أن كثافة طلبات براءات الاختراع من المقيمين لا تمثل سوى واحد بالمائة تقريبًا من نسبتها في كوريا الجنوبية التي تعتبر مركزًا محوريًا للبحث والتطوير. لذلك ثمة حاجة إلى استثمارات ضخمة ومستمرة في التعليم، من مرحلة الروضة حتى الجامعة، من أجل سد هذه الثغرة، إضافةً إلى توفير التمويل الشامل لأعمال البحث والتطوير، وهو أمر – باعتراف الجميع - يولّد عدد هاشتاغات أقل من صور ملتقطة من الكوكب الأحمر.
لكن في الحقيقة، حتى لو نجح الخليج في تحقيق اقتصادات عالية الإنتاجية، سيكون من الصعب جدًا توليد المستوى نفسه من الإيرادات، وبمستوى المجهود نفسه، التي يولدها الوقود الأحفوري حاليًا. وصحيحٌ أن وظائف القطاع العام المريحة ستصبح غير مقبولة أكثر فأكثر، ولكن إذا كان الازدهار ما بعد النفط ممكنًا، فالمنطقة بحاجة إلى دفعٍ كبير في الإنتاجية، مع تحول جوهري من الذهنية الريعية إلى العمل الشاق وبمؤهلات عالية - في المدرسة كما في العمل.
ولا بد أيضًا أن تتغير المواقف الريعية تجاه الرعاية الاجتماعية والضرائب. فمع انخفاض الإيرادات الحكومية من الموارد الأحفورية، بدأت إجراءات التقشف بالتضييق على برامج الرعاية الاجتماعية للمواطنين: في الماضي، كان من الممكن منح المواطنين الشباب (الذكور) منزلًا جديدًا مجانيًا لتأسيس عائلة. أما اليوم، فلن يحصلوا إلا على قطعة الأرض وقرضٍ بدون فوائد للمنزل. وحتى مع انخفاض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، قد تكون المسألة مسألة وقت قبل أن تحذو الإمارات حذو السعودية في زيادة ضريبة القيمة المضافة إلى 15 في المئة.
إذًا هذه هي مشكلة الإمارات، حيث فشلت الرؤية في معالجة لعنة الموارد وأزمة الإنتاجية التي تلت ذلك. جميعها خططٌ تبدأ من الأعلى إلى الأسفل، مفرطة في طموحها، تُنتج مشاريع مغرورة ومتروكة، وسياسات عمومية هادفة إلى تصدّر العناوين تؤجج المنافسات الإقليمية التي لا طائل منها. وتحت وطأة الضغوط المالية المتزايدة، تقوم الحكومة بالحد من خدمات الرعاية الاجتماعية وزيادة العبء الضريبي، متحديةً الذهنية الريعية المستمرة منذ فترة طويلة في عقول مواطنيها، بينما تزيد نفورهم مع التأشيرات الذهبية وجوازات السفر وغيرها من المبادرات تجاه الأجانب الذين يشكلون أغلبية ساحقة في البلاد.
إن الإمارات العربية المتحدة بحاجة، بدلاً من ذلك، إلى التركيز على مزاياها التنافسية الوطنية وتجنب السياسات غير الفعالة والمنافسات الضروسة. والأهم من ذلك هو أنها تحتاج إلى إعادة توجيه الإنفاق بشكل كبير نحو البحث والتطوير، وإصلاح أنظمة التعليم والمؤسسات السياسية بشكل معمق، وتنمية ذهنية منفتحة من الإبداع وحب الاستطلاع والمبادرة والتفكير الناقد.