- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الرؤى الخليجية المتعثرة: رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030
تُكرر رؤية السعودية 2030 أخطاء قديمة تتمثل في الاعتماد الشديد على المشروعات الضخمة وتجاهل المزايا الإقليمية في مساحات البحث والتعليم.
عندما قدّم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان تحديثًا لرؤية 2030 في مقابلة أجراها أواخر نيسان/أبريل، لم يُبدِ التفاؤل نفسه الذي أظهره عند كشف النقاب عنها قبل خمس سنوات. وهذا لا يفاجئ أي شخص مطلّع على رؤى دول الخليج. فـ"رؤية 2030" ليست المسعى الأول للمملكة على صعيد الانتقال الاقتصادي، كما أنها ليست فريدة من نوعها بأي شكل من الأشكال في المنطقة. فقد وضعت كل دولة من الدول الأعضاء في "مجلس التعاون الخليجي" خطة لإخراج الاقتصاد من النموذج الريعي القائم على ثروة الوقود الأحفوري التي تختزنها.
وكمثال توضيحي، تقدم "رؤية 2030" دراسة حالة لديناميكيات ونقاط ضعف الرؤى في الخليج. ففي حين أنها ملفتة ظاهريًا، إلا أنها لا تحقق الكثير من النتائج الاقتصادية الملموسة حيث أن الإنتاجية في دول الخليج تتراجع في وقت تزداد فيه البطالة والعجز الحكومي. وفي حال أرادت المنطقة ترسيخ موطئ قدم ثابت لها في عالم ما بعد النفط، عليها التخلي عن مساعيها الفارغة لتنفيذ مشاريع ضخمة ونفقاتها العسكرية الهائلة وعن تركيزها على قطاعات منخفضة الإنتاجية وكثيرة التقلبات كالسياحة. وبدلًا من ذلك، يجدر بها الاستفادة من ميزتها التنافسية الإقليمية في مجال التعليم العالي والبحوث.
وحاليًا تنتشر "الرؤى" في دول "مجلس التعاون الخليجي": فقد وضعت الإمارات "رؤية 2021"، والبحرين وقطر" الرؤية الوطنية 2030"، والكويت "رؤية 2035"، وعُمان "رؤية 2040". وتجمع رؤية السعودية سمات كافة الرؤى الأخرى الخاصة بالتخطيط الاقتصادي والسياسة الصناعية وسياسة العمل. وتتمثل أهدافها بتنويع الاقتصاد مع التركيز على التجارة، و"توفير الرعاية الصحية بمستوى عالمي" من أجل "تجهيز الشباب بالمهارات اللازمة لوظائف المستقبل"، وضمان بيئة مؤاتية للأعمال لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة ورواد الأعمال. وعلى غرار الرؤى الأخرى، تخطط للتنوع من خلال السياحة والصناعات العالية التقنية، متناولةً مواضيع مهمة ومعاصرة بدءًا بالذكاء الاصطناعي مرورًا بالعملات الرقمية ووصولًا إلى التغيير المناخي، وكل ذلك بهدف ضمان الاستدامة والمحافظة على البيئة. وكما سنرى لاحقًا، لا تتشارك "رؤية السعودية" أهداف وسياسات الرؤى الأخرى فحسب، بل تواجه أيضًا المشاكل الناتجة نفسها، إنما على نطاق أوسع.
وفي إطار الرؤى التقليدية الجيدة، تشكل الإعلانات المذهلة الخاصة بالبنية التحتية صلب البرنامج. ومن أبرز هذه المشاريع الضخمة نذكر مدينة "نيوم" وهي مدينة هائلة مخطط لها أكبر من دولة الكويت، تتمتع بمنطقة اقتصادية خاصة من المفترض أن تركّز على مجالات التكنولوجيا الحيوية وعلم الروبوتات والطاقة الخضراء. وتشمل الخطة أيضًا "ذا لاين" وهي مدينة تمتد على طول 170 كلم ضمن مدينة "نيوم" وتستوعب مليون ساكن.
لكن من غير المفاجئ أن نشهد تحوّل "نيوم" بسرعة إلى مدينة زائلة، تمامًا على غرار العديد من المشايع الضخمة الأخرى. فتاريخ السعودية، كخصومها الإقليميين، حافل بالمشاريع الضخمة غير المكتملة التي لم تكن سوى مصدر لهدر استثمارات في البنية التحتية تقدّر بالمليارات: نذكر مثلًا "برنامج المدن الاقتصادية" لعام 2006 الذي سبق الرؤية الحالية والذي كان من المزمع أن يضم 4.5 مليون ساكن بحلول 2020، وأن يساهم في تنويع الاقتصاد. لكن مشاريع البرنامج توقفت واليوم لا يقيم في أهم مشروع ضمن البرنامج، وهو "مدينة الملك عبدالله الاقتصادية"، سوى 4 آلاف ساكن.
وهذا الفشل هو نوعًا ما نتاج التخطيط التنازلي المعتاد المفرط التفاؤل مع ميل إلى الحيل الدعائية – حيث كان من المفترض أن تضم "نيوم" سيارات أجرة طائرة وقمرًا اصطناعيًا. لكن في حالة السعودية، تفاقم الاضطرابات السياسية من الضبابية السائدة: فقد وجهت جريمة قتل الصحافي في صحيفة "واشنطن بوست" جمال خاشقجي وتهجير قبيلة بدوية لتنفيذ المشروع صفعة قاسية إلى "نيوم". وعلى نحو مماثل، توقف العمل في أطول ناطحة سحاب - برج جدة – منذ أربع سنوات بعدما قام محمد بن سلمان بسجن رجال أعمال رئيسيين ينفذون المشروع في إطار حملة التطهير لـ"مكافحة الفساد".
وناهيك عن هذه الفضائح، يخشى المستثمرون الأجانب أيضًا المناخ المحافظ السائد في البلاد الذي، ورغم الإصلاحات التي أجريت حديثًا، يبقى الأكثر تشددًا في المنطقة. فعلى سبيل المثال، لا تزال ناطحات السحاب في "مركز الملك عبدالله المالي" – الموازي لـ"مركز دبي المالي العالمي" – خالية بمعظمها، ويعزى ذلك جزئيًا إلى أن الرياض لا تجذب الغربيين. ويقال إن الحكومة السعودية ستسمح بتناول الكحول لمعالجة المشكلة من أجل جذب المصرفيين الأجانب. يُذكر أن المملكة أجازت مؤخرًا فتح دور للسينما وسمحت بالاحتفال بعيد الحب.
ومحرمات مماثلة تشلّ بدورها قطاع السياحة في البلاد. فرحلات الحج الديني لا تزال تهيمن على هذا القطاع، وترغب المملكة بالاستفادة من ذلك من خلال الجمع بين الحج وقضاء عطلة. ومنذ العام 2019، تمنح الحكومة تأشيرات دخول إلى السياح "العلمانيين" وأعلنت عن خطط كبيرة لإنشاء منتجعات فخمة للغاية مثل "أمالا"، وهو مشروع آخر ضمن "رؤية 2030". وستكون هذه المناطق السياحية، التي تتضمن مطارات منفصلة، بعيدة بشكل ملائم عن أنظار السعوديين بحيث تسري فيها أنظمة اجتماعية متساهلة في ما يتعلق بالاختلاط بين الجنسين، والملابس، والترفيه، والكحول. غير أن الإصلاح الاجتماعي التجريبي والانتقائي يضع الحكومة السعودية بين خيارين أحلاهما مرّ، بما أن مواصلة كسر التقاليد أو اعتماد حلّ بلد واحد بنظامين، ستثير حتمًا غضب الشرائح المحافظة من السكان واستياءهم وتحدث شرخًا في المجتمع.
وكانت التقاليد المحافظة صعّبت بدورها عملية جذب القوى العاملة الأجنبية الضرورية لتحول المملكة الاقتصادي. وتحاول الحكومة توفير شروط أفضل لجذب واستبقاء العمال الأجانب. وفي هذا الصدد، قامت الحكومة مؤخرًا بتخفيف بعض الموجبات التعاقدية ضمن نظام الكفالة الذي تعتمده والذي يمنع العمال المهاجرين من فتح حسابات مصرفية أو تغيير عملهم أو مغادرة المملكة من دون إذن من الكفيل، من جملة أمور أخرى. وفي الوقت نفسه، لم تسهم سياسات التوطين (التي تسمى محليًا بـ"السعودة" أو برنامج "نطاقات") في كبح "فورة الشباب" – حيث أن 67 في المائة من الشعب هو دون الـ35 عامًا ويبلغ معدل البطالة في أوساط الشباب 29 في المائة.
وناهيك عن المشاكل المحلية، تواجه السعودية منافسة اقتصادية شرسة في "مجلس التعاون الخليجي"، بما في ذلك ضمن مجالات على غرار المشاريع الضخمة والمالية والسياحة؛ علمًا بأن الإمارات العربية المتحدة هي المنافس الرئيسي لها. وكما جاء أعلاه، تحاول الرياض أن تحلّ محل دبي كالمركز المالي في المنطقة. ومن الأمثلة الواضحة الأخرى هو "برج جدة" في السعودية الذي تسعى المملكة من خلاله إلى تخطي "برج خليفة" كأطول مبنى في العالم. وسرعان ما أعقب انطلاق أعمال البناء في جدة العمل على "برج خور دبي"، وهو مشروع سري لم يُكشف عن ارتفاعه النهائي بعد ويتميز بصغر المساحات الصالحة للاستعمال. وتمّ وقف العمل على "برج خور دبي" بعد فترة قصيرة من انطلاق أعمال بناء "برج جدة" ويبدو أن الغرض الوحيد منه هو أن يكون الميزة الخفية للإمارة بغية حرمان جدة من سعيها إلى تحقيق رقم قياسي عالمي والاحتفاظ بلقب "أطول برج في العالم" لدبي.
ومن الفصول الأخرى في مسلسل المنافسة هذا هو التصعيد الأحدث المتمثل بإعلان جديد صادر عن السعودية يقضي بحصر العقود الحكومية بشركات يقع مقرها الرئيسي في الرياض أو الدمام أو جدّة – وما يثير الاهتمام أنه لم يؤتَ على ذكر أي من "نيوم" أو "مدينة الملك عبدالله الاقتصادية". ويعتبر المعلقون هذه الخطوة بمثابة مسعى متشدد أو حتى يائس لحض الشركات على نقل مقرات عملها من الإمارات إلى المملكة.
ويبقى أن نترقب ما إذا كانت هذه الضربة الأحدث ستتبلور على أرض الواقع، غير أنها تمثل مشكلة أخرى تتأصل في المنطقة. فغالبًا ما يشير علماء الاقتصاد إلى هذه المشكلة بعدم اليقين المؤسسي أو تقلب السياسة، التي تتسم بالتصريحات الحكومية الفجائية والمبهمة غير المدعومة بسياسات فعلية. ومتى وُجدت السياسات، يكون تطبيقها وتنفيذها غير نظامي وغالبًا ما يعتمد على الواسطة (العلاقات والمحاباة). يُذكر أن غياب الشفافية والاتساق لا يستقطب الشركات الدولية ويشكّل سببًا أساسيًا وراء رواج المناطق الاقتصادية الخاصة في المنطقة: فهي توفر ملاذًا قانونيًا وقضائيًا للشركات الأجنبية من عدم اليقين المؤسسي.
تجدر الملاحظة أن المشاكل والمنافسات المذكورة أعلاه ليست حكرًا على السعودية إطلاقًا. فثمة مشاريع ضخمة متوقفة في الكويت على سبيل المثال كـ"مدينة الحرير"، وهو مشروع ضخم خامل عبارة عن ناطحة سحاب يبلغ ارتفاعها 1001 م وجسر يمتد على 36 كلم؛ وبين قطر والبحرين من خلال "جسر المحبة"، وهو خطة غير مكتملة لممر بطول 40 كلم. وإلى جانب مشاريع المباني المرتفعة والجسور الطويلة، تنتشر في دول "مجلس التعاون الخليجي" فعاليات ومؤسسات قوة ناعمة كبيرة تحتل العناوين، تكون استضافتها هواية الحكام المفضلة في المنطقة. وتشمل الأمثلة أحداثًا رياضية عالمية، وحُرم جامعات دولية ومتاحف مصممة من قبل أشهر المهندسين.
وليست المنافسة الإقليمية سوى البداية. فبالانتقال من الوقود الأحفوري إلى التكنولوجيا المتقدمة، سيتحول الخليج من قوة كبيرة في مجال صغير إلى قوة صغيرة في مجال كبير: فسيتعين على دول "مجلس التعاون الخليجي" أن تقف في وجه منافسين عالميين على غرار كوريا الجنوبية ذات إجمالي الناتج المحلي وعدد السكان نفسهما تقريبًا، و14 شركة ضمن "فورتشن غلوبال 500" – بما فيها الرائدتان في عالم التكنولوجيا "سامسونغ" و"أل جي"، والشركتان العملاقتان في عالم السيارات "هيونداي" و"كيا". في الموازاة، ثمة في الخليج شركة واحدة في تلك القائمة وهي "أرامكو السعودية"، شركة النفط المملوكة للدولة.
وإذ تتطلع إلى أن تكون ساحة مفتوحة إقليميًا وعالميًا، تستعين حكومات الدول الخليجية بالأموال النفطية الطائلة. وفي هذا السياق، تُعتبر السعودية المسرف الأكبر، مع الإعلان عن برنامج استثماري آخر بقيمة 1.3 تريليون دولار لغاية 2030. لكن المال لا يكفي إن انتهى المطاف بإنفاقه على السياسات الفاشلة القديمة نفسها. ويجب أن تستفيد كل دولة خليجية من عرض البيع الفريد الخاص بها. وقد يعني ذلك السياحة الطبيعية والثقافية في عُمان أو المنتجات المالية المتخصصة على غرار الصيرفة الإسلامية والتكافل في البحرين. كما تضمّ السعودية أرقى الجامعات في المنطقة على غرار "جامعة الملك عبد العزيز" في جدة و"جامعة الملك فهد" في ظهران. ويُعتبر ذلك فرصة كبيرة لاقتصاد فعلي قائم على المعرفة إذا ما عالجت الحكومة المشكلتين الرئيسيتين اللتين تعيقان التعليم العالي والعلوم والبحوث في المنطقة. فعليها مثلًا زيادة التمويل من خلال إعادة تخصيص الأموال من الميزانية العسكرية السعودية الضخمة، التي تستحوذ على 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. ويتعين عليها كذلك المباشرة بإصلاح تعليمي حقيقي، وبخاصة تعزيز الحرية الأكاديمية.
إلا أن المكوّن الأهم للازدهار يبقى الحكم الجيد والمؤسسات الجيدة. وطالما أن المنطقة تعاني نقصًا في الشفافية والاتساق في سياساتها، فالأمل في إحراز تقدّم دائم ضئيل. ولا بدّ من أن تأخذ دول "مجلس التعاون الخليجي" الإصلاح المؤسسي على محمل الجدّ من خلال "تشكيل حكومة فعالة وشفافة ومسؤولة تقدّم أداء عاليًا". وإذا ما تمّ تنفيذ هذه الإصلاحات بجدية، لن تقتصر آثارها على استقطاب الشركات الأجنبية فحسب. فرفع الضريبة على القيمة المضافة في السعودية من 5 في المائة إلى 15 في المائة العام الماضي لن يمثل الزيادة الضريبية الأخيرة. وعلى الرغم من أن محمد بن سلمان قد وعد بأنه سيتراجع ولن يتم فرض ضرائب على الدخل ومنح المواطنين إصلاحًا مؤسسيًا في المقابل أن يجعلهم يتقبلون بشكل أكبر الضرائب وإجراءات التقشف المريرة.
ولم يخطئ محمد بن سلمان حين قال إن الخليج يجب أن يسعى جاهدًا ليكون "أوروبا الجديدة". فالنرويج على سبيل المثال، هي من بين الدول القليلة التي تتصدى للمرض الهولندي، حيث تسجل أحد أعلى مستويات إجمالي ناتج محلي للفرد الواحد ومعايير الرفاه في العالم. ولكن إن أرادت السعودية تجنّب كارثة، يجب أن تكون مقابلة محمد بن سلمان المقبلة مختلفة: بدلًا من الإنفاق على مشاريع ضخمة قائمة على التباهي قد لا تتحقق وعلى الجيش في وجه قيود مالية متنامية وسباق إقليمي عديم الجدوى، لا بدّ من تحويل مسار التركيز باتجاه الميزة التنافسية للمملكة، ألا وهي التعليم والبحوث. ويتعين اكتساب ثقة الشركات الدولية من جديد من خلال تقليص عدم اليقين المؤسسي والسياسي، وتعزيز الشفافية والمساءلة. ويبقى التحدي الأكبر متمثلًا في التخفيف من القواعد الاجتماعية المتحفظة للغاية من دون تنفير المواطنين.